العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | عصام بن هاشم الجفري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - فقه النوازل |
قولوا لمن يقبل الهدايا أو الرشاوى في عمله وهو يظن أن لم يره أحد، قولوا له إن لم يرك البشر فإن رب البشر يراك، وإن لم تتب من عملك المشين ذاك فستفضح على رؤوس الخلائق من لدن آدم -عليه السلام- إلى آخر ما خلق الديَّان؛ فمن أخذ ظرفاً فيه مبلغ من المال أتى به يحمله على عنقه، ومن أخذ سيارة يأتي بها على عنقه، ومن أخذ أرضاً يأتي بها على عنقه، وهكذا ..
الحمد لله ذي الكبرياء والعزة والجلال، تفرد سبحانه بالأسماء الحسنى وبصفات الكمال، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره عظم من شأن حرمة المال؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ما خطر ذكره على بال، وما تغيرت الأيام والأحوال.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتلك وصية ربكم لكم حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أمة الإسلام: تحدثت في الخطبة الماضية عن حرمة مال الفرد المسلم، وبينت عظم جرم أكل ذلك المال، واليوم أود الحديث إليكم عن الجانب الآخر، وهو حرمة مال المسلمين عامة؛ وهي ما تعرف اليوم بمال الدولة، أو المال العام، وأتحدث عن هذا الموضوع لأن هناك فئة من الناس لبَّس عليهم عدوهم إبليس، وظنوا أنه من حقهم أن يستخدموا المال العام في أمورهم الخاصة، أو أن يأخذوا من هذا المال.
استمعوا لخير الورى يحذر في هذا الأمر أشد التحذير: أخرج البخاري في صحيحه، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيّ -رضي الله عنه- قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: "فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ" ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ (ثَلَاثًا).
فانظر -يا رعاك الله- هذا رجل أدى مال المسلمين كاملاً، وأخذ ما أهدي إليه، غضب من فعله ذاك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف بمن أخذ من مال المسلمين؟ قولوا لكل من أخذ هدية بسبب منصبه ووجاهته: انظر إلى حالك بعد يوم واحد من التقاعد، كيف يكون حالك ترى الذي أهداك بالأمس لا يكاد يلقي عليك السلام! فهل كانت هديته لمحبة أم لأمر أخر؟ فليعتبر من هم اليوم في مناصب ووجاهات بمن سبق، قبل أن يعتبر بهم من بعدهم.
قولوا لمن يقبل الهدايا أو الرشاوى في عمله وهو يظن أن لم يره أحد، قولوا له: إن لم يرك البشر فإن رب البشر يراك، وإن لم تتب من عملك المشين ذاك فستفضح على رؤوس الخلائق من لدن آدم -عليه السلام- إلى آخر ما خلق الديَّان، فمن أخذ ظرفاً فيه مبلغ من المال أتى به يحمله على عنقه، ومن أخذ سيارة يأتي بها على عنقه، ومن أخذ أرضاً يأتي بها على عنقه، وهكذا... فمستقل ومستكثر.
وقد يقول قائل: ما بال هذا الشيخ يشدد على عباد الله؟ وقد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون الهدية؟ فأقول له: قال مثل هذا القول قوم لعمر بن عبد العزيز؛ واستمِع للقصة كما ذكرها صاحب الفتح: "اِشْتَهَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز التُّفَّاح فَلَمْ يَجِدْ فِي بَيْته شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ, فَرَكِبْنَا مَعَهُ, فَتَلَقَّاهُ غِلْمَان الدَّيْر بِأَطْبَاقِ تُفَّاح, فَتَنَاوَلَ وَاحِدَة فَشَمَّهَا ثُمَّ رَدَّ الْأَطْبَاق, فَقُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا حَاجَة لِي فِيهِ. فَقُلْت : أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لِأُولَئِكَ هَدِيَّة، وَهِيَ لِلْعُمَّالِ بَعْدهمْ رِشْوَة".
معاشرَ المتقين: إن الأمر جد خطير، وليس مما يُتهاون فيه، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ. قَالَ: "وَمَا لَكَ؟" قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى".
أتدرون ما الغلول؟ وما مصيبة الغلول؟ الغلول-ولو لشيء يسير- قد يذهب بالحسنات العظام، بل حتى بالجهاد في سبيل الله، أخرج البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا" فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".
فقولوا لمن يستخدم الأموال العامة في قضاء مصالحه الخاصة: اتق الله! فإنه لا يجوز لك؛ هناك طائفة من الموظفين إذا أراد أن يتكلم في الهاتف لغرضه الخاص ويكون الاتصال على هاتف جوال فإنه يضع هاتفه الجوال جانباً ويستخدم هاتف المصلحة التي هو فيها حتى يحمل التكلفة على المصلحة ولا يتحملها هو، ومنهم من يستخدم السيارة التي أعطيت له من قبل العمل لقضاء مصالح العمل في قضاء مصالحه الخاصة، أو يستخدم موظفاً يأخذ راتبه من قبل جهة العمل لقضاء حاجاته الخاصة، فيستخدم سائق المصلحة -على سبيل المثال- في توصيل الأولاد إلى المدارس والعودة بهم، أو في شراء احتياجات البيت من السوق، أو في تسديد الفواتير، وهكذا...
فأقول له: هذا موظف يأخذ مرتبه من مال المسلمين، أو من المؤسسة التي يعمل بها، لا لخدمتك خاصة، وإنما لخدمة المصلحة عامة. فبأي حق حولت خدماته لك بشكل خاص؟ هل هذا هو ردك لجميل من وثق بك وبأمانتك ووضعك في هذا المكان؟.
أقول له: استمع لتطبيق السلف لمبدأ الورع عن المال العام ؛ فهذا عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين، وكان الوقت ليلاً وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر: انتظر. فأطفأ الشمعة وقال له: الآن اسأل ما بدا لك. فتعجب الوالي وقال: يا أمير المؤمنين! لم أطفأت الشمعة؟ فقال عمر: كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟.
جاؤوا له بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته -ورعاً عن المال العام- فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يُستفاد منه إلا برائحته؟ الله أكبر! فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة فأخذ ينهب منها بغير حساب؟.
القصص في هذا المجال كثيرة، ولنرجع لسيرة أبي بكر وعمر وغيرهما لنجد فيها الكثير الكثير. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [إبراهيم:42].
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي.
له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وإني أوصيكم ونفسي -ولست بخيركم- أن نتقي الله في المال العام الذي بين أيدينا؛ وإني أعلم -أيها الأحبة في الله- أن بعضنا قد يأخذ من المال العام لا على سبيل قصد السرقة والغلول، ولكن على سبيل التساهل وعدم الالتفات إلى القضية، على اعتبار أنها من المحقرات؛ فأقول -أيها الأحبة في الله- لا بد لنا من الحيطة والحذر قبل أن نُفجأ في ذلك اليوم العظيم بتكاثر تلك المحقرات على رقابنا، فيطول حسابنا، وقد تعظم الندامة، ويتمنى المرء في تلك اللحظات أن لو دفع ماله كله ولا يقف مثل ذلك الموقف.
وإني لأعرف رجالاً إذا تسلم أحدهم مرتبه أخرج نسبة منه تطهيراً له من تقصير ارتكبه في عمله، أو لاستخدامه بعض مرافق العمل لأمور خاصة. أسأل الله العلي العظيم أن يطيب كسبنا وكسبكم، وأن يصلح نياتنا ونياتكم، وأن يرزقنا وإياكم تقواه وخشيته ظاهراً وباطناً، إنه سميع قريب مجيب.