الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
أصل هذه المادة اللُّغَوية يعود إلى الفِراق، فيقال: بانَ الشيءُ بمعنى: افترَق عن غيره، والتبايُنُ: الافتراقُ والاختلاف؛ فالشيء البَيِّنُ: هو الواضحُ الجليُّ؛ لاختلافه عن غيره، وافتراقه عنه.
واسمُ (المُبِين): هو اسمُ فاعل من الفعل (أبان)؛ إذا أظهَر الشيءَ، قولًا كان أو فعلًا.
ينظر للاستزادة: "المقاييس" لابن فارس (1 /327)، "الصحاح" للجوهري (5 /2082).
هو اسمٌ ثابت من أسماء الله الحسنى؛ يعني: أنه تبارك وتعالى هو المُبِينُ لعباده سبيلَ الرشاد، والمُوضِّح لهم الأعمالَ الموجِبة لثوابه، والأعمالَ الموجِبة لعقابه، والمُبِين لهم ما يأتونه ويَذَرُونه. "اشتقاق الأسماء" للزجاجي (ص181).
وقال الخَطَّابي: «(المُبِينُ): هو البَيِّنُ أمرُه في الوَحْدانيةِ، وأنه لا شريكَ له». "شأن الدعاء" (ص102).
فهو إذن بمعنيينِ:
الأول: أنه سبحانه بيَّنَ للخَلْقِ ما يُقِيم عليهم الحُجَّةَ، وفصَّل لهم فيه.
والثاني: أنه بيِّنُ الألوهية والوَحْدانية؛ فلا يَخفَى على أحدٍ.
ما دلت عليه اللغةُ يدل على ما دل عليه الوحيُ من إثباتِ الصفة، ويَزيد بأن لفظَ (المُبِين) يدل على الذاتِ العَلِيَّةِ الموصوفة بهذه الصفة.
انظر للاستزادة: "القواعد المثلى" لابن عثيمين (ص8).
يدل اسمُ الله (المُبِينُ) على إثبات صفة (الهداية) لله سبحانه وتعالى.
الفرقُ بين الاسمين: أن البيانَ والدَّلالة والتعريفَ بطريق الخير والشر إنما هي ضربٌ من ضروب الهداية؛ إذ هي ثاني الأنواع الأربعة التي يذكُرُها أهلُ العلم في معنى الهداية؛ وهي:
* هدايةٌ عامة تشمل جميعَ المخلوقات؛ البشَرَ وغيرهم.
* وهداية البيان والدعوة، وإقامة الحُجَّة على الناس.
* وهداية التوفيق لخاصَّةِ العباد.
* والهداية يومَ المَعاد إلى طريق الجنة والنار. انظر: "شفاء العليل" لابن القيم (ص65).
فاسم (الهادي) أعَمُّ من (المبين) على هذه القِسمة، والله أعلم.
ورَد اسم الله سبحانه (المُبِينُ) في موضعٍ واحد في القرآن الكريم؛ وهو قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٖ يُوَفِّيهِمُ اْللَّهُ دِينَهُمُ اْلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلْحَقُّ اْلْمُبِينُ﴾ [النور: 25].
قال البَغَويُّ في تفسير الآية: «يُبِينُ لهم حقيقةَ ما كان يَعِدُهم في الدنيا.
قال عبدُ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: وذلك أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ كان يشُكُّ في الدِّينِ، فيَعلَمُ يوم القيامة أن اللهَ هو الحقُّ المُبِين». "معالم التنزيل" (6 /28).
مَن آمَن باسم الله (المُبِين)، أيقَن أنه لا حُجَّةَ له في الكفرِ والعصيان؛ لأن اللهَ قد بيَّن لعباده ما لهم وما عليهم، فمع ما قام في العقولِ والفِطَر من الآيات الدالة على وَحْدانية الله عز وجل، وتفرُّدِه بالخَلْقِ والأمر: إلا أن اللهَ لا يحاسِبُ العبادَ بهذا المقتضِي فحسب؛ بل يُرسِل الرُّسُلَ المبلِّغين المبيِّنين؛ حتى تنتفيَ حُجَّةُ الناسِ على ربهم تمام الانتفاء؛ كما قال سبحانه: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اْللَّهِ حُجَّةُۢ بَعْدَ اْلرُّسُلِۚ﴾ [النساء: 165]، وقال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولٗا﴾ [الإسراء: 15].
ويَلزم من هذا: أن يُغرَسَ في قلبِ العبد حُبُّ ربه جل وعلا عندما يستشعِرُ عظمةَ هذه النِّعمة؛ نعمةِ الهداية والإبانة التي لولاها لكان الخَلْقُ في حَيْرةٍ وضياع!
يمُنُّ اللهُ على عباده بذلك فيقول بعد أن فصَّل في تشريعاتِ النكاح: ﴿يُرِيدُ اْللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: 26].
اللهُ سبحانه (مُبِينٌ)؛ فما جاء منه فهو مُبِينٌ؛ ولذلك وصَف كتابَه الكريم بأنه مُبِينٌ في مواضعَ كثيرة، فقال: ﴿قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اْللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ﴾ [المائدة: 15]، وقال: ﴿تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ﴾ [يوسف: 1].
ووصَف نبيَّه ﷺ بأنه مُبِينٌ، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف: 184]، وقال: ﴿وَقُلْ إِنِّيٓ أَنَا اْلنَّذِيرُ اْلْمُبِينُ﴾ [الحجر: 89].
«فاللهُ تبارك وتعالى المُبِينُ لعباده سبيلَ الرشاد، والموضِّح لهم الأعمالَ الموجِبة لثوابه، والأعمالَ الموجِبة لعقابه، والمُبِينُ لهم ما يأتونه ويَذَرُونه».
الزَّجَّاجي "اشتقاق الأسماء" (ص181).
«ففي القرآنِ البيانُ الشامل الواضح لكلِّ ما يحتاجه بنو الإنسان في حياتهم، بأفصَحِ عبارة، وأجمَلِ أسلوب.
في القرآنِ بيانُ كلِّ شيء من البداية إلى النهاية؛ حتى يستقِرَّ أهلُ الجنة في نعيمِهم، وأهلُ النار في جحيمِهم».
صالح بن إبراهيم البليهي "الهدى والبيان في أسماء القرآن" (ص72).