البحث

عبارات مقترحة:

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

آداب المعاملات بين الزوجين

العربية

المؤلف صالح بن عبد الله بن حميد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. الأسرة هي اللَّبِنةُ الأولى في البِنية الاجتماعية .
  2. الزوجان شريكان لا غريمان .
  3. التسرُّعُ في إيقاع الطلاق .
  4. جناية الطلاق على الأبناء .
  5. كراهة الطلاق في الشريعة والتنفير منه بغير حاجة .
  6. آداب الطلاق وشروطه .

اقتباس

وتماسُك المُجتمع وسلامتُه ونموُّه وانسجامُه يتمُّ بإمداده بأعضاء فاعلين مُنسجِمين، وذلك يبدأُ -بإذن الله- من عتَبَة الأسرة؛ فهي اللَّبِنةُ الأولى في البِنية الاجتماعية، والمرأةُ والرجلُ شقيقان قرينان لهما دورهما المُشترك، والتمازُجُ في الأسرة والمُجتمع، فهما الزوجان والأبَوان والأخ والأخت، يعملان ويكدَحان ويُكافِحان من أجلِ عيشٍ كريمٍ، وحياةٍ سعيدةٍ مُستقرة: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا) ..

الحمد لله، الحمد لله دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضحَ بفضله سبيلَ الرشاد، وقهرَ بحُجَّته أهل العناد، أحمده سبحانه وأشكره ونِعَمُ ربنا بالشكر تزداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خصَّه ربُّه بالمقام المحمود والحوض المورود في يوم المعاد، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الأسياد، وأصحابه البَرَرَة الأمجاد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التناد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا مُتطاوِل الآماد.

أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة: 281]، فمن اتَّقى الحسابَ تورَّعَ في الاكتِساب، ومن قنِع باليسير هانَ عليه العسير، والأيامُ تُبلِي الأفعال، وتمحُو الآثار، وتُميتُ الذكرَ.

فاجتهِدوا في فعلٍ لا يَبلى، وذكرٍ لا يُنسَى، وآثارٍ لا تُمحَى؛ من الإيمان والإخلاص، وبذل المعروف، وحبِّ الناس؛ فقد جُبِلَت القلوب على حبِّ من أحسنَ إليها، وبلينِ الكلامِ تدومُ المودَّة، وبحُسن الخُلُق يَطيبُ العيشُ، وبخفضِ الجَناح تستقيمُ الأمور: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34، 35].

أيها المسلمون: يقول الله -عزَّ شأنُه-: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء: 89]، الإنسانُ مدنيٌّ بطبعه، اجتماعيٌّ بفِطرته، يعيشُ مع الجماعة، يتأثَّرُ بها، ويُؤثِّرُ فيها، يُقيمُ علاقاته الاجتماعية بدءًا من طفولته المُبكرة مع أمه وأبيه، ثم أفراد أسرته وأقاربه وجيرانه، ليمتدَّ اتصالُه وتفاعُله في دوائر مُتصلة؛ في مدرسته، وسوقه، وعمله، وسائر أنحاء بلده، ومُجتمعه الكبير.

وتماسُك المُجتمع وسلامتُه ونموُّه وانسجامُه يتمُّ بإمداده بأعضاء فاعلين مُنسجِمين، وذلك يبدأُ -بإذن الله- من عتَبَة الأسرة؛ فهي اللَّبِنةُ الأولى في البِنية الاجتماعية، والمرأةُ والرجلُ شقيقان قرينان لهما دورهما المُشترك، والتمازُجُ في الأسرة والمُجتمع، فهما الزوجان والأبَوان والأخ والأخت، يعملان ويكدَحان ويُكافِحان من أجلِ عيشٍ كريمٍ، وحياةٍ سعيدةٍ مُستقرة: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 35]، (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا) [طه: 123].

ومن هنا؛ فإن الزواجَ والحياةَ الأسرية هي محلُّ الاهتِمام في ديننا، ومحلُّ العناية من علمائنا وأهل الفِكر والرأي فينا وعلماء الاجتماع والنفس؛ لأن هناءَ الزوجين واستقرارَهما واستمرارَهما هو هناءُ الحياة واستمرارُها، وسعادةُ المُجتمع واستقرارُه.

والزوجان شريكان كريمان جعل الله بينهما مودَّةً ورحمة، يخوضان مُعترَكَ الحياة، يُحقِّقان أهدافَهما الهدفَ تلوَ الآخر، والزواج ليس رابطةً بين شخصين فقط؛ بل هو علاقةٌ وثيقةٌ بين أُسرتين وميثاقٌ غليظٌ بين زوجين: (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 21].

ميثاقٌ غليظٌ ليس من اليسير نقضُهُ؛ فالزوجان قبل الزواج كان لهما طبائِعهما وتصوُّراتهما وهواجسهُما ومخاوِفهما وآمالُهما، ناهِيكم بتأثير العادات والتقاليد والأعراف والمُستوى المعيشي والاجتماعي، وبعد الزواج يحتاجُ الزوجان إلى تكيُّفٍ وتأقلُمٍ وإعادةٍ للنظرِ في تصوُّراتهما وهوَاجسهِما ومخاوفهما وآمالهما، مما يحتاجُ معه كلُّ واحدٍ فيهما إلى التعديلِ والتقييم، سواء في ذلك الزوجان والأُسرتان والمُحيطون بهم.

أيها المسلمون: الزوجان شريكان لا غريمان، ما كان في مصلحة الزوج فهو في مصلحة الزوجة، وما كان في مصلحة الزوجة فهو في مصلحة الزوج، ومن بعدهما مصلحة الأُسرة والأقارب والمُجتمع، فتعاوُنهما تبادُلٌ للمصالح بينهما، ولا مانع أن يختلفا في تقدير المصلحة ورُجحان رأيٍ على آخر عن تشاوُرٍ منهما وتراضٍ، ولكن يجبُ أن لا يختلِفا على المصلحة العُليا وتقديرها وتقديمها، إنها الاحترامُ المُتبادَل، والمُحافَظةُ على تماسُك الأسرة، والتوافُق والتضحيةُ من الجانبين، والتنازُل المُتبادَل عن بعض المطالبِ الشخصية في الحياة الأُسرية.

إن الإدارة الحكيمة والنظرَ الواعي للمصالح وتقديرها، واليقين أن المُستهدَف هو مصلحةُ الجميع؛ فالرِّبحُ للجميع، والخسارةُ على الجميع.

يجبُ إدارة الأُسرة بالرِّفق والمودة والصبر والتصبُّر والهدوء والروِيَّة والحوار الهادِف والتفاهُم المُحاط بالتسامُح.

يجبُ الابتِعادُ عن المُكابَرة ومفهوم النصر والهزيمة والرِّبح والخسارة، أو فرض الشخصية في الحياة الأُسرية، فليس في البيت مُنتصرٌ ولا مهزوم؛ بل النصرُ للجميع والهزيمةُ على الجميع.

السعادةُ ليست في وَفرة المال، ولا علوِّ الجاه، ولا غلَبَة واحدٍ على الآخر، ولكنها بالإيمان، وصفاء النفس، وراحة الضمير، والبُعد عن النفعية الشخصية البَحتة والأنانية القاتِلة، وابتِغاء رضا الله، ثم صلاح الأُسَر.

معاشر المسلمين: في طبيعة الإنسان أنه في حال الغضب والاستِياء لا يذكُر إلا ما كان غيرَ حسنٍ، ويتصيَّد الأخطاء يرصُدُها، ويُكبِّر صغيرَها، ويُطيلُ قصيرَها، ويُعسِّرُ يسيرَها، مع أن من المعلوم أن أغلبَ بني الإنسان صوابُهم أكثرُ من خطئهم، وحسناتُهم تفوقُ سيئاتِهم، وإيجابياتهم تغلِبُ سلبياتِهم، ولكن في حال الغضب والكُره والسَّخَط لا يرى الغاضِبُ إلا السوءات، ولا يُظهِرُ الساخِطُ سوى الأخطاء، ويعمَى عن الحسنات والفضائل، ونبيُّنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- يُنبِّهُ إلى هذه الطبيعة البشرية، فيُوصِي بقوله في الحديث الصحيح: "لا يفرك مؤمنٌ مُؤمنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخر". رواه مسلمٌ.

معاشر المسلمين: الموضوع واسعٌ، والحديثُ مُتشعِّبٌ، والخوضُ فيه مهمٌّ، والعنايةُ به مُلِحَّة؛ بل إن قضيةَ الأُسرة ومُشكلاتها من أهم القضايا، وإن مما يُؤسَفُ له: أن الناسَ في بيوتهم، والأزواج في مُشكلاتهم ليس لهم تفكيرٌ في العلاج إلا في الطلاق.

التسرُّعُ في إيقاع الطلاق من غيرِ تروٍّ ولا فهمٍ للبواعِث ودراسةٍ للآثار والتَّبِعات، التسرُّع يُورِثُ الاكتِئاب والانعِزال واليأس والإحباط، وتتوارَدُ الأفكارُ والخواطرُ والشُّكُوك والوساوِسُ، فيفقِدُ صاحِبُه الاتزانَ في التصرُّف، والعدلَ في الحُكم، المُتسرِّعُ لا يتَّسِمُ بالثباتِ والاستِقرار؛ بل بالتقلُّب، وعدم الرَّصانة والتوازُن الاجتماعي.

الزوجُ لن يكون سعيدًا وهو يرى بيتَه يتهدَّمُ، وأُسرتَه تتناثَر، وحيويَّتَه تذوب، كيف يرعَى أبناءَه وبناته، إنه مُشتَّتُ الذِّهنِ مُوزَّعُ الفِكر.

الطلاقُ المُتسرِّعُ زلزالٌ أُسريٌّ يُهدِّدُ كيانَ الأُسرة، ويهدِمُ أركانَ البيت، وهل للبيت إلا رُكنان: الزوج والزوجة، والأبُ والأُمُّ؟!

معاشر الإخوة: الطلاقُ من غير حاجةٍ حقيقيةٍ ولا أسبابٍ صحيحةٍ يُمثِّلُ مُشكلةً لا حلَّ لها؛ بل مُشكلةً مُتعدِّيةً لا تخُصُّ الطليقَين؛ بل تتعدَّى للأطفال، ثم أفراد الأُسرتين، ثم المُجتمع.

الطلاقُ المُتعجِّلُ فراقٌ لأُنسِ الصحبة والسَّكَن والسكينة والاستقرار، الخلافُ الناجِمُ عن الطلاق يتَّسِمُ بالعُنف والكراهية المُتبادَلة، ويُثيرُ المشاعِر العُدوانية بين الأطفال في فجوةٍ نفسيَّةٍ واسِعة تُباعِدُ بين الطفل وبين المُحيطين به يشعُرُ معها بعدم التقبُّل، والقُصُور، والإهمال، وفُقدان الحُبِّ والتقبُّل الأُسريِّ، وعدم الاهتمام بين الزملاء، مع الشعور بالحُزن والتشاؤُم، وعدم الشعور بقيمةِ الذات، والبُعد عن المُشارَكة والتفاعُل والتواصُل الاجتماعي، والفشل، الطفلُ يشعُرُ بالفشل وتأنيبِ الضمير ومُحاسَبةٍ داخليَّةٍ عنيفةٍ، وشعورٍ بالذنبِ والندَم يزيدُ في المُعاناة والعُزلة والانغِلاق.

الأولادُ في أُسرة الطليقين ينتمون إلى أُسرةٍ مُفكَّكةٍ مُتفرِّقة، الحنانُ فيها ضعيفٌ إن لم يكن مفقودًا، يفقِدون معه الأمن والحماية والاستِقرار؛ بل إنهم فرائِسُ صراع الوالدَيْن، سواء بتجالُب الحضانة والرعاية، أو بتدافُعها والتخلِّي عنها.

وقد يسمعُ الأولادُ من أحد الوالدَيْن أو من كليهما في الآخر كلامًا غيرَ سديدٍ ولا حكيمٍ؛ ما يُفقِدُهم الثقةَ بأنفسهم ووالدَيْهم ومُجتمعهم، ومعلومٌ تأثيرُ ذلك كله على سُلُوكهم وتعامُلهم ودراساتهم وعلاقاتهم.

الوالِدان هما مدَدُ الأولاد بالعاطِفة والعقلانية والمُساعَدة في مسارات الحياة، ولا سيَّما في السنوات المُبكِّرة سنوات التنشِئة والتربية والتعليم، وبالانفِصال يفقِدُ الأولادُ التوجيهَ المُتَّزِن، ناهِيكم لما يتعرَّضُ له هؤلاء الأولاد من احتِمال الانحرافِ والجُنوحِ والوقوع في أحضان قُرناء السوء والبيئات الموبوءَة، والتخلُّف الدراسي، والأمراض النفسية، والتشرُّد، والمُخدِّرات، والتسوُّل، وانتشار الجريمة، وهي مُشكلاتٌ خطيرةٌ، وآثارٌ مُتعدِّيةٌ على المُجتمع كله.

أيها الأحِبَّة: أما المرأةُ فإن ثقافة كثيرٍ من المُجتمعات فيها ثقافةٌ قاصِرة؛ بل خاطِئة، فالمُطلَقةُ عندهم مُدانةٌ في جميع الأحوال، تعودُ إلى البيت حاملةً مع متاعها جراحَها وآلامها ودموعها في مُعاناةٍ نفسيَّةٍ لا تكادُ تُطاق، هذه الثقافةُ الخاطِئة تُحاصِرُ المرأةَ المُطلَّقة بنظرةِ انتِقاصٍ ورَيبٍ، مما تشعُرُ معه أن السهامَ مُوجَّهةٌ إليها، يُشعِرونها بالذنبِ والفشلِ وخيبةِ الأمل، بل تشعُرُ وكأن المُجتمع يتنصَّلُ من مسؤوليته نحوَها ونحو أطفالها والحُنُوِّ عليهم.

وبعدُ:

عباد الله: فالطلاقُ على غير سُنَّةٍ بغيضٌ، يُولِّدُ حالةً نفسيَّةً كريهةً، ومُعاناةً أُسريَّةً ثقيلة، تنزِلُ بكلكَلِها على النفسِ والجسَدِ، فيهتزُّ الجسد، وينكسِرُ القلب، ويضيقُ الصدرُ، ويُحِسُّ صاحِبُه -رجلاً كان أم امرأة- بخيبةِ الأمل، والشعور بالقلق والنُّفرة؛ حتى قالوا: إن الفراقَ بالطلاق أصعبُ منه بالموت، وإن كان كلاهما مُوجِعًا؛ لأن الفقدَ بالطلاق يُولِّدُ مُحاسبةً ورِيبةً ومسؤولية، أما الفراقُ بالموت فيُولِّدُ الحُزنَ والعطفَ والشفقةَ وألمَ الفراق، مع الحِفاظ على التوازُن النفسيِّ.

ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وحافِظوا على بيوتكم وأولادكم وأُسَركم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 1- 3].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله على سعة عطائه، والشكرُ له على جزيل آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ووحدانيته وصفاته وأسمائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، رفعَ له ذِكرَه في أرضِه وسمائه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأحِبَّائه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم لقائه.

أما بعد:

أيها المسلمون: الإسلامُ كرِه الطلاق ونفَّر منه، وفي الحديثِ: "ما أحلَّ اللهُ شيئًا أبغض إليه من الطلاقِ". رواه أبو داود بإسنادٍ متصلٍ صحيحٍ عن معروف بن واصِل، عن مُحارِبٍ، عن دِثارٍ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.

ولكن حين تكون الحاجةُ إليه فهو داءٌ مُرٌّ، أباحَه الإسلام بضوابطه؛ إذ الحياة الزوجية والمعيشة الأُسرية لا بُدَّ لها من أحد طريقين صالحين ناجِحين: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]، (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء: 130].

وكما أن سوء استِخدام الطلاق يُمثِّلُ مُشكلةً وأسى، فإن الإمساك بغير المعروف يُمثِّل ما هو أشدُّ وأقسى، الطلاقُ في الإسلام شُرِع ليكون فرَجًا ومخرَجًا وليس ضيقًا وشدَّة، حين تُسدُّ الطرقُ من المعالجة والإصلاح، وحين يتعذَّر تحقيقُ مقاصد الزواج القائمِ على المودَّة والسكَن والتعاوُن في الحياة، فإن الطلاق المُنضبِط بضوابطه الشرعية هو حلٌّ وليس مُشكلةً، لا يضيعُ أفرادُه، ولا يندَمُ فاعِلُه.

والإسلامُ حين شرعَ الطلاقَ وأباحَه نظَّمه تنظيمًا دقيقًا ليكون علاجًا ودواءً وحلاًّ، مُراعيًا المقاصِد الكُبرى من الاستِقرار والسعادة وحِفظ الكِيان، فالطلاقُ في الإسلام لا يكون إلا بعد استِنفادِ وسائل الإصلاح والاستِصلاح، وحين تتعذَّرُ الحياةُ السعيدة والسكنُ والمودَّة.

الطلاقُ الحلُّ لا بُدَّ أن يسبِقَه مُمهِّداتٌ من التروِّي والمُراجَعة، والمُعالَجات من الوعظِ والهجرِ في المَضجَع، والتهديد من غير تعنيفٍ، والتحكيم، وإذا لم يُفِد ذلك كلُّه وصار التوجُّه إلى الطلاق فيُترقَّبُ طُهرٌ جديدٌ لم يقَع فيه مُعاشَرة، ثم بعد هذا الانتظار والترقُّب والتروِّي، ورُؤِيَ اللجوء إلى الطلاق فيكون طلاقًا رجعيًّا طلقةً واحِدةً.

الإسلامُ استبقَى مجالاً للحياة الزوجية بعد الطلاق لعلَّ مشاعِر المودَّة تعود، أعطى حقَّ الرجعةِ والمُراجَعة إذا كان الطلاقُ طلقةً واحِدةً أو طلقتين.

عباد الله: وإذا حصلَ الطلاقُ وتمَّ الفِراق فليكن تسريحًا بإحسانٍ، كما أمرَ الله -عز وجل-، ومن الإحسانِ نسيانُ الهَفَوات، وتركُ تتبُّع العَثَرات، والصفحُ عن الزلاَّت، وقد بوَّب الإمام النسائيُّ في سننه في ذلك فقال: "بابُ النهي عن التِماس عثَرات النساء"، مُستدلاًّ -رحمه الله- بحديثِ: "نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يطرُقَ الرجلُ أهلَه ليلاً". أي: يتخوَّنهم أو يتلمَّس عثَرَاتهم. والحديثُ في البخاري.

هذا وهي في عِصمته؛ فكيف بعد الفِراق؟!

ومن التسريحِ بإحسانٍ: تجنُّب التجريحِ والقسوةِ وإظهار العُنف والشدَّة، فكفَى بالطلاق البَغيضِ قسوةً وعُسرًا، وقد سمَّاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كسرًا.

ومن التسريحِ بإحسانٍ: حِفظُ الأيام الجميلة، واللحظات الحانية، فهذا عقلٌ وحكمةٌ؛ بل بلسمٌ ودواءٌ يجبُرُ ألمَ الفراق، ويُواسِي جراحَ الطلاق: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة: 237].

ومن التسريحِ بإحسانٍ: الإنفاقُ على الأولاد بسخاءٍ، سواء أكانوا في حضانة الأب أم الأم، ومع أن هذا واجبٌ ومسؤوليةٌ ولكنه كرمٌ وإحسانٌ ومُروءة.

يقول أيوب السختياني لأحد تلاميذه: "لو أعلمُ أن أبنائي يحتاجون إلى بَقلة ما جلستُ معكم ساعةً".

معاشر الأحِبَّة: هذه بعضُ المُعالَجات والآداب في شؤون الأُسرة وتعامُلاتها، ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، فحقٌّ على الأهل والمعارِف وكلِّ ذي علاقةٍ أن يكون عونًا وسنَدًا ماديًّا ومعنويًّا ليُخفِّف أعباءَ الطلاق وتداعياته وآثاره.

هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال -وهو الصادقُ في قِيلِه- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.