العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | ناصر بن مسفر الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
إن العقل هو أن يعقل الإنسان معنى الحياة، وأن يعقل معنى وجوده فيها، وأن يعقل لماذا خلق، وما هي مهمته، وإلى أين مصيره، أن يعقل عن الله، أن يعقل عن رسله، أن يعقل دلائل القدرة في الكون، وجوانب العظمة في الحياة، ودلائل الاعتبار، ومواطن الادكار؛ إن العقل أن يُحيي عقله، وتستنير بصيرته، فيتفكر في الآلاء، ويتأمل في الأرجاء، ويعتبر بالسنن، ويتذكر بالأحداث، ويبحث عن الحقائق ..
خلق الله الإنسان، وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً، أحسن خلقه، وزين منظره، ورفع شأنه، وأعلى مكانته؛ خلقه في أحسن تقويم، وميّزه بالفهم والتفهيم،(خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:3-4]، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *ا لَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار:6-8].
لقد من الله على الإنسان بأن وهبه العقل، وميّزه بالفهم، وجمّله بالبيان؛ فالإنسان، لولا البيان، لكان كالبهيمة المهملة، ولولا العقل لكان أضحوكة الكون، وإن العقل الكامل، والفهم السليم، هو الذي يهدي صاحبه إلى طريق خالقه، ورضوان مُوجده؛ ليس العقل مجرد الذكاء الخارق، والاختراع المعجز، والإبداع الملفت، فذلك ذكاء مجرد، وهو أيضًا منحة للعبد من خالقه وموجده الذي كان بإمكانه أن يجعله أجهل وأغبى من حمار أهله.
إن العقل هو أن يعقل الإنسان معنى الحياة، وأن يعقل معنى وجوده فيها، وأن يعقل لماذا خلق، وما هي مهمته، وإلى أين مصيره، أن يعقل عن الله، أن يعقل عن رسله، أن يعقل دلائل القدرة في الكون، وجوانب العظمة في الحياة، ودلائل الاعتبار، ومواطن الادكار؛ إن العقل أن يُحيي عقله، وتستنير بصيرته، فيتفكر في الآلاء، ويتأمل في الأرجاء، ويعتبر بالسنن، ويتذكر بالأحداث، ويبحث عن الحقائق.
إنها لَمصيبةٌ كبرى على الإنسان أن يهبه الله العقل، ويمنحه الفكر، ثم لا يعقل بها إلا ظاهر الحياة، ولا يرى إلا مصالح المعاش، ويغفل عن المراد الأكبر، والهدف الأساس، فمثل هؤلاء لهم عقول بلا عقل، وأبصار بلا بصيرة، وقلوب بلا حياة، (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44]،(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]. إن هؤلاء شر المخلوقات، وأسوأ الموجودات ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22].
إن المؤمن الحقيقي هو الذي يُعمل عقله يرى ملكوت الله، فيتأمل آياته، ويتدبر عظاته، ويتفكر في مخلوقاته، ويستنير بآياته، ويتفهم كلامه، ويهتدي بعظاته.
لقد كان-صلى الله عليه وسلم-يقوم أحيانًا في آخر الليل فيظل يناجي ربه ويدعوه ويبكي حتى تبل دموعه الثرى، وهو يرتل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190-191].
إنه التفكر! إنه التدبر! إنه التأمل! إنه الاعتبار! إنه العقل الحي، والضمير المتوقد، والوجدان الشفاف؛ إن هذا الكون يفيض بآيات باهرة، ودلائل معجزة، وحوادث ملفتة، وكوارث مفزعة، وتغيرات مذهلة، ولكن قَلَّ المتأمِّلون والمتعظون والمعتبرون، بل أصبح كثير من الناس يتابع ما يراه في صفحة الكون، وينظر إلى ما يعرض في شاشات القنوات، وكأنما يتابع فيلمًا، أو يتأمل مسرحية، أو يطلع على قصة، دون وجدان يهتز، أو شعور يرتعد، و قلب يدكر، أو عين تدمع، أو نفس تتوب، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الصافات:137-138]،( إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية:3-5].
كل ذرة في السموات أو في الأرض فيها عجائب وغرائب تظهر فيها حكمة الله تعالى، وقدرته، وعظمته، وجلاله؛ هل تأملت السموات وما فيها من الآيات الباهرة، والمخلوقات المذهلة؟ هل تأملت الأرض؟ هل تأملت البحار والأنهار، والأشجار والأمطار، والغيوم، والسحب والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار، والحر والبرد، والرياح والعواصف، والرعد والبرق والصواعق، والجبال والوديان والسهول، والحدائق والبساتين، والصحاري والقفار والفيافي، والحيوانات والطيور والزواحف والدواب والحشرات، والإنسان والملائكة، والجن والشياطين، وغير ذلك من عجائب المخلوقات؟.
هل أعملت ذهنك في الإنسان وعظمة خلقه؟ وأنه المخلوق الذي بهر العلم والطب والفلسفة إلى اليوم، ومع كل ذلك، ما هو الإنسان بالنسبة لخلق السموات والأرض؟(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) [النازعات:27-32].
تفكر في نفسك في شكلك، في عقلك، في نومك، في رضاك، في غضبك، في عظامك، في رزقك، في أكلك، في شربك، في مشاعرك في أحاسيسك؛ ثم تفكر في الأرض التي هي مقرك في عظمتها في أنهارها، في جبالها في معادنها، في أنهارها في بحورها، ثم ارفع نظرك إلى ملكوت السموات وعجائبها: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات:47-49].
تأمل عجائب البحار، تأمل عجائب الأنهار، عجائب الجبال، عجائب الهواء، عجائب الريح، وكيف أنها أحيانًا تكون رحمة ومنحة من الله فتكون لواقح، وتكون حياة، وتكون نسيمًا عليلاً، وتارة تكون جندًا من جنود الله، فإذا بها غضب وسخط، وريح، وهلاك، وصرصر، وعاتية؛ تأمل المطر كيف يكون رحمة وأنسًا وحياة ورزقًا وبهجة، وريًا وطيبًا صيِّبًا، وكيف يكون أحيانًا عذابًا وهلاكًا ودمارًا، وقتلاً وتشريدًا، وخوفاً.. تأمل.. تأمل.. تأمل، والله! لو مكثنا أعمارنا كلها وجعلنا البحر مدادًا لكلماتنا لنفد البحر قبل أن ينفد الحديث عن ملكوت الله، وعظمة الله، وجلال الله، وآيات الله المبثوثة في الكون مما نراه فقط، ونلمسه وندركه، فكيف بما لا نراه، ولا ندركه، ولا تبلغه عقولنا؟.
لقد حاول العلماء إحصاء الكواكب المنتشرة في الأفق والتي بعضها أكبر من الأرض التي نعيش عليها، فقالوا أن عددها تقريبًا هو بعدد حبات الرمل المنتشرة على شواطيء بحور الدنيا، سبحانه! ما أعظمه وأجله! والأعظم من ذلك كله أن هذا الكون يكمل أجزاءه، وهذه المخلوقات -بجميع ذراتها- يعلمها الله تعالى ويحصيها، وهي ذرة في محيط علمه،( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:28]، (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59].
أَرْسِلِ الفِكْرَ في فضاءٍ بعيدٍ | وسماءٍ تعُجُّ بالنيِّراتِ |
في شُرُوقٍ للشَّمْسِ أوْ فِي غُروبٍ | فِي نجُومٍ مطِلَّةٍ آفلاتِ |
في سُكُون الصحراءِ في رَسْمَةِ الوا | دي وفي ذُرَى الراسِيات |
في الشَّذى في النَّدى في الورود في بس | مةِ الفجر في سُكُونِ البياتِ |
في الرُّبى في الضُّحَى في الأنهار في طل | عةِ البدْرِ في الزواهرِ الحالمات |
في جمالِ الغَزَالِ في جَفْلةِ الظَّبْ | يِ في عُيونِ المَهَاة |
في بديعِ الألوانِ في نغْمَةِ الصو | تِ في قلُوبنَا الخافقَات |
في مذاقِ الثمار في باسق النخْ | ل في الجنَى في النواة |
إنهُ اللهُ سلوَةٌ وضِياءٌ | في سمَاء العُبَّادِ والعابِداتِ |
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكُّر، خير من قيام ليلة بلا قلب. وسئلت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار. وكان أبوشريح يمشي مرة فجلس وتقنع بكسائه وجعل يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ قال: تأملت في ذهاب عمري، وقلة عملي، واقتراب أجلي. وكان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يقولون: إن ضياء الإيمان ونوره التفكر. وقال الحسن رحمه الله: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال عمر بن عبدالعزيز: التأمل في خلق الله من أفضل العبادة. وقال أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة، ولي فيه عبرة.
لقد كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار، والنظر والتفكر، والتحذير من الغفلة، قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205]، وقد ذكر تعالى قصة هلاك فرعون وأنه نجَّاهُ ببدنه؛ ليعتبر بذلك الناس، ويتفكروا؛ لأن كثيرًا من الناس تخيم الغفلة على قلوبهم، فلا يتعظون بالأحداث، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس:92].
إن التذكرة دليل على حياة القلب، وصفاء الإيمان، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر:13]، لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخاف أشد الخوف ويتغير لونه ويعلوه الهم كما رأى تغيرًا في الجو؛ خوفًا من أن يكون ذلك عذاب من الله أو سخط أو نقمة.
فانظر لحالنا اليوم! كم نرى من الأحداث، كم نرى من العبر، كم نرى من العظات، كم من العجائب، كم من الغرائب، كم من الفتن، كم من المحن، كمن من الزلازل والفيضانات والأمراض والأوبئة والشرور، من الحروب، من الأموات، من الفجائع! ومع ذلك قل المعتبرون والمدكرون والمتعظون؛ بل تأمل من عجائب العلم والتطور والتقنية والاختراعات التي جميعها تنطق بعظمة الله، ووحدانية الله، وقدرة الله، ومع ذلك قل المتبصرون والمدكرون.
أيها الناس! إن مانراه من حروب ودمار، وقتل ورعب وخوف، يجب أن يكون لنا فيه ذكرى وعبرة وعظة، ودروس في أمور ديننا ودنيانا.
إن ما نراه من فيضانات وإعصارات وكوارث يجب أن يهز أنفسنا، ويحرك قلوبنا، فنأخذ العبرة، ونفهم الدرس وننطرح بين يدي العزيز الجبار، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
إن ما نراه من أمراض غريبة، ومن أوبئة مفزعة، يجب أن نأخذ منها عبرة، بل إن ما نراه من ضلال، وانحراف وانجراف، وفساد وإباحية، يجب أن تحرق قلوبنا، وتحرك نفوسنا، وتجعلنا نكون أكثر عظة وتذكراً و تمسكًا بما في أيدينا من هدى، ودعاء لربنا أن يصرف عنا السوء وأهله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
إن ما نراه من تعلق بالدنيا، وانفتاح لزهرتها، وانخداع ببهرجها، وانجراف وراء بريقها، يجب أن يحدث لأنفسنا عبرة، ولقلوبنا عظة، فلا ننخدع، ولا ننغر، ولا نلهو، ولا نفرح بها عن الآخرة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60]، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنعام:32].