الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن علي الحدادي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
ومن فضائل هذا اليوم العظيم أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان -يعني عرفة-، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلاً، قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ..
عباد الله: يقول الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]. فنعم الله على العباد كثيرة لا تعد ولا تحصى، وإن من أعظمها هو ما هدانا لهذا الدين وجعلنا من أمة خير المرسلين ، ثم -عباد الله- ما أنتم فيه اليوم من اجتماع يومين عظيمين يوم الجمعة وعرفة، كيف لا وهو يوم أكمل الله فيه الدين وأتمَّ فيه النعمة حيث قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
ففي مثل هذا اليوم نزلت هذه الآية، قال رجل من اليهود لعمر -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا -معشر اليهود- نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال: أي آية؟! قال: (لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا)، قال عمر: "إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، أنزلت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة يوم الجمعة". رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: وهذا اليوم جمع فضائل عدة، منها أنه يوم عيد لأهل الإسلام، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب". رواه أهل السّنن. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "نزلت -أي: آية (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ)- في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد".
ولعظيم هذا اليوم فقد أقسم الله به، ولا يقسم ربنا إلا بعظيم، قال تعالى: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [البروج: 3]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة". رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وهذا اليوم هو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر: 3]، قال ابن عباس: "الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة". وهو قول عكرمة والضحاك.
ومن فضائل هذا اليوم أن صيامه يكفر سنتين، نعَم سنتين، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والسنة القابلة". رواه مسلم. وقد استحب العلماء -رحمهم الله- لغير الحاج أن يصوم هذا اليوم ليشارك الحجاج ويتعرض لنفحات الله تعالى ويحوز الأجر العظيم.
ومن فضائل هذا اليوم العظيم أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان -يعني عرفة-، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلاً، قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [الأعراف: 172، 173]". رواه أحمد وصححه الألباني.
وهذا اليوم -عباد الله- يوم فخر وعزة للإسلام والمسلمين، فقد احتشدوا في مكان واحد وبإزار واحد وجاؤوا من كل فج عميق، فهو آية عظيمة على قدرة الله -سبحانه وتعالى-، فهو سبحانه يرى مكانهم ويعلم حالهم ويسمع كلامهم على اختلاف ألسنتهم، فسبحانه من إله عظيم، جل عن الأشباه والأنداد، وتقدّس عن الصاحبة والأولاد.
ومن الفضائل أيضًا أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟!". قال ابنُ عبد البر: "وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم". اهـ. وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرًا". رواه أحمد وصححه الألباني. قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنه في يوم عرفة يدنو الرّبُّ -تبارك وتعالى- عشية مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: "مَا أَرَادَ هؤُلاءِ؟! أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم". وتحصلُ مع دنوه منهم -تبارك وتعالى- ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائلاً يسأل خيرًا، فيقربُون منه بدعائه والتضرّع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب، أحدهما: قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة ومباهاتُه بهم ملائكته، فتستشعِرُ قلوبُ أهل الإِيمان بهذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها، وفرحًا وسرورًا وابتهاجًا ورجاءً لفضل ربها وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها". اهـ.
فيا عباد الله: يوم هذه فضائله ومزاياه، وهذه منزلته ودرجته، أيليق أن نفرط فيه أو نعرض عن التعرّض فيه لنفحات ربنا وعظيم عفوه ورحمته؟! لا والله، إن المستحب لكل مسلم أن يستغل هذه الفرصة العظيمة بالإكثار من العمل الصالح من ذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ؛ لعله أن يحظى من الله تعالى بالمغفرة والعتق من النار.
أيها المسلمون: لنكثر من الدعاء والتضرع بين يدي ربنا وخالقنا -سبحانه وتعالى-، فهذا يوم إجابة، وقد قال ربكم: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60]. هذا اليوم يوم خوف وخشوع وخشية من الله، يوم يذل فيه المؤمنون لربهم مخبتين، يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحّون بخير الدعاء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير ما قلت أنا والنبيّون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". رواه الترمذي وحسنه الألباني.
فلنحرص على الإكثار من الدعاء مع تحصيل أسباب الإجابة من الخوف والتضرع والذل والانكسار بين يدي الله، ومن إطابة للمطعم والمشرب، والبعد عن معوقاتها من الذنوب صغيرها وكبيرها والتعدي في الدعاء والظلم، فإنه من أعظم الموانع.
عباد الله: ومن أحكام هذا اليوم مشروعية الإكثار من الدعاء، خصوصًا قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. رواه الترمذي وحسنه الألباني. ومنها أنه بفجر هذا اليوم العظيم يبدأ التكبير المقيد بأدبار الصلوات، وينتهي بغروب الشمس من يوم الثالث عشر. ومنها كذلك أنه إذا صادف يوم جمعة فإنه يصام ولو بدون صيام يوم قبله أو بعده، وعموم النهي محمول على ما إذا أفرده المسلم بالصوم لكونه يوم جمعة، أما من صامه لأمر آخر رغّب فيه الشرع وحث عليه فليس بممنوع، بل مشروع ولو أفرده بالصوم، لكن إن صام يومًا قبله كان أولى لما فيه من الاحتياط بالعمل بالحديثين، ولزيادة الأجر كما في فتاوى اللجنة الدائمة.
ومن الأحكام كذلك أنه يجوز صيام يوم عرفة مستقلاً، سواء وافق يوم السبت أو غيره من أيام الأسبوع؛ لأنه لا فرق بينها؛ لأن صوم يوم عرفة سنة مستقلة، وحديث النهي عن يوم السبت ضعيف لاضطرابه ومخالفته للأحاديث الصحيحة كما في فتاوى اللجنة الدائمة. ومن الأحكام أن يجوز صيام هذا اليوم ولو كان على المسلم قضاء من رمضاء، والمشروع للمسلم المبادرة بالقضاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بهدي خير المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: فإن الله تعالى قد شرع لكم الأضاحي والتقرب إلى الله بذلك، وهي شعيرة عظيمة وسنة مؤكّدة، ومن أراد أن يضحّي فلا يمسّ من شعره وظفره، وهذا النهي خاص بالمضحي دون من يضحَّى عنهم. وتجزئ الشاة عن الواحد وأهل بيته وعياله لحديث أبي أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون. رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
والمنصوص عليه في الأضاحي هي الإبل والبقر والغنم، ويشترط فيها أن تبلغ السن المطلوبة، وهي ستة أشهر في الضأن، وفي المعز سنة، وفي البقر سنتان، وفي الإبل خمس سنين. وسلامتها من العيوب لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أربع لا يجزين في الأضاحي: العوراء البين عورها، المريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي". وهو في صحيح الجامع. وأن تذبح في وقتها المحدد، وهذا الوقت هو من بعد صلاة العيد والخطبة، وليس من بعد دخول وقتهما، إلى قبل مغيب شمس آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من أيام ذي الحجة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان ذبح قبل الصلاة فليُعد". أخرجه البخاري ومسلم، ولقول علي -رضي الله عنه-: "أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده"، ويوم العيد هو أفضل وقت لها لفعله -صلى الله عليه وسلم-. ويذبحها بيده، ويأكل ويهدي ويتصدق منها.
أيها المسلمون: ونحن مقبلون غدًا إن شاء الله على يوم عظيم، ألا وهو يوم النحر، قال عنه -صلى الله عليه وسلم-: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب". رواه أهل السّنن، وقال: "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر". رواه أبو داود. ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر".
عباد الله: وينبغي للمسلم في هذا اليوم أن يتأدب بآداب، منها التنظف والتطيب ولباس الحسن من غير إسراف ولا فخر ولا خيلاء، وأن يخرج ماشيًا ويخالف في طريقه، فيذهب للمصلى من طريق ويرجع من آخر، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا". رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ"رواه البخاري. وأن يخرج بخشوع وتذلّل وانكسار بين يدي الله تعالى، وأن يخرج صائمًا، فلا يأكل إلا من أضحيته.
وعلى المسلم أن يحيي ليلة العيد بالتكبير، وأن يوسّع على نفسه وعياله من غير إسراف، وأن يجتنب المعاصي والمنكرات، ويكثر من الاستغفار والتوبة، ويجعل من يوم العيد يوم فرح وسرور وزيارة للوالدين والأقارب والأرحام والأصدقاء، ويجعل صدره واسعًا مسامحًا لكل أحد. ولا بأس بالتهنئة يوم العيد كأن يقول: تقبل الله منكم ونحو ذلك.
اللهم وفقنا لمرضاتك، واغفر لنا ولآبائنا...