العربية
المؤلف | د عبدالله بن محمد حفني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
زرت في صبيحة هذا اليوم قبر أمي. أتذكر صَبْرها وحُبّها وعطاءها وإحسانها، أتذكّر تفريطي وتقصيري وعقوقي، فترحّمت عليها ودعوت لها بصوت يرتجف، ودموع لم تتوقف، وحسرة على فراقها، فسكبت العبرات ورفعت...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ نحمده ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شرك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونبينا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران ١٠٢].
زرت في صبيحة هذا اليوم قبر أمي. أتذكر صَبْرها وحُبّها وعطاءها وإحسانها، أتذكّر تفريطي وتقصيري وعقوقي، فترحّمت عليها ودعوت لها بصوت يرتجف، ودموع لم تتوقف، وحسرة على فراقها، فسكبت العبرات ورفعت الدعوات، وسألت الله -تعالى- أن يجزيها عني خير ما جزى أُمًّا عن ابنها؛ لأنني والله اشتقت إليها.
إي والله.. وقفت عند قبرها مناجيًا ربي الرحيم الرحمن أن يُفْسِح لها في قبرها مدّ بصرها، وأن ينوّر قبرها، فقد كانت أنيسةَ دنيتي وخليلتي.
اشتقت والله لتقبيل يديها ورأسها، والله لا زلتُ أذكر اليوم الذي استيقظت على فاجعة فَقْدها.
ما أقسى الحياة بلا أم!، كلامها لا يغيب عن سمعي، خمسة وعشرون عامًا على فراقها، ووالله وكنت ولا زلت أعيش ثمرة برّها وإحسانها ودعائها وعطائها، ذكرياتها هنا وهناك ولكن هيهات هيهات.
والله يا قوم ما جئت اليوم أخاطب عواطفكم، وأسكب دمعاتكم، ولكني جئت مذكرًا قبل الفوات والندم؛ جئت أذكّر كلّ مَن يتمتع بأُمّه على قَيْد الحياة أن يسارع الخطى ويغتنم أنفاس حياتها في إكرامها والإحسان إليها، فأصعب ما في الحياة فَقْد الأم، ويقين الإنسان أنه لن يرى صورتها، ولن يسمع صوتها بعد فَقْدها في هذه الدنيا أبدًا.
والله يا كرام! إن أعظم الفقد فقد الأم، وأعظم المصائب رحيل الأم، يوم يغدو أحدكم إلى بيته، وقد فَقَد مَن كانت تملأ الدنيا بدعائها وإحسانها وحنانها وعطائها.
فَقْد الأم والله مصاب شديد لا يعلم بقسوته إلّا من عاش لحظة فقدانه، فالله سمى الموت مصيبة فقال: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)[المائدة ١٠٦]؛ فأيّ مُصاب بالله أعظم من المصاب بفقد الأم؟
أيها الابن: إذا فقدت أمك فقد فقدت سهمًا من سهام الليل، وبابًا من أبواب الجنة.
أيها الابن: إذا ماتت أمك مات أغلى وأرحم إنسان عرفته في حياتك.
والله يا بني: لقد أدركنا حقًّا بعد موت الأم لماذا وضع الله مفتاح الجنة تحت أقدامها؟
أيها الأبناء .. أدركوا الآباء والأمهات.
أيها الأبناء: اتقوا الله في أمهاتكم وآبائكم، بادروا قبل أن يعضّ الواحد منكم أصابع الندم.
جاء رَجُلٌ لابن عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- فقال : إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي، وَخَطَبَهَا غَيْرِي، فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ. فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ. أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
عجيبٌ والله رجلٌ يقتل نفساً ظلماً وعدواناً ثم يستفتي العالم الحبر البحر ابن عباس فيقول هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟
وإذا بابن عباس -رضي الله عنه- يسأله بسؤال عجيب فيقول: "أُمُّكَ حَيَّةٌ؟" الله أكبر، فقَالَ الرجل متعجبًا من سؤال بن عباس -رضي الله عنه-: ماتت أمي؛ فقَالَ ابن عباس -رضي الله عنه-: "تُبْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ".
قال عطاء فَذَهَب الرجل فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لماذا سألته عن حياة أمّه؟ فجاء الجواب الحكيم الأليم: فَقَالَ ابن عباس - رضي الله عنه -: "إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ"(صححه الألباني في الأدب المفرد 1/15)
بالله كيف لا يبكي من فقد أمه؟
أخبروني بالله كيف لا يتحسر مَن فقد أمه وقد أغلق دونه هذا الباب؟
أجيبوا يا كرام كيف لا يندم من فقد أمّه وقد خسـر هذا الباب العظيم من أبواب الخير والجنان.
أيها المتمكن من البر اليوم.
أيها المتمتع بحياة أمه وأبيه اليوم ضاعف برّك وزد في إحسانك، ومتع بصـرك بوالديك قبل أن يغلق الباب.
رطّب سمعك بسماع صوت أمك، اجلس معهما، تودّد إليهما، اخفض لهما جناح الذل من الرحمة، أحسن إليهما، آثرهما على كل جليس، أنفق عليهما، لا تمنن تستكثر.
تذكر وصية الله لك: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان ١٤].
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ"(متفق عليه).
والله إن هذا الحديث لا يحتاج لمثلي أن يُعلّق عليه، كفى والله شرفاً وفخراً أن الله يذكر العبد إذا ذكره .
والقاعدة أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مَنْ ذِكْرِهِ:
وَأَكثِر ذِكرَهُ في الأَرضِ دَأباً | لِتُذْكَرَ في السَماءِ إِذا ذَكَرتا |
جَمَعتُ لَكَ النَصائِحَ فَاِمتَثِلها | حَياتَكَ فَهِيَ أَفضَلُ ما اِمتَثَلتا |
فَلا تَأخُذ بِتَقصيري وَسَهوي | وَخُذ بِوَصِيَّتي لَكَ إِن رَشَدتا |
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق عبدك خادم الحرمين الشريفين، اللهم اجعله سلماً لأوليائك، حربًا على أعدائك، اللهم وَفِّقْه وولي عهده لكل ما تحبّه وترضاه، أرهم الحق حقّاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.