العربية
المؤلف | أحمد عبدالرحمن الزومان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
الغضب حالة تهجم على الإنسان فتغير ظاهر الغضبان وباطنه، فربما انطلق اللسان بالسب وفاحش القول الذي يستحيي منه العاقل، وربما تحركت اليد للضرب والإفساد حتى نفسه ربما آذاها. وضرر الغضب على القلب أشد؛ فيولد الحقد والبغضاء وإضمار الشر للآخرين، ولو نظر الغضبان إلى نفسه حال الغضب من قبح صورته واستحالة خلقته وفحش قوله لاستحيى من نفسه وتعجب كيف يصدر هذا منه ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: الغضب حالة تهجم على الإنسان فتغير ظاهر الغضبان وباطنه، فربما انطلق اللسان بالسب وفاحش القول الذي يستحيي منه العاقل، وربما تحركت اليد للضرب والإفساد حتى نفسه ربما آذاها. وضرر الغضب على القلب أشد؛ فيولد الحقد والبغضاء وإضمار الشر للآخرين، ولو نظر الغضبان إلى نفسه حال الغضب من قبح صورته واستحالة خلقته وفحش قوله لاستحيى من نفسه وتعجب كيف يصدر هذا منه، وحينما يسكن الغضب يندم الغضبان على ما بدر منه ويحاول إصلاح ما أفسد.
لكن الغضب ليس صفة نقص دائمًا، بل هو صفة كمال أحيانًا؛ فلذا يتصف به ربنا، فقد أخبرنا -تبارك وتعالى- عن غضبه على الكافرين بقوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [الفتح: 6].
بل يغضب ربنا من فساق هذه الأمة، فأخبرنا عن نفسه أنه يغضب على بعض مرتكبي الكبائر من هذه الأمة كقوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
وكذلك الأنبياء يغضبون لله، فغضبهم محمود، فربنا يقص لنا ما حصل لموسى بعد أن رجع من مناجاة ربه ووجد قومه أشركوا بالله وعبدوا العجل: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 150]، والأسف أشد الغضب، فألقى موسى الألواح التي أخبر الله عنها بقوله تعالى: (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف: 154]، وجر رأس أخيه ولحيته ظنًّا منه أنه قصر في إنكار المنكر عليهم؛ فغضبته لله -تبارك وتعالى-.
وكذلك الصالحون يغضبون غيرة لله -تبارك وتعالى-؛ فهذا عمران بن حصين حينما حدث بحديث: "الحياء خير كله". قال بُشَيْر بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارًا لله ومنه ضعفًا. قال أبو قتادة العدوي: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: ألا أُرَانِى أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعارض فيه. فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير فغضب عمران، قال: فمازلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نُجَيْد، إنه لا بأس به. رواه مسلم (37).
فالغضب منه غضب محمود إذا كان غضبًا لله ولم يتجاوز الغضبان المشروع، ومن الغضب غضب مذموم، وهو الذي يتجاوز الغضبان بسببه حدود الله.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: "لا تغضب". فردد مرارًا، قال: "لا تغضب". رواه البخاري (6116).
فأوصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم الغضب، وأراد تجنب أسباب الغضب، وإلا الغضب من الأحوال التي ترد على النفوس ولا يمكن دفعه حين تمكنه من الشخص.
من أعظم أسباب الغضب المجادلة؛ ففي كثير من الأحيان يبدأ النقاش ثم يتحول إلى مجادلة ونزاع يُغْضِب ويورث العداوة، فكان من حكمة الشارع النهي عن المجادلة؛ فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسَّنَ خلقه". رواه أبو داود (4800) بإسناد حسن.
فرغّب في ترك المراء ولو كان الشخص على حق، ووعد فاعل ذلك ببيت في أدنى الجنة، فلنبين ما نعتقده ثم نتوقف عن النقاش حينما نرى أن الأمر خرج عن طلب الحق وبيانه إلى الانتصار للنفس والتنقص.
الغضب من الشيطان، وهو الحامل عليه، فمن أنفع أسباب دفعه قبل وقوعه، ورفعه بعد وقوعه: الالتجاء لله -عز وجل- والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ ففي حديث سليمان بن صُرَد -رضي الله عنه- قال: استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...". رواه البخاري (6115) ومسلم (2610).
ومن أسباب دفع الغضب وعدم العمل بما يمليه عليه: تذكر وعد الله لمن كظم غيظه أثناء الغضب، وعفا عمن أساء إليه كقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى". رواه الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- (6081) بإسناد حسن.
الخطبة الثانية:
روي من أسباب رفع الغضب: الوضوء وجلوس الغضبان واضطجاعه؛ فعن عطية بن عروة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ". رواه الإمام أحمد (17524) بإسناد ضعيف.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ". رواه الإمام أحمد (20841) بإسناد ضعيف.
ومن أسباب دفع الغضب: مفارقة المكان إذا شعر الشخص أنه في بدايات غضبه فليفارق المكان، فمن أسباب سكون الغضب: البعد عن المؤثر.
ومن أسباب دفع الغضب: مصاحبة أهل الحلم؛ فلهم أثر فيمن يخالطهم، فيستفيد مخالطهم من حسن صفاتهم، ويحاول أن يجاريهم في حسن الأخلاق وينكف عن سيئها.
ومن أسباب دفع الغضب: حسن الظن بالمسلمين، وحمل ما يصدر منهم على المحمل الحسن، فليس كل ما يصدر منهم بدافع الإساءة.
ومن أسباب دفع الغضب: توطين النفس على أن الشخص مهما يبذل فلا بد من وجود من يخالفه الرأي.
أخي: ليس رفع الصوت ممدحة أثناء الغضب، ولا الشتم والضرب والتكسير، فهذا كلٌّ يستطيعه، إنما الممدحة الحقة ضبط النفس والإمساك عما لا يحل من القول والفعل؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". رواه البخاري (6114) ومسلم (2609).
الغضبان في حال الغضب يحب التشفي وإزالة ما يجده في نفسه، فيتكلم بالكلام الذي يندم عليه، وربما حاول إصلاح ما بدر منه، ثم لا يستطيع ذلك، فمثلاً معظم حالات الطلاق تكون حال الغضب، وبعد ساعات قليلة يبحث المطلق عن مخرج لما بدر منه من طلاق، وقد يجد مخرجًا وقد يحال بينه وبين الرجعة، فأمسك عليك لسانك حال الغضب.
الحذر من التصرف أثناء الغضب؛ لأن حالة الغضب لا تمكِّن الشخص من اتخاذ القرار الصائب، فإياك أن تتخذ قرارًا في مرؤوسيك أو أن تنزل عقوبة بأحد من الناس بسبب وظيفتك وأنت غضبان، أو أن تؤدب أولادك أو من تحت يدك من طلاب وغيرهم، فأجل الأمر إلى بعد سكون الغضب، وستحمد ذلك في حال الغضب، نحن بحاجة إلى مجاهدة النفس والصبر؛ ففي حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه". رواه الخطيب البغدادي في تاريخه وحسنه الألباني في الصحيحة (342).
وفي حديث أبي سعيد الخدري: "ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خيرًا وأوسعَ من الصبر". رواه البخاري ومسلم (1053)، فلا تستسلم أخي للغضب، وتظن أنك لا تستطيع أن تهذب من سلوكك، ولا أن تغير من طباعك، نعم لا تستطيع أن تنسلخ من كل صفاتك، لكنك بإذن الله قادر على التخلص من الكثير من الصفات السيئة أو التخفيف منها، ومن ذلك كثرة الغضب وإساءة التصرف أثناءه.
الغضب العارض لا يخلو منه شخص مهما يكن من رجاحة العقل وكمال الديانة، إنما ينهى عن كثرة الغضب والعمل به أثناءه، فعن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ، أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ، فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ أُمِّي: احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ، أَوْ أَضْيَافِكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ: مَا عَشَّيْتِهِمْ؟! فَقَالَتْ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا، أَوْ فَأَبَى، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ -أي دعا بالجدع، وهو قطع الأنف وغيره من الأعضاء- وَحَلَفَ لاَ يَطْعَمُهُ، فَاخْتَبَأْتُ أَنَا فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ -أي يا لئيم-، فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ، أَوِ الأَضْيَافُ، أَنْ لاَ يَطْعَمَهُ، أَوْ يَطْعَمُوهُ، حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا...". رواه البخاري (6140) ومسلم (2057).
فالصديق غضب بسبب تأخر عشاء ضيوفه، واختبأ منه ابنه عبد الرحمن خشية عقابه، لكن غضبه عارضٌ زال في وقته، ولم يعمل بما يمليه عليه الشيطان، وليكن هكذا غضب من غضب منا.