الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
النبي -صلى الله عليه وسلم- أبٌ حانٍ لفئات الناس -صغيرِهم وكبيرِهم، ذكرِهم وأنثاهُم، صحيحِهم ومريضِهم، غنيهِم وفقيرِهم-، ويتمثل ذلك في مجيئ هذه المرأة للنبي -صلى الله عليه وسلم- تشكو اعتلال صحتها مدركةً أنها ستجد قولاً سديدًا يكشف ما أهمها، ويزيل ما أغمها...
الخطبة الأولى:
جاء في الحديث الصحيح أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لعطاء بن أبي رباح: "ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها"، ولنا في هذا الحديث وقفات:
أولاها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبٌ حانٍ لفئات الناس -صغيرِهم وكبيرِهم، ذكرِهم وأنثاهُم، صحيحِهم ومريضِهم، غنيهِم وفقيرِهم-، ويتمثل ذلك في مجيئ هذه المرأة للنبي -صلى الله عليه وسلم- تشكو اعتلال صحتها مدركةً أنها ستجد قولاً سديدًا يكشف ما أهمها، ويزيل ما أغمها.
ثاني هذه الوقفات: أن ما يصيب المسلم من آلامٍ ومصائبَ مدّخرةٌ أجورها له في الآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- قال: إذا ابتَليتُ عبدي بحبيبتَيه، فصبَر، عوَّضته منهما الجنة" يريد -عينيه-(رواه البخاري)، وهي كفارةٌ له، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المؤمنَ من شوكة فما فوقها، إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة"(رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مؤمن ولا مؤمنة ولا مسلم ولا مسلمة يمرض مرضًا إلا قضى الله عنه من خطاياه"(رواه البخاري في الأدب المفرد).
بل وحتى ما يحب المرء من قريب، أو صديق، ثم فقده فصبر، كان له جزاءٌ وافرٌ مدخر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ من أهل الدُّنيا، ثم احتسبه إلاَّ الجنَّة"(رواه البخاري).
ثالثها: أن الصرع نوعان: نوع ناتج من الأخلاط الرديئة -كما ذكرها ابن القيم رحمه الله- وهذه يتكلم عنها الأطباء في علاجه وأسبابه. ونوع ناتج من الأرواح الخبيثة، وهو ناتج عن إيذاء الجن، وعلاجه يكون في صدق التوجه إلى الله، والقيامِ بالأوراد والأدعية الشرعية، وقد ذُكِر عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه كان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].
ومن هذه الوقفات: محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المرأة، ولجميع أُمته، وذلك في تخييرها بين أمرين كليهما حَسَن، الصبر على المرض ولها الجنة، أو الدعاء بأن يعافيها من مرضها، والأمثلة في محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته كثيرة كما في حديث الشفاعة عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رب! أمتي أمتي"، وقد بوَّب الإمامُ مسلمٌ "بابُ دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته وبكائِه شفقة عليهم".
ومن الوقفات أيضًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد لهذه المرأة بالجنة، والشهادة بالجنة نوعان: شهادة شخص، كمن شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة بأشخاصهم كالعشرة، وعبد الله بن سلام، وسعد بن معاذ، وعُكَّاشةَ بنِ مِحْصن، وغيرِهم -رضي الله عنهم-.
وشهادة وصف: فنشهد لكل مؤمنٍ، مُتقٍ، دون تعيين، كما ذكر الله ذلك في كتابه فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عِمرَان: 133].
ومذهب أهل السنة والجماعة في الشهادة بالجنة: أنهم لا يشهدون لأحد بجنةٍ أو نار إلا من شهد له النص بذلك، ونقول كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "من فعل كذا دخل الجنة، ومن فعل كذا دخل النار"، لا نجزم لمُعين، لكن يُرجى للمحسن، ويُخاف على المسيء.
وفقنا الله لطاعته، وجنبنا معاصيه
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
ومن الوقفات في هذا الحديث المبارك: أن هذه المرأة وهي أم زُفَرَ -رضي الله عنها- طلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوَ لها أن لا تتكشفَ في حال ذهاب عقلها حفاظًا على سترها وعفافها، ولذا ذُكر عنها أنها -رضي الله عنها- كانت تتعلق بأستار الكعبة إذا خشيت أن يأتيها الصرع.
وهذه نموذج للمسلمات في الستر، وقد أمر الله نساء العالمين أن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ)[الأحزَاب: 59]، وقال -سبحانه-: (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ)[النُّور: 31]، الآية، بل حتى الزينة التي لا ترى لكن يُخشى منها أن يُفتن السامع قال -عز وجل- فيها: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)[النُّور: 31].
والمسلمة مملكتها في بيتها، رعايةً، وتربيةً، بأمر الله لها بالقرار في بيتها، ولا يكون خروجها إلا لحاجة قال -سبحانه-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)[الأحزَاب: 33].
والمرأة لؤلؤة مكنونة، وجوهرة مصونة، فإذا ظهرت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استشرفها الشيطان، وإنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في قعر بيتها"(رواه ابن خزيمة)، ومعنى استشرفها الشيطان: أي رفع البصر إليها ليُغويَها، أو يُغويَ بها.
ومن الوقفات: أن الصبر جزاؤه وافر، قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزُّمَر: 10]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا"(رواه الإمام أحمد).
وإذا أحب الله قومًا ابتلاهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جَزِع فله الجزع"(رواه أحمد).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "في هذه الأحاديث بشارةٌ عظيمةٌ لكل مؤمن، لأن الآدمي لا ينفك غالبًا من ألم، بسبب مرض، أو همّ، أو نحو ذلك، وأن الأمراض والأوجاع والآلام -بدنية كانت، أو قلبية- تكفر ذنوب من تقع له".
وساق -رحمه الله- حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتّ الله عنه خطاياه، كما تحات ورق الشجر"(متفق عليه)، وظاهره تعميمُ جميعِ الذنوب، والجمهور خصوا ذلك بالصغائر.
وليس للمسلم إلا الصبر والمصابرة، فإن الله -سبحانه- رحيم بالمؤمنين، ولطيف بعباده، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له"(رواه مسلم).
شفى الله مرضانا، ورحم موتانا.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.