البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الحق

كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

قصة كاملة لم يؤلفها بشر

العربية

المؤلف القسم العلمي بدار القاسم
القسم كتب وأبحاث
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - قصص وعبر
قصة كاملة لم يؤلفها بشر : في هذه الرسالة واقعة أغرب من القصص، ما ألفها أديب قصصي، ولا عمل فيها خيال روائي، بل ألَّفَتْها الحياة، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها، وبداياتها وخواتيمها، أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء.

التفاصيل

قصة كاملة لم يؤلفها بشر  قصة كاملة لم يؤلفها بشرالقسم العلمي بدار القاسمكنت أسرد في الذكريات أحداث حياتي، فقال قوم: هلا نوعت الأساليب وذكرت ما مرَّ بك من وقائع الناس، ولم تقصر حديثك على نفسك، فجربت أن أصنع ما قالوا، فسردت خبر واقعتين، عندي من أمثالهما الكثير، فأعجب بهما جلُّ القارئين، وقال ناس: أنها ممتعة، ولكنها ليست ذكريات. قلت: ولِمَ لا تكون من الذكريات؟ وهل الذكريات إلا ما وقع لي أنا، وما رأيت وما سمعت به أو قرأته، ولقد قرأت في هذه السنين التي عشتها من القصص الأدبية، وقصص المغامرات وما يسمونه (القصص البوليسية) ما لا يحصيه عدَّ، وعملت فترة من عمري -نحو سنة 1930م- في الصحافة ناقدًا مسرحيًّا، أشهد الرواية، أو أرى الفِيلْمَ في السينما، فألخصه وأنقده، وعندي بقية مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابًا صغيرًا.ولكني لن أعرض في الذكريات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص، ما ألفها أديب قصصي، ولا عمل فيها خيال روائي، بل ألَّفَتْها الحياة، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها، وبداياتها وخواتيمها، أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكريات، وما تخيلت أحداثها تخيلاً، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصياغة التي ترونها.. وأنكم لتحسبون من إحكامها وترابط أجزائها، أنها منقولة عن أهل الخيال من الأدباء وأنا أؤكد لمن يصدقني منكم بأنها واقعة.ومن الوقائع ما هو أغرب من الخيال.*   *   *كنت ذاهبًا إلى بيروت من أكثر من أربعين سنة([1]) في سيارة صغيرة، لصديق لي، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل، مرت بجنبنا سيارة «شيفروليت» من المقياس الواسع، جديدة مسرعة، فمشينا وراءها، وإذا هي تسابق السيارات، كلما رأت سيارة أسرعت حتى تسبقها، فيصيح من فيها ويضحكون ويصفقون، فلما رأينا ذلك تأخرنا عنها، ولكننا لبثنا نراها، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبير، حيث يمشي الطريق على شفير الوادي، يشرف على سهل البقاع، رأيناها تحاول أن تسبق سيارة صهريج كبيرة من التي تنقل البنزين، ضخمة كلها من الحديد، وكانت تريد أن تدور، فلم تنتظر السيارة الصغيرة دورانها، بل زاحمتها ومرت من جنبها، فمال الصهريج عليها، فصدمها، فلم نرها إلا وهي ساقطة في الوادي، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام، فدهشنا ووقفنا سيارتنا ووقفت السيارات المارة كلها، ونزلنا نرى لم نصل إليها إلا بعد ربع ساعة، فوجدنا أطفالاً ثلاثة وبنتًا في نحو التاسعة قد أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحياء، ووجدنا فتاة شابة إلى جنب السيارة قد أصابها الإغماء ولكن يبدو أنها سليمة، أما باقي الركاب. فقد صاروا عجينة واحدة، منظر من أفظع المناظر التي يمكن أن تراها العين، وقد اختلط فيها اللحم والعظم، منظر لم أرَ مثله إلا مرة أخرى سنة 1970م في الطريق الدولي في ألمانيا، عند (دوسلدورف) إذ تمشي السيارات في المسرى الأيسر من الطريق بسرعة تزيد دائمًا عن المائة والخمسين كيلو، فإذا وقفت واحدة منها فجأة، لم تستطع التي وراءها أن تقف فيكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شيئًا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى السيارات لطلبها من المريجات على طرف الوادي، وسرعان ما حضر المحقق والطبيب والشرطة، وجعل الناس ينصرفون يتابعون طريقهم، ووقفت مع المحقق وكنت يومئذ من رجال القضاء، فاستمتعت أول التحقيق وأمسكت بطرف الخيط. فلما رجعت إلى دمشق، تتبعت بقية القصة واطلعت على الأوراق وجمعت الخيوط كلها، حتى عرفت القصة كاملة، فقلت: لا إله إلا الله، ما أعظم عدالتك يا رب؟!..ووجدت قصة فيها عبرة من أعظم العبر، فكتبتها وتركتها بين أوراقي، حتى جئت اليوم، أقلب هذه الأوراق القديمة فوجدتها، فقلت: أحدثكم حديثها.*   *   *كانت بنتًا جميلة، وكان أبوها واسع النعمة، مبسوط اليد، فنشأها على الدلال، وعلى أن تتمنى فتنال، وأن تطلب فتعطى.فلما بلغت السابعة عشر خُطبت، فاعتلَّ أبوها بصغرها، فقال أبو الخاطب، ألا ترضى أن أجعلها مني بمثابة ابنتي، وأن أُسكنها معي في داري، فتكون أبدًا في سمعي وبصري؟قال: بلى.وعقد العقد، ووصاها أبوها حين زفها إلى زوجها أن تكون لِحَميها – أي لوالد زوجها – بنتًا ليكون لها أبًا، وأن تمنحه التوقير والطاعة، ليخلص لها الرعاية والحب، وأن تجعل حماتها كأمها، وأن تثق بها، ولا تكذب عليها ولا تخالف أمرها.ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاة لأنه كان لها من طبيعتها، ومن أسلوب نشأتها، ما يدفعها إلى الصدق والاستقامة، ويمنعها من الانحراف والكذب.*   *   *وعاشت معهم، وكانوا أربعة في الدار:الزوج: وهو شاب رضيُّ الخُلُق صادق الحب يريد لها الخير والإِسعاد، ولكنه لا يملك مع أبيه في الدكان عطاءً ولا منعًا، ولا مع أمه في الدار أمرًا ولا نهيًا.وعمة الزوج: وهي عجوز عانس سعيدة في ظاهرها، ولكنها شقية في حقيقتها، فهي لهذا تحسد كل بنت متزوجة سعيدة في زواجها، وتتمنى زوال نعمتها عنها.وأم الزوج: وهي امرأة بخيلة شحيحة العين، مقبوضة الكف، ربها الدينار، ودينها جمع المال، ودستورها ادِّخار الدِّرْهم الأبيض لليوم الأسود، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران، وأنه قد وقف الزمان، وأن سنة 1920م بعاداتها وأزيائها يمكن أن تجئ في سنة 1947م – سنة وقعت هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها، أفرغت غيظها على بنات هذا الجيل الجديد، وترحمت على جيلها وزمانها.والرابع أبو الزوج: وهو رجل شديد الأسر، سليط اللسان، قوي الساعد، ولكنه إذا قابل امرأته كلَّ لسانه، ولان ساعده، ولم يكن له مع رأيها رأي، ولا مع سلطانها سلطان.وعملوا بدستور المرأة وادخروا، وكثرت في أيديهم الدراهم البيض، والدنانير الصفر، والأوراق الملونة المنقوشة، ودفاتر الصكوك – الشيكات – وأسناد العمارات، فاحتفظوا بها كلها، خوفًا من اليوم الأسود.ولم يأتِ اليوم الأسود ولكنهم جعلوا أيامهم كلها من خوفهم سوداء، كمن كان عنده الطعام الكثير فخاف أن يأكل فينفد فيجوع بعده، فجوَّع نفسه العمر كله، خوفًا من أن يجوع يومًا واحدًا.*   *   *وكانت في بيت أبيها تجد الطعام أمامها، من الخبز إلى أفخر الحلوى، ومن الفاكهة إلى النقل والسكاكر، وكان أبوها إذا وجد منها ومن إخوتها عزوفًا عن الطعام، جعل لهم على الأكل جُعْلاً، أي مكافأة ليرغبهم فيه.فلما جاءت بيت زوجها وجدت إقلالاً من كل شيء، إن جاؤوا يومًا بعلبة حلوى، حفظوها في الخزانة، وأقفلوا عليها كأنما هي علبة جوهر، وإن هم وضعوها بين أيدي الضيوف وضعوا عيونهم عليها، وقلوبهم معها، لا يمدون أيديهم إليها، لعل الضيف تقصر يده عنها.وكانت قطع اللحم في بيت أبيها أكثر من حبات الفاصوليا مثلاً، فوجدت اللحم عندهم أخفى من نجم السُّها فهو لا يرى إلا بالمجهر الكهربي (الإلكتروني).وكانت الفاكهة توضع في بيت أبيها على المائدة، فمن شاء أكل، فوجدت ظهور الفاكهة هنا أندر من ظهور قرص الشمس في بلاد الإنكليز، وإن هم شروها؛ فإنما يشترون منها الرخيص الفاسد الذي لا يؤكل.فتألمت لذلك ولكنها ما تكلمت، وكانت قليلة الطعام، شبعانة العين، فلم تبالِ.وكانت مدللة لا تشتغل؛ لأن في بيت أبيها خادمتين، فكلفت هنا خدمة الأسرة كلها، يكومون لها كومة الصحون الوسخة، ويدخلون ليسمروا وتبقى هي في المطبخ لتغسلها، لا يسمحون لها من أن تسخن الماء خوفًا من كلفة التسخين، فكانت أصابعها تحمر من المار البارد في الشتاء القاسي، فإذا دخلت وجدت المدفأة مطفأة توفيرًا للنقود، وخوفًا من اليوم الأسود.فتشققت يداها، واسودت أظافرها، واجتمع عليها نقص الغذاء وزيادة التعب، وفقد الاطمئنان والعطف، فذهبت صحتها وذاب جسمها.وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها، وكان مستقيم السيرة، متين الدين، فلم يكن ينظر إلى غيرها، أو يفكر في سواها، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها، وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدًا مفتحة عليه ناظرة إليه، مراقبة حركاته وسكناته، لا سيما عينا عمته العجوز العانس، الحاسدة الحاقدة، التي لم تعرف يومًا حب الزوج، وسعادة الزواج، فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة، فكانت تلازمها دائمًا، لا تفارقها لحظة، وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب، والعزول للعاشق، وكانت أكبر من أخيها سنًا، وكانت كالمربية للزوج في صغره، فاتخذت لنفسها حق النصح له في كبره فكانت تنخر أبدًا في قلبه نخر السوس، إن رأته منح زوجته بسمة، أو رقَّق لها كلمة، عاتبته وقالت: أنت يا ولدي صغير لا تعرف النساء، إن المرأة إن رأت من زوجها ضعفًا ركبته ركوبًا، ولم تعد تطيع له أمرًا. وإن رأته أطال الخلوة بها، وسوست له وسواس الشيطان، ووضعت في قلبه جراثيم الكره لها، كما تضع الجراثيم بذور المرض في جسم الصحيح، حتى كادت تكرهه بها، فتبدلت سيرته معها، فصار يتأخر عن العودة في المساء، وإن عاد عاد مقطبًا، لا لذنب منها، بل لما وسوست له شيطانته -أي عمته- من أن إظهار الشدة للزوجة من حسن السياسة، ومن فضل العقل. وكانت تنتظره حتى يجئ فلا يشكرها ولكنه يلومها ويستقبح عملها، وإن هو أطال السهرة ليلة فغلبها النوم جاءته الشيطانة -أي العمة- فقالت: أرأيت كيف تهملك ولا تبالي بك؟ ولا تنتظرك كما تنتظر الزوجات رجالهن؟ فزادت نقمته عليها.وكانت البنت تحاول أن تشكو إلى أبيها، أو أن تخبر أمها، فلا تستطيع أن تنفرد بهما، لأنهم لا يدعونها تذهب إلى أهلها وحدها، لا تذهب إلا ومعها زوجها أو معها هذه العمة التي تظهر لها – من مكرها – أمام أهلها أشد الحب، وأكثر الحُنوّ، وإذا رأوها هزيلة وسألوها؛ قالت: إنها لا تأكل.. عجزنا عن إقناعها بوجوب الغذاء فيُصدِّق أهلُها.وكانت البنت تكتم ألمها في نفسها، لا تجد من تشكو إليه، فتنفرد في غرفتها تبكي وحدها حتى تبلل بدموعها وسادتها، ثم تنام، وكان مُعجَّل مهرها عشرة آلاف ليرة سورية ومؤجَّله مثل ذلك، وكان ذلك اليوم مبلغًا ضخمًا جدًا، وكان أبوها لسماحة نفسه، وكرم يده، لا يفكر في المال، فكتب المهر في صك الزواج، ولم يطالب به، ثم زاد فجهز بنته من ماله، جهازًا ضخمًا يليق مثله ببنات الملوك.ولم يرضَ أهل الزوج أولاً بهذا المهر، ولكن الوالد أصر فكتبوه مرغمين، وهم يرسمون الخطط الشيطانية للخلاص منه، إذ كانوا يحاسبون على (الفرنك) ويموتون على (الليرة)، أفيدفعون هذا المبلغ كله مهرًا للبنت؟ وسلكوا إلى إزعاجها كل طريق، من الإِعراض عنها وإهمالها، إن تكلمت لم يصغوا إليها، وإن سالت لم يجيبوها، وإن قعدت تستريح شغلوها، وكلفوها بأعمال الدار كلها، يُقتِّرون عليها بالطعام، أو يحدثون لها عند كل أكلة ما يزعجها حتى تقوم عن المائدة ويستعملون جهازها في استقبال ضيوفهم، ويتخذونه لقعودهم، ويعملون على إفساده عمدًا.وكان مقصدهم الأول أن يتخلصوا من المهر، يُقدِّرون أن إزعاجها يضيق صدرها، وينفذ صبرها فيدفعها إلى طلب المخالعة، ولكن المسكينة لم تكن تدري ما المخالعة، ولم تسمع بها، وكانت تتقبل ما كتب عليها صابرة لا مفزع لها إلا دمعها.ثم وسوست إليهم الشيطانة، فبيتوا أمرًا، فبدلوا معاملتها فجأة، وصاروا يَخُصّونها بالرعاية، ويلينون لها القول، ويقومون عنها ببعض أعمال الدار، ويمدحونها بأنها هي المتعلمة الكاتبة القارئة، ولم يكن في العادة يطرق بابهم طارق، لأنهم – لبخلهم – لا يزورون أحدًا أبدًا، لئلا يزورهم فيكلفهم ثمن الضيافة، فصار بابهم يطرق كل يوم، يطرقه موزعو البريد برسائل مسجلة، فكانوا يجيئونها بالوصل لتمضيه؛ لأنها هي الكاتبة القارئة وكل من في الدار أمِّيات؛ فكانت تُسرُّ بذلك وتفرح.وكانت يومًا في المطبخ ويدها في جلي الصحون، فسمعت قرع الباب، فجاءت العمة مسرعة: قالت: خذي الله يرضى عليك إمضِ هنا، قالت: ألا ترين يدي في الصابون، انتظري حتى أغسلها وأقرأ ما في الورق، فقالت لها: الرجل على الباب، إمضِ وبعد ذلك تقرئين ما فيها، وماذا يكون فيها؟ إنه إيصال بريد كغيره من الإيصالات.فمسحت يدها وأخذت الورقة، وكانت مثنية ما يظهر ما فيها، فوقَّعَتْ حيث أشاروا إليها.وساءت معاملتهم إياها فجأة، كما حسنت فجأة، وعادوا أفظع عما كانوا عليه، وشاركهم زوجها وانقلب معهم عليها، وكانت حاملاً في شهرها الأخير، فأرادوا أن يتخلصوا من تكاليف الولادة فطردوها، فذهبت إلى بيت أبيها.*   *   *وعجب لما رآها داخلة عليه، وأسرع يلومها، ويقول لها: ما هذا العمل، ومتى كان الحرد من شمائلنا؟. وأيدته أمها، لأنهما لم يكونا يعرفان شيئًا من حال أحمائها، فانطلقت تبكي بكاء موجعًا، يقطع القلوب، وتقص عليهما قصتها من خلال دموعها.وطيب أبوها خاطرها، وأولاها من قلبه ومن ماله، ما ضمد جراحها، وفتحت لها أمها صدرها، ومشت الوسائط بين الفريقين، فإذا بيت الأحماء يقلبون لها ظهر المِجن. ويجاهرون بالعداوة، ويكشفون عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها وراء ستار التصنع والنفاق، فيئس أهل البنت، وطلبوا أن يطلقها الزوج ويؤدي إليها حقوقها، ويرد عليها جهازها.قالوا: هيهات! حقوقها وصلت إليها لقد قبضت مهرها كله، معجَّله ومؤجَّله وسند القبض بأيدينا، أما الجهاز فهو لنا نحن اشتريناه.وكانت قصة الجهاز أن بيت الأحماء من مكرهم قد عرضوا على الأب أن يتولوا هم شراء الجهاز واختياره، ورضي أبو البنت، فاشتروه وهو الذي دفع الثمن ولكن كانت ورقة الإيصال بأسمائهم وكانت بأيديهم.وأما المهر فإن الورقة التي جاؤوا بها إليها لتمضيها، وزعموا أنها وصل البريد، كانت سندًا بوصول المبلغ إليها، وكانت قصة رسائل البريد التي ترد كل يوم قصة مصطنعة اتخذوها تمهيدًا لما أرادوه وبيتوه.وأقيمت الدعوى ووكل أبو البنت محاميًا قديرًا، ودفع له أجرًا وفيرًا، وبذل له المحامي جهده، وكان القاضي من قضاة العدل. ولكنهم عجزوا عن الإثبات، فطلبوا تحليف اليمين، فحلف أولئك اليمين كذبًا وبهتانًا، وخسرت البنت دعواها، خرجت بلا زوج ولا مهر ولا جهاز، ما بقي معها إلا ابنتها التي ولدتها.وجاء المحامي يريد أن يأذنوا له بإقامة الدعوى الجزائية لليمين الكاذبة. فقال الأب: لا أريد، قال المحامي: لم لا تريد؟ قال: أما رأيت كيف ضاع حقّنا؟ قال: ما ضاع لتقصير في الدفاع، ولا لميل من القاضي عن الحق، بل لأن القضاء البشري إنما يحكم بالبينات الظاهرة، ولا يستطيع أن ينفذ إلى الحقائق، ولذلك يخطئ القاضي حينًا، ويصيب حينًا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أعدل قاضٍ في تاريخ البشرية كلها، قال: إنكم لتحتكمون إلي، ولعل أحدكما ألحن بحجته من صاحبه – أي أقدر على الدفاع – فأقضي له، فإنما أقضي له بقطعة من النار.والقضاة ما عندهم إلا الأوراق والشهود والأيمان، وقد تُزَوَّر الأوراق، وقد يكذب الشهود، وقد تَفْجُر اليمين، والله وحده هو الذي يعرف المحق من المبطل دائمًا، قال الأب: ولذلك فإني أقيم الدعوى عليه عند الله.ومرت الأيام وكانت الأم تجد أُنسها ببنتها، جعلتها هي حظها من دنياها، وقنعت بها، ووقفت نفسها عليها، وبلغت البنت التاسعة فجاء الأب يطلبها.وكان قد تزوج من بعدها وزرق بولدين، فتجددت للأم المسكينة أحزانها كلها، وعادت مأساتها التي حسبتها قد طواها النسيان، وأصبحت تشعر بأن فراق روحها أهون عليها من فراق ابنتها.لقد جعلت هذه البنت دنياها، فماذا يبقى لها إن فقدتها؟ وصارت لا تستطيع فراقها لحظة، وكلما رأتها ضمتها إليها، وبكت البنت بين ساعديها وبكى كل من رآهما، وجاء يوم المحاكمة وصدر الحكم بتسليم البنت إلى أبيها.*   *   *أخذ الأب البنت، وأراد أهله مبالغة في الكيد والانتقام، أن يخرجوا إلى النزهة ليفرحوا في يوم مأساة الأم، ويضحكوا في يوم بكائها، وكانت له سيارة اشتراها على معارضة من أبيه فأخذ أباه وأمه وعمته وزوجته الجديدة وبنته الأولى التي أخذها من أمها وسافر إلى لبنان.وكان حديثهم طول الطريق عن الزوجة الأولى (أم البنت) والسخرية بها، والبنت المسكينة تسمع، لا يدركهم خوف الله فيكفوا عن غيبة الغائبة، وظلم البرئية، ولا رحمة الإنسان فيرعوا عواطف هذه الطفلة التي انتزعوها من أمها، وبلغ بهم الكبر والجبروت الغاية، فكان من فرحه بظفره يسابق السيارات، فكلما رأى سيارة أمامه أسرع حتى يسبقها، فرأى ذلك الصهريج، فقالوا له: قف حتى يمر، قال: لا، إني أسبقه إلى المنعطف، وقد صارت لي خبرة للخلاص من المآزق، أما تخلصت من تلك المرأة فأخرجتها يدًا من الوراء ويدًا من الأمام، بلا مال ولا جهاز، ثم انتزعت منها ابنتها؟ وقهقه ضاحكًا، وكان قد صار بجنب الصهريج، ووقعت المأساة.*   *   *مال الصهريج كما عرفتم على سيارته، كما يميل الفيل على شاة صغيرة، فرمى بها إلى الوادي، فتحطمت، أما الركاب، فإن الزوج والأب والأم والعمة قد صاروا عجينة واحدة اختلط لحمها بعظمها، والزوجة الجديدة والأولاد الذين لا ذنب لهم خرجوا سالمين، ما أصابهم كبير أذى لأنهم أبرياء ما اشتركوا في الجريمة، أما الذين اشتركوا فيها، وأقام عليهم أبو البنت المظلومة الدعوى في محكمة الله؛ فكان هذا مصيرهم!!.ومن لم يلق مثله في الدنيا؛ فليعلم أنه ينتظره عند الله ما هو أشد وأكبر!.*   *   *([1]) نشرت في 27/11/1986م في جريدة الشرق الأوسط.