المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عمر السحيباني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إنَّنا محتاجون دائماً لحسن الظن بربنا في تجاوزه عن أخطائنا وسعة رحمته لذنوبنا، وفي ختام كل عمل صالح يلهج المسلم بطلب المغفرة؛ فها هو بعد كل صلاة يقول ثلاث مرات: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، وها هو يختم بالاستغفار صلاة الليل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله....
أمّا بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله فإن تقواه أربح بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه.
أيها المسلمون، في الأيام القليلة الخالية قضى المسلمون في أقطار العالم عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أجل القربات، صاموا شهر رمضان وقاموا ليله مؤمنين محتسبين في أجواء يغمرها الفرح بفضل الله وبرحمته، (قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
إنَّ نعمة الله على العبد بالتوفيق للعمل الصالح نعمة عظيمة، وأعظم منها نعمة القبول، فالمقبولون هم المتقون (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]؛ فهنيئًا للصائمين القائمين المجتهدين المقبولين، هنيئاً لهم حرصهم على الخير ورغبتهم في مواصلة صيامهم حين يصومون ستاً من شوال، هنيئاً لهم حرصهم على الوتر في كل ليلة، هنيئاً لهم حين يتلون كتاب الله في كل وقت ويرجون تجارة لن تبور.
إن من يعود بعد رمضان للعمل الصالح هو -حقًا- من استفاد من رمضان وأسراره ودروسه وآثاره؛ أما من عاد بعد رمضان لهجر المساجد وتضييع الصلوات، والولوغ في المحرمات والموبقات فما -والله- استفاد من رمضان، بل حاله كحال ذاك الشقي حين قال:
رمضان ولى هاتها يا ساقي | مشتاقةً تسعى إلى مشتاق |
وهذا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؛ ألم يعلم بأن حياة المسلم كلها صيام عن المحرمات والمنهيات
أَنـتَ فِي دَارِ شَـتَـاتٍ | فَتَأَهَّـبْ لِشَتَاتِـكْ |
وَاجعَـلِ الدُّنيَـا كَيـَومٍ | صُمتَهُ عَن شَهَوَاتِكْ |
وَلْيَكُـنْ فِطرُكَ عِنـدَ الله | فِي يَـومِ وَفَاتِـكْ |
أيها الإخوة: إنَّنا محتاجون -دائماً- لحسن الظن بربنا في تجاوزه عن أخطائنا وسعة رحمته لذنوبنا، وفي ختام كل عمل صالح يلهج المسلم بطلب المغفرة؛ فها هو بعد كل صلاة يقول -ثلاث مرات-: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، وها هو يختم بالاستغفار صلاة الليل (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18]، وبعد الحج شرع الله لعباده الاستغفار (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199]؛ فالاستغفار بعد الفراغ من العبادة كفارة لما يقع فيها من خلل أو تقصير؛ لأن العبد عرضة للنقص والتقصير.
فالاستغفار إقرار لله -جل وعلا- بالقلب قبل اللسان بأن الله سبحانه هو الإله المعبود، وأنه وحده أهل المغفرة، وفي الاستغفار رجاء لله والتجاء إليه سبحانه وإقرار بالذّنب والتقصير، ورغبة في المغفرة.
الاستغفار توفيق لرحمة الله (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النمل:46]، قال الحسن: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقاتكم وأسواقكم وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزِل الرحمة"، وقد كان رسولنا يقول: "والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليومِ أكثرَ من سبعين مرّة"؛ (رواه البخاري)، ويقول: "إنّه لَيُغَان على قلبي –أي: يُغطَّى-، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"؛ (رواه مسلم).
الاستغفار مطلوب في كل وقت في السر والجهار والليل والنهار (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر:55]، وفي سنن ابن ماجه بسند جيّد قال: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرًا"، وعند الطبرانيّ والبيهقي بسند لا بأس به أنَّ النبي قال: "من أحبَّ أن تسرَّه صحيفته فليكثِر من الاستغفار".
الاستغفار يجلِب راحة البال وانشراحَ الصدر وسكينة النفس وطمأنينة القلب (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:3].
الاستغفار سبب لدفع الرزايا والبلايا وسبيلٌ لرفع الكوارث والمصائِب؛ و"من لزِم الاستغفارَ جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجًا ومِن كل ضيق مخرجا"، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].
الاستغفارِ يجلب القوّةَ بمختلف صوَرِها، ويعين على أمور الدين والدنيا (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هُودٍ:52].
جاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله- يشكو إليه الجدب؛ أي: القحط، فقال: عليكم بالاستغفار، ثم جاءه آخرُ يشكو الفقرَ فقال: عليكَ بالاستغفار، ثم جاءَه آخَر يشكو قلَّةَ الولَد فقال: عليك بالاستغفار؛ مستنبطاً ذلك من قول الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارً) [نوح:9-12].
الاستغفار الصادق يستلزم صّدقَ التوبة، واستحضارِ النّدَم وعدَم الإصرار على المعصية؛ فربنا -جل وعلا- يقول: (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135]، قال الفضيل بن عياض: "استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين".
وأخيراً فالاستغفار سببٌ لمغفرة الذنوب ونَيل أعظمِ مطلوب، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110]، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:135-136].
الخطبة الثانية:
روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مات -عليه الصلاة والسلام- وظهره إلى صدري وسمعته يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى"، فها هو أشرف الخلق وأكرمهم على الله من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يختم حياته بالاستغفار؛ مبيّنا للمسلمين مكانة الاستغفار وحاجتهم إليه في كل وقت، خاصة في نهاية كل عمل وطاعة، وعند كل خطأ أو مخالفة.