البحث

عبارات مقترحة:

المتين

كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

حرارة الصيف.. دروس وعبر

العربية

المؤلف محمد ابراهيم السبر
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان -
عناصر الخطبة
  1. الاعتبار بتقلبات الأيام والفصول .
  2. الحَرُّ مِن دلائلِ الربوبية .
  3. حِكَمٌ في الحر والبرد .
  4. النعم الواقية من الحر .
  5. وجوب شكر تلك النعم .
  6. أجر الحَرِّ بالصبر والشكر .
  7. إقامة العبادات في الحر .
  8. هدي السلف في الحر .
  9. الحر يذكر بنار جهنم .

اقتباس

إن الحر ليس عائقاً عن عبادة الله، ولا صاداً عن طاعته، فالصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لقد رأيتنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل لَيَضَعُ يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحَدٌ صائمٌ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى حمد الشاكرين، واستغفره استغفار المنيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وقيوم يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمينُ إلى العالمين، صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى، أطيعوه ولا تعصوه، وراقبوه ولا تنسوه، واعلموا أنكم لديه محضرون، وعلى أعمالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

عباد الله: نُعايِشُ هذه الأيام شدةَ الحَرِّ اللافح، والصيف القائظ، والشمسُ تزداد سطوعاً، لترسل نورها وتنشرَ سياط لهبها على الأرض والأبدان، ولا تسأل عن حال الناس في هذه الأيام مع شدة الحر وهم يطلبون الظل الظليل، والهواء العليل، والماء البارد السلسبيل؛ لذا كان لا بد لنا مع الصيف من وقفات، ومع الحر من خطرات، ومع القيظ من عبر وعظات.

الزمانُ بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه، وصيفه وشتائه آيةٌ من آيات الله تبارك وتعالى التي نصبها للعباد موعظةً وذكرى، موعظةٌ في تقلُّبِ الأحوال وتصرفها، وغِيَرِ الأيام وتصرُّمها.

يذكرنا كَرُّ الغداة ومَرُّ العشي بأن الحياةَ مراحل، وأَن كُلَّ مرحلة لها قيمتُها ومكانتُها، ولكل منها تَبِعةٌ مطلوبةٌ، وحسابٌ قائمٌ، قال الحسنُ البصري -رحمه الله-: "ما من يوم ينشق فجره وتشرق شمسه إلا ينادي منادٍ يا ابن آدمَ أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيدٌ، فتزود مني بعملٍ صالحٍ، فإني لا أعودُ إلى يوم القيامة".

إنّ في هذا الحر دليلاً من دلائل ربوبية الله -سبحانه وتعالى-، فهو الذي يقلّب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد الصمد، المستحق للعبادة، سبحانه وبحمده! قال تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44]؛ فوجوده -سبحانه- وربوبيتُه وقدرتُه أظهرُ من كل شيء على الإطلاق.

وفي كُل شيءٍ له آيةٌ

تدُلُّ على أنَّهُ واحدُ

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحرّ والبرد، وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضرّ ذلك بالأبدان وأهلكها، وبالنبات، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك" اه.

عباد الله: ونحن نعيش ونعايش الهجير والرمضاء وهذا الحر اللافح، نتذكر ما منَّ به ربنا علينا وأنعم من الوسائل التي تقينا الصيفَ وقيظَه، من الظلال الوارفة، والأشجار اليانعة، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:81].

هل استشعرنا عظيم نعمة الله علينا حين يسَّر لنا من وسائل التبريد والتكييف المختلفة ما تطمئن به النفوس، ونتقي بها أذى الشمس وسمومها؟ أجهزة تقلبُ الصيفَ شتاءً والشتاءَ صيفاً، وتخففُ من لأواءِ الهجير، وتطفئُ لهبَ القيظ في المنزل والمسجد والسيارة والعمل! هل تأملنا ذلك فشكرنا ربنا على ذلك، وتركنا الإسراف في استعمال هذه الأجهزة؟!.

هل تأملنا فيمن يسكنون بيوت الصفيح والخيام والقش، فحمدنا ربنا وعبدناه حق عبادته! وإن هذا يدعونا لأن نتذكر أُسَرَاً تعيش بيننا لا يملكون ما نملك من هذه الوسائل الحديثة، وإنْ ملَكوها فلا يستطيعون دفع ما يترتب على عملها من أموال؛ فأعينوهم -عباد الله-، واحتسبوا الأجر من الله، قال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) [المزمل:20]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النارَ ولو بشق تمرة"، وقال أيضاً: "والمؤمن في ظل صدقته يوم القيامة".

ابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، فإذا جاء الصيف تضجَّر منه، وإذا جاء الشتاء تضجَّر منه، وفي ذلك يقول الناظم:

يتمنَّى المرءُ في الصيف الشِّتَا فإذا جاء الشِّتَا أَنْكَرهُ
فهْوَ لا يرضَى بحالٍ واحدٍ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرهُ!

وهذا من طبع البشر؛ ولكن المسلم يرضى بما قدر الله له من خير أو شر، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، أخرج مسلم عن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَباً لأمر المؤمن! إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".

ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومَن حُرِمَ الصبر على ما قدر الله فهو المحروم.

إن الحرّ ابتلاء من الله تعالى لعباده، فلا يجوز أن يترك المسلم ما أمره الله به من واجبات، فحين خرج النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة وكانت في حَرٍ شديدٍ، وسَفَرٍ بعيد، تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر، فجاء الوعيد من الله: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81].

وحين يخرج المصلِّي إلى صلاة الظهر أو العصر فيرى الشمس اللاهبة ويحس بالحر اللافح، ولكنه يطمع في رحمة رب العالمين، ويدخر هذا المخرج عند الله، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

إن الحر ليس عائقاً عن عبادة الله، ولا صاداً عن طاعته، فالصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لقد رأيتنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل لَيَضَعُ يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحَدٌ صائمٌ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة. رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "من صام يومًا في سبيل الله باعَدَ الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا" رواه النسائي بإسناد صحيح.

صيام الهواجر، ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه، بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دَأَبُ الصالحين، وسنة السابقين، والمحروم من حُرم.

روي أنّ أبا بكرٍ -رضي الله عنه- كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء، ووَصّى عمرُ -رضي الله عنه- ابنَه عبدَ الله فقال: "عليك بخصال الإيمان"، وسمَّى منها الصومَ في شدّةِ الحرِّ في الصيفِ.

ولما مرض معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مَرَضَ وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجَرْيِ الأنهار، ولا لغرس الأشجار؛ ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر.

لم يتأسف -رضي الله عنه- على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدنيا، ولكنه تأسف على قيام الليل، ومزاحمة العلماء بالركب، وعلى ظمأ الهواجر بالصيام في أيام الحر الشديد!.

خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكل معهم فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حَرُّه، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وأنت صائم! فقال: أبادر أيامي هذه الخالية.

ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- موصياً أصحابه: صوموا يوماً شديداً حرُه لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.

هكذا كان السلف الصالح حال الحر، وكان ابنُ عمرَ وغيرُه من السلف إذا شربوا ماءً بارداً بكوا وذكروا أمنيةَ أهلِ النار، وأنهم يشتهون الماء البارد، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيقولون لهم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50].

إن اشتداد الحر يا عباد الله -يُذَكِّرُنَا- بِحَرِّ جهنَّم -أعاذنا الله منها-، تلكم النار التي أعدها الله -جَلَّ وعلا- للكافرين، ويعذبُ بها مَن يشاءُ من عباده المؤمنين العاصين.

وإنَّ اشتدادَ الحَرِّ في هذه الدنيا هو من نفَس النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: ربِّ، أَكَلَ بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف، فهو أشدُ ما تجدون من الحر، وأشدُّ ما ترون من الزمهرير -يعني البرد-" متفق عليه، وفي رواية للبخاري قال: "فإذا اشتد الحر فأبْرِدُوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم"، والمقصود تأخيرُ صلاة الظهر إلى قرب صلاة العصر عند اشتداد الحر.

فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هي نفَسٌ من أنفاسِ جهنَّم، فيا ترى ما عذابها إذاً؟.

رأى عمر بن عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار، فبكى وأنشد:

من كان حين تصيبُ الشمسُ جبهتَه أو الغبارُ يخاف الشَّيْنَ والشَّعَثَا
ويألَفُ الظِّلَّ كي يُبْقِى بشاشَتَهُ فسوف يسكُنُ يوماً -راغِمَاً- جدثا
في ظِلِّ مُقْفِرَةٍ غبراءَ مُظْلِمَةٍ يُطيل تحت الثرى في غَمِّها اللُّبُثا
تجَهَّزِي بجهَازٍ تبلغين به يا نفسُ قبل الرَّدَى لم تُخْلَقِي عَبَثَا

وهل تذكّر العاصي لربه تلك النار التي توقد وتغلي بأهلها حين أقدم على معصية الجبار -سبحانه- مستهيناً بمولاه، وجاحداً لنعمته عليه، ومتناسياً ما أُعِدَّ من العذاب والنكال للكفَرة والفجَرة والعصاة؟ (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29]، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:14-12].

نسيتَ لَظَى عند ارتكابك للهوى

وأنْتَ تُوَقَّى حَرَّ شمسِ الهواجِرِ
كأنَّكَ لم تَدْفِنْ حميماً ولم تكن له في سياقِ الموتِ يوماً بحاضِرِ

ما أُنذر العباد -رعاكم الله- بشيءٍ أشرَّ من النار، النارُ موحشةٌ، أهوالُها عظيمةٌ، وأخطارُها جسيمةٌ، وعذابها أبداً في مزيد، لا يُفَتَّرُ عنهم وهم فيه مبلسون، كلما خَبتْ زادها الله سعيراً.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصخرةَ العظيمةَ لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعينَ عاماً، ما تفضي إلى قرارها"، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو راوي الحديث: "أكثروا ذكرَ النارِ، فإن حرَّها شديدٌ، وقعرَها بعيدٌ، وإن مقامعَها حديدٌ" رواه الترمذي.

ذكر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-النار يوماً، فقال لأصحابه: "أترونها حمراءَ كناركم هذه؟ لَهِيَ أسوَدُ من القَارِ!" رواه مالك بسند صحيح. أُوقدَ عليها ألفُ عام حتى احمّرت، وألفُ عامٍ حتى ابيضت، وألفُ عامٍ حتى اسودّت، فهي سوداءُ مظلمة، لها تغيظٌ وزفيرٌ، قال تعالى: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفرقان:12-13].

وقال تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر:43-44]، وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72].

اللهم أظلنا تحت ظلِّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلُّك، اللهم هون علينا الحساب، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفوراً.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا أيها المسلمونَ عبادَ اللهِ، إنَّ الناس حريصون كُلَّ الحرص على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائل الواقية من الحَر والبرد، وإذا ما اشتدت عليهم سمومُ الحرِ رأيناهم يتنقلون إلى المصايفِ والمنتجعاتِ الباردةِ، ويلوذون إلى المكيفات الحديثة أو الظلال الوارفة.

وكم هو عظيم الأسى عند ما نرى أكثرَهم لا يقيم وزناً لنار جهنمَ، ولا يعمل على وقاية نفسه ومَنْ تحت يده منها، والله -عز وجل- قد خاطب عباده المؤمنين، وحذرهم منها بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].

فيا مَن لا يطيقون حرارة الجو، يا من لا يتحمّل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنتم وحرارة جهنم؟! واللهِ ثُمَّ والله! لسنا لها بمطيقين، فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، جاء في الحديث انه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أنعم أهل الأرض من أهل الدنيا يؤتى به يوم القيامة، فيُغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرَّ بي نعيم قط" رواه مسلم. ينسى كل نعيم الدنيا بمجرد غمسة واحدة في جهنّم، مع أنه أنعم أهل الأرض!.

أليست جهنم -يا عباد الله- أولى أن يُفرّ منها؟! نصح العلامة الألبيري ابنه فقال:

تَفِرُّ مِنَ الْهَجِيرِ وَتَتَّقِيهِ فَهَلَّا مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا؟
ولستَ تطيق أهونها عذابا ولو كنتَ الحديدَ بِها لذُبْتَا
ولا تُنْكِر فإنَّ الأمر جدٌّ وليس كما حسبتَ ولا ظنَنْتَا

عباد الله: ولئن كان حرُّ الدنيا يُتقَّى بالملابس والثياب وغيرها؛ فإن حرّ الآخرة -وهو أشد وأفظع- لا يتقى بشيء من ذلك، إنما يتقى بالأعمال الصالحة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فعند مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار، ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً" قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.

سيأتي يومٌ شديدٌ الحَر، عظيم الكرب، الذي لا مفر منه، أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم".

ومنهم من ينعم بالاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" متفق عليه. فنسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا ووالدينا وذريتنا ومشايخنا والمسلمين منهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً) [النساء:57].

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم نبهنا من رقدة الغافلين، ومُنَّ علينا بعفوك يا أرحم الراحمين.

اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واعصمنا من الفتن والشرور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبَعَ رضاك يا ارحم الراحمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.