الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | بركات أحمد بني ملحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
إن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمَّرَت الإنسانية، وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وانهيار الأنظمة الرأسمالية في عالمنا، وحقٌّ على الله أنه ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، فما نراه الآن في العالم وفي عالمنا العربي من تغيرات ليس إلا توطئة وتمهيدا للخلافة الإسلامية ..
الحمد لله الذي جعل المؤمنين فيما بينهم إخوانا، وأوجب عليهم أن يكونوا في نصرة الحق أعوانا؛ والحمد لله الذي ربط الأمور بأسبابها، وجعل أفضل طريق للوصول إلى المقصود أن تؤتى البيوت من أبوابها.
واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من النار وعذابها، ونأمل بها الفوز بالجنة وطيب مأكلها وعذب شرابها.
واشهد أن محمدا عبده ورسوله، أنصَح مَن وعظ، وأحكم الخلق فيما قصد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم في المقال والفعال والمعتقد.
يقول الحق -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
عباد الله: إن الناظر إلى حال هذه الأمة يرى أنها تتعرض لزلزال عظيم، وتجتاحها أمواج التغيير والتبديل؛ لحكمة أرادها الله لهذه الأمة، لأنه علم ما فيها من الخير العظيم، فنظر الله إلى حالها، فأراد أن يبدل حالها إلى أحسن حال؛ لأنها غيرت ما بداخلها، فأصابت قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فاجتاحتها رياح التغيير من كل حدب وصوب، إنها سنة الله في خلقه وكونه.
عباد الله: إن الأمة التي لا تغير شيئا في حياتها يبقيها الله على حالها، والأمة التي تغير وتنوي التغيير يغير الله حالها من حال إلى حال، فأمتنا ظهرت فيها صحوة إسلامية من عقود مضت، وبدأت ثمارها تنضج شيئا فشيئا؛ ولكننا، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولكنكم قوم تستعجلون".
فبدأت سنّة الاستبدال لهذه الأمة لأنها لا ترقى إلى درجة تحمل المسؤولية، مسؤولية لا اله إلا الله، فبدأ الله باستبدال جيل المعصية والخذلان بجيل الطاعة والإيمان، وجيل العمالة والولاء للكفر وملته بجيل التحرر والبراءة من الكفر وزمرته، مصداقا لقوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
فأمتنا تولت عن دين الله؛ ولكن الله حفظ دينه من الضعف والهوان، فكان الضعف والهوان فينا نحن المسلمين؛ فظهرت سنة الاستبدال جلية واضحة وضوح الشمس في هذه الأمة، فما نراه من ثورات وتغييرات وإصلاحات وترتيبات كلها تجري بقدر الله وأمره وترتيبه ورحمته، يريد الله بها خيرا لهذه الأمة، وتتفاوت الأمور بتفاوت الظلم، وبتفاوت الأدوار والأقدار، كل ذلك يصب في مصلحة الأمة ودينها؛ لكي يعود الإسلام ليحكم الأرض: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].
عباد الله: أمم الكفر قد اجتمعت على الإسلام وأهله، قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32]، وشعارهم: أبيدوا الإسلام، أبيدوا أهله، دمروا الإسلام، دمروا أهله. وما تُخفي صدورهم أَعظم، فالكفر ملته واحده .
عباد الله: والمستقبل للإسلام والمسلمين، رغم أنف الكافرين والمنافقين، علمنا ذلك من الواقع المشهود الذي لا يختلف فيه اثنان؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو الناس لدين الإسلام ومعه قلة قليلة مستضعفون في مكة، ثابتون على الحق لا يضرهم من خالفهم، فمنهم مَن مات تحت التعذيب، ومع هذا بشَّرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنصر والتمكين، فقال لهم: "والله! لَيُتِمَنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
ولم يكتف بذلك رسول الله؛ بل بشَّرهم -وهم مستضعفون- بأنهم سيفتحون اليمن والشام والعراق ومصر، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "تُفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومَن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
وقال لهم: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحما".
يخبرهم النبي بذلك وهم في مكة ضعفاء ومستضعفون، ففتحوا تلك البلاد، وستفتح الأرض بإذن الله إلى أن يعم دين الله جميع بقاعها، (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:6].
نعم عباد الله! المستقبل للإسلام، واقعنا يشهد بذلك؛ ولذلك : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ ، وَالرِّفْعَةِ فِي الدِّينِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلادِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا عَمَلا لا يُرِيدُ بِهِ الآخِرَةَ فَلَيْسَ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ".
إذن؛ فنحن نبشر المستضعفين في الأرض في كل زمان ومكان بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض.
ويقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزّ عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر".
عباد الله: فَهَا نَحْنُ نَتَقَلَّب فِيمَا وَعَدَنَا اللَّه وَرَسُوله؛ ولكن نحتاج للصدق مع الله، ولنصرة دينه، وأن نبدأ التغيير مِن أنفسنا، قد يبطئ النصر لأسبابٍ كثيرة جداً، ولكنه آتٍ بإذن الله تعالى في نهاية المطاف، مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب، ولا من باب تسكين الآلام وتضميد الجراح، كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33، الصف:9].
ومن البشائر وعْد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].
وقد وعد الله في هذه الآية، وهو الذي لا يخلف الميعاد، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله -عز وجل-؟!، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق؟ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص:5].
عباد الله: إن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله، أما مَن ترك دين الله بلا اهتمام وتعاقَدَ مع الشيطان ليترك لأعدائه مكانا للتوغل فى أنحاء وعروق الأمة لكي يقضوا على هذا الدين، فقد لعنهم الله بكفرهم، وما لهم من دون الله من ولى ولا نصير.
عباد الله: إن هذا الذي يحدث للمسلمين ما هو إلا بداية النهاية لعصر الطغيان الكافر على المسلمين، وبشارة أيضا بقدوم فجر جديد، ألا وهو فجر الإسلام، واستعادة النصر لهذا الدين الحنيف.
فأبشروا -معاشر المسلمين- ففجر الإسلام قادم لا محالة، يقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ" ثُمَّ سَكَتَ .
إن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية، وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وانهيار الأنظمة الرأسمالية في عالمنا، وحقٌّ على الله أنه ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، فما نراه الآن في العالم وفي عالمنا العربي من تغيرات ليس إلا توطئة وتمهيدا للخلافة الإسلامية، وزوالا لمرحلة الملك الجبري، وخاصة أن الأرض مُلِئَتْ ظلما وجورا وفسادا.
فالنصر قادم لا محالة، والعزة والتمكين قادمان بنا وبغيرنا إلى كل مكان، فلنتشرف أن نكون مِن حمَلَةِ هذا الدين، ورواد هذه الطريق إلى العزة، فكلنا على ثغرة من ثغور الإسلام، فلا يؤتينَّ من قِبَلِك، وصدق الله العظيم: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) [الرعد:31]؛ فالعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.
الخطبة الثانية:
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل الحسن، وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين، كما فعل يوم الأحزاب: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
نعم أيها المؤمنون! فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله -جل وعلا- لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل؛ وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أن الحق الذي من أجله خلقت السماوات الأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، مَعَنَا.
وكما قال سيد قطب -رحمه الله تعالى- في رصيد الفطرة، قال: يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائنٍ مَن كان في ذلك الزمان إن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار!.
ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً؟ كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها؟ إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟.
لقد وقع الذي وقع من غَلَبَةِ هذا المنهج؛ لأنه تعامل مِن وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة، إذن معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة! والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله: إنه وعد الله، وكلمته: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].
إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية، كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام.