الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
مَن مِنَّا يريد أن يكون اللهُ ساخِطاً عليه، فيُحرم رحمة الله وبركته، وعنايته وتوفيقه؟ بل ويسلِّط عليه عذابه في الدنيا والآخرة؟ مَن منا يريد ذلك؟ إنَّ على مَن يسعَى لرضا الناس بسخَطِ الله عليه ويقصد غير وجه الله تعالى أن يتذكر دائماً أنَّ مَن أهانه الله فلا مُعِزَّ لَه، ومَن أكرمه فلا مُهين له؛ قال تعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)..
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالَم بآجالها، والعالِم بتقلبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا مُعين ولا مُشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير.
وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر السموات العلا، ومنشئ الأرضين والثرى، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء:23].
وأشهد أن محمداً عبده المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضيء، والأمر المرضي، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان، صلَّى الله عليه وسلمَ ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملَك، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ورد في السِّيَر أنه لما عاد -صلى الله عليه وسلم- من الطائف وقد رُجم بالحجارة من قِبل السفهاء والمجانين، وسُدَّت في وجهة طرق البلاغ لدين الله، لم يزد على أن قال كلمات يطلب فيها رضا ربه قائلاً: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهَّمُني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَهُ أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي؛ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليَّ غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
تقول عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك،َ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" رواه مسلم.
أيها المؤمنون عباد الله: مَن طلب رضا الله كفاه وهداه، وكتب له القبول، وفتح له القلوب، وحببه إلى خلقه، وأغدق عليه نِعَمه، وأنزل عليه السكينة وبرد اليقين، وقنعه بما آتاه؛ ذلك أن الغاية من العبادة تقديم محابِّ الله وطلب رضاه على محاب النفس، وهذا والله سلوك الأنبياء، وطريق الأولياء، وسنة الشهداء، وسبيل المؤمنين الأتقياء، من أجله سجدت الجباه، وبُذِلت الأموال، وأريقت الدماء، وسالت الدموع، وتقرحت الشفاه.
إن الكثير من الناس اليوم ليشقى طوال حياته، ويبذل أقصى جهده من أجل أن يرضي فلان أو علان من الناس، وربما ارتكب من أجل ذلك الكثير من المعاصي والذنوب والموبقات، وربما من أجل ذلك يستحل الحرام، ويسفك الدماء، ويهتك الأعراض، ويتلاعب بالقيم، ويُزَوِّر الحقائق، ويبيع دينه وأمانته وأخلاقه؛ ليصل إلى هذا المطلوب! والله -سبحانه وتعالى- لم يأمر بذلك فقال: (وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62].
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضِيَ اللهُ عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" رواه ابن حبان وصححه الألباني.
مَن مِنَّا يريد أن يكون اللهُ ساخِطاً عليه، فيُحرم رحمة الله وبركته، وعنايته وتوفيقه؟ بل ويسلِّط عليه عذابه في الدنيا والآخرة؟ مَن منا يريد ذلك؟ إنَّ على مَن يسعَى لرضا الناس بسخَطِ الله عليه ويقصد غير وجه الله -تعالى- أن يتذكر دائماً أنَّ مَن أهانه الله فلا مُعِزَّ لَه، ومَن أكرمه فلا مُهين له؛ قال تعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج:18].
وعليه أن يستحضر ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أن يقوله في قنوت الوتر: "وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت" رواه أبو داود وصححه الألباني. وعليه أن يحفظ أن من طلب رضا الله-تعالى- كفاه الله مؤونة الناس.
ومن التمس رضا الناس وكَله الله إلى الناس, ويوم القيامة يتبرأ المتبوع من التابع، ويكون مأواهم النار، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:165-167].
وقال تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم:21].
عباد الله: إن من أعظم الثمرات التي ينالها العبد عندما يقدم رضا الله ويتجنب أسباب سخطه أن يحبه الله ويكتب له القبول في الأرض، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأَحِبُّوهُ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض؛ وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا، فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في السماء" رواه مسلم.
إنه مهما وجد العبد من مشقة وعنت وهو يواجه الشهوات والشبهات والملذات، ويصبر على مرضاة الله، ويسعى لنيل رضاه، فإن ذلك علامة على قوة الإيمان، وصفاء التوحيد؛ هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يضرب لنا في سلوكه وخلقه وتعامله مثلاً رائعاً في تقديم رضا الله ومحابِّه على رضا النفس والهوى: عن الفهري عن أبيه قال: كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحاً للمسلمين من الفيء، فأخذ ابنٌ له صغير تفاحة فانتزعها، من فيه، فأوجعه، فسعى إلى أمه يبكي، فسألته، فقال لقد أخذ تفاحة من مال المسلمين، ووالله لقد انتزعتها من ابني ولكأنما نزعتها من قلبي! ولكن كرهت أن أضيع نصيبي من الله -عز وجل- بتفاحة من بيت مال المسلمين.
فيا ويل من لم يُرْضِ ربَّهُ يوم يُبَعْثَرُ ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور! ويا ويل مَنْ ضَيَّعَ دينه بدنياه، وعمل من أجل نيل رضا المخلوق، ونسي الخالق -سبحانه وتعالى- الذي بيده مقاليد الأمور! اللهمَّ أَهْدِنا بهُداك، ولا تُوَلِّنا أحداً سواك.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: ما أجمل أن يرانا الله ونحن نبتغي بجميع أعمالنا وجهه -سبحانه وتعالى-، فنقيم الحق، ونأمر بالعدل، وندعو إلى الحب والتآلف والتراحم في ما بيننا! ما أجمل أن تكون أعمالنا خالصة لوجهه -سبحانه وتعالى- فنبني بها دنيا، ونعمر بها آخرة! والله -تعالى- يقول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً) [الكهف:110].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية الكريمة: فليعمل عملا صالحا، أي ما كان موافقا لشرع الله، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وهو الذي يُراد به وجهُ الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصا لله، صوابا على شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال -تعالى- في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
إن على المسلم أن يصبر في ذات الله، وأن يرجو ما عند الله، فلا يُسخط ربه من أجل دينار أو درهم أو متاع زائل، فما عند الله خيرٌ وأبقى، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، صبروا على الجوع والحرمان، ومكابدة المصائب، وفتن الزمان، ولم يُغْضِبوا ربهم، أو يُسخِطوه؛ شعارهم:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيرَةٌ | وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ |
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ | وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَرَابُ |
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ | وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ |
عباد الله: ألا فلْنُوَطِّنْ أنفسنا على طلب رضا الله ولو سخط الناس جميعاً، ففي ذلك الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وسنقف بين يدي الله، فماذا سنقول إن لم تكن أعمانا خالصةً لوجهه -سبحانه وتعالى-؟.
فاللهمَّ إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم ألِّفْ بين قلوبنا، وأصلح أحوالنا، وأحقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وانشر في ربوعها الخير والأمن والأمان.
هذا وصَلُّوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صَلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّكَ ورَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين.