البحث

عبارات مقترحة:

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

المؤمن

كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...

على فراش الموت

العربية

المؤلف عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني
القسم كتب وأبحاث
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الرقائق والمواعظ - الموت وأحكامه
هذا الكتيب يحتوي على موعظة حول الموت وما يتعلق به.

التفاصيل

على فراش الموت كل نفس ذائقة الموت الموت يأتي بغتة الموت وموقف الأحياء منه أسباب كراهية الموت ماذا ننتظر مع عمر بن عبد العزيز المفاجأة فوائد ذكر الموت تذكر الموت سبب في التوبة مما قيل في الحث على تذكر الموت قالوا على فراش الموت  على فراش الموتعبد الحميد بن عبد الرحمن السحيبانيبسم الله الرحمن الرحيم﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 27].سبحانك اللهم خالق كل شيء حتى الموت، وحتى ملك الموت، تباركت ربنا، وتعاليت، يا مَنْ إذا أردت شيئًا قلت له: كن، فيكون. لك الحمد في الأولى والآخرة، وإليك المرجع والمآب.أما بعــد:فهذه – أخي المسلم – موعظةٌ في الموت وما يتعلق به ... في الموت الذي كتبه الله – تعالى – على كل حي في هذه الدنيا التي ستزول وتفنى لا محالة. ذلك لأن كثيرًا من الناس اليوم لا يعطي اهتمامًا لتلك الرحلة الكبرى، والقضية العظمى التي يحكم فيها أحكم الحاكمين، فلا معقب لحكمه، ولا استئناف. إنها ساعة رهيبة، ما خاف من عاقبتها أحد إلا ونجا، عندما تذكرها فعمل لها، وما لها عنها أحد إلا تحسر وندم حين قرب أجله، ودنا فراقه ... إنها الساعة الحاسمة التي يتمنى الكثيرون أن لا يذوقوا كأسها، ولا يشربوا مرارتها!! ولكن كيف ... وأنى لهم ذلك؟! كل نفس ذائقة الموتلا بد من الموت، لأنه إظهار لقدرة الله، وبرهان على البعث، ودليل على الوقوف أمام الله رب العالمين، فكيف يسير العالم منذ خلق والناس يتساقطون كل يوم، بل كل لحظة؟ وكيف يحاسب أولئك جميعًا أمام رب العالمين؟ وكيف يتأكد الناس من أن ظالمًا لن يعيث في الأرض فسادًا طويلاً؟إن الموت دليل لهم على حياتهم الباقية التي أرادها لهم رب البرية بمقاييس معلومة، وموازين سديدة محكمة، فخالق الموت قدير على محاسبة الناس جميعًا.وهذا الظالم لن يبقى على الأرض طويلاً ما دام البشر يموتون، والمطمئن لقلوبهم أن الموت غير معلوم.إذن ... فالموت لا بد منه ليتعظ الناس، وتستقر أحوالهم، فكان أقوى عظة، وأفظع خطبًا، وأشنع أمرًا، وأمرّ كأسًا ... هل ننسى أننا نؤخذ من فراشنا، ونشد على لوح، ونكفن بأكفان لا تحمل في طياتها سوانا، ونوضع في القبور ليأكلنا الدود!إنها ساعة يتحير فيها العقل ... يرجع إلى رشده، يعمل فكره ... يهيب بالناس أن يحسنوا العمل، وأن يرفعوا راية «لا إله إلا الله، محمدًا رسول الله».وها نحن أولاء في دار الدنيا، فهل نجتمع جميعًا ولا نتفرق، ونتحاب، ولا نتخاصم، ما دام هذا مصيرنا؟الموت يعُمُّنا...والقبر يضمُّنا ...والقيامة تجمعنا ...والله يحكم بيننا، ويفصل فينا، وهو أحكم الحاكمين ([1]).يحكى أن الرشيد لما اشتد مرضه أحضر طبيبًا طوسيًا فارسيًا، وأمر أن يعرض عليه ماؤه – أي بوله – مع مياه كثيرة لمرضى، وأصحاء، فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيد، فقال: قولوا لصاحب هذا الماء يوصي، فإنه قد انحلت قواه، وتداعت بنيته. ولما استعرض باقي الماء شعر بقدوم الموت فنقلوه حيث فاضت روحه، فيئس الرشيد من نفسه، وأنشد: إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع نحب قد أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان أبرأ مثله فيما مضى مات المداوي والمداوَى والذي جلب الدوا أو باعه ومن اشترى وبلغه أن الناس أرجفوا بموته. فاستدعى حمارًا وأمر أن يحمل عليه، فاسترخت فخذاه. فقال: أنزلوني صدق المرجفون، ودعا بأكفان فتخير منها ما أعجبه، وأمر أن يحفر قبره، فشق له قبر أمام فراشه، ثم اطلع فيه فقال: ما أغني عني ماليه. هلك عني سلطانيه. فمات من ليلته ([2]).فأعدَّ للأمر الشديد عدته، وتأهبْ للرحيل، واعملْ، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر؟! فكم من صحيح مات من غير علة وكم من عليل عاش حينًا من الدهر؟! وكم من صبي يرتجي طول عمره وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري! وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت روحاهما ليلة القدر! فما ظنك – رحمنا الله وإياك – بنازل ينزل بك، فيذهب رونقك وبهاك، ويغير منظرك، ورؤياك، ويمحو صورتك وجمالك، ويمنع من اجتماعك واتصالك، ويردك بعد النعمة والنضرة، والسطوة والقدرة، والنخوة والعزة، إلى حالة يبادر فيها أحب الناس إليك، وأرحمهم بك، وأعطفهم عليك، فيقذفك في حفرة من الأرض، قريبة أنحاؤها، مظلمة أرجاؤها، محكم عليك حجرها وصيدانها ... الموت يأتي بغتةيروى أن أعرابيًا كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتًا، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: ما لك لا تقوم؟ ما لك لا تنبعث؟ هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؟!ما شأنك؟                 ما الذي كان يحملك؟ما الذي كان يبعثك؟ما الذي صرعك؟ما الذي عن الحركة منعك؟ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه، متعجبًا من أمره ([3]).وأنشدوا في بعض الشجعان مات حتف أنفه:جاءته من قبل المنون إشارة فهوى صريعًا لليدين وللفم ورمى بمحكم درعه وبرمحه وامتد ملقى كالفتيق الأعظم لا يستجيب لصارخ إن يدعه أبدًا ولا يرجى لخطب معظم ذهبت بسالته ومر غرامه لما رأى حبل المنية يرتمي يا ويحه من فارس ما باله ذهبت مُروَّته ولما يكلم هذي يداه وهذه أعضاؤه ما منه من عضو غدًا بمثلم هيهات ما حيل الردى محتاجة للمشرفي ولا اللسان اللهذم هي ويحكم أمر الإله وحكمه والله يقضي بالقضاء المحكم يا حسرتا لو كان يقدر قدرها ومصيبة عظمت ولما تعظم خبر علمنا كلنا بمكانه وكأننا في حالنا لم نعلم ([4])  الموت وموقف الأحياء منهمع أن الناس جميعًا على يقين لا شك معه من الموت الذي هو نهاية كل حي، حيث يرون ذلك رأي العين في الآباء والأمهات، والأهل، والقريب والبعيد، والصحيح والسقيم، والصغير والكبير، فإن حب الحياة والتعلق بها يفسح لهم في الآمال، فلا يكاد ينظر كثير منهم إلى الموت إلا على أنه غريب لا عودة له، أو خيال لا حقيقة له.ولهذا الشعور المخادع الذي يخدع الناس عن الموت، وانقطاع الحياة به، مع شهودهم له، وتيقنهم منه، فقد جاءت في القرآن الكريم آيات تذكر بالموت، حتى يتنبه له الغافلون عنه، ويهيئوا أنفسهم للقائه ... قال سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19]، ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة: 8].فإذا كان هذا هو موقف الناس من الموت، وذهولهم عنه، فكيف يكون موقفهم من البعث والحياة بعد الموت، وهم لم يروا ميتًا يبعث، ولا مقبورًا يسعى إليهم من قبره، ويخبرهم بما لقي في هذا القبر؟إن الأمر يحتاج إلى إيمان بالله – تعالى – أولاً، وتصديق رسله ثانيًا، ثم تصديق ما يخبر به الرسل – عليهم الصلاة والسلام – عن ربهم، ببعث الموتى من القبور، وحشرهم إلى موقف الحساب والجزاء بين يدي رب العالمين.  أسباب كراهية الموتالموت سنة مشاهدة تتكرر كل يوم، ومع ذلك يكرهه الناس ويخافونه، ويرهبون لقاءه، وذلك لأسباب شتى منها:* إن إتيان المحظورات والمآثم التي يعاقبهم عليها ربهم – جل وعلا – يوم لقائه يخيفهم من ذلك اللقاء. * ومنها حب الحياة، وسعة الأمل، وفسحة الرجاء.* ومنها قلة الاستعداد له، ولما بعده مع الاغترار بالحياة، لأن الإنسان في صحته وقوته يغتر بدنياه، وقد يخيل إليه أنها واسعة مبسوطة، وكأنه يجهل أو يتجاهل أن أجله المحدود يتربص به بين حين وآخر، وهو لا يدري متى يأتي!!* ومنها سيطرة الرغبة في الخلود على نفوس الناس، فتدفعهم إلى التعبير عن ذلك بإدخال المال، وبناء القصور، ولذلك لما سئل بعضهم: لماذا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم آخرتكم، فكرهتم الانتقال من دار عمرتموها إلى دار خربتموها!!والعلاج في مثل هذا أن ينظر العبد كل ساعة في أطرافه وأعضائه، ويتدبر أنها كيف تأكلها الديدان لا محالة، وكيف تتفتت عظامها، وليتفكر أن الدود يبدأ بحدقته اليمنى أولاً أو اليسرى، فما على بدنه شيء إلا وهو طعمة الدود، وما له من نفسه إلا العلم النافع، والعمل الخالص لوجه الله – تعالى .وعليه أن يتفكر فيما سيورده من عذاب القبر أو نعيمه، وسؤال منكر ونكير، ومن الحشر، والنشر، وأهوال القيامة، وقرع النداء يوم العرض الأكبر. فأمثال هذه الأفكار تجدد ذكر الموت على قلبه، وتدعوه إلى الاستعداد له. ماذا ننتظر أيها الأخ المبـارك: أنت ومن في الأرض جميعًا ستخرجون من الدنيا لا محالة، وبعدها ستكون في عداد الأموات.فما أنت إلا من أبناء الموت، وأنت تنتظر موعد طلبك للخروج من الدنيا، كذلك الذي قد أخرج مع فوج كبير إلى ساحة الإعدام وهو ينتظر دوره الذي لا مفر منه، وسيأتيك الموت في لحظة معينة.فقد تصبح مع الأحياء فلا تمسي إلا مع الأموات...وقد تمسي مع الأحياء فلا تصبح إلا مع الأموات ...وما أنت إلا أيام، كلما مر يوم نقصت وقربت من أجلك. ستخرج راضيًا أو كارهًا.وسيخرج مثلك الملوك والرؤساء والأغنياء كما خرجوا في الأمم الماضية، وكما يخرج الأفراد والفقراء والضعفاء، وستخرج كل الشعوب كما خرجت من قبل ... فليس الناس إلا عبيدًا لمن أحياهم وأماتهم بدون إذن منهم أو اختيار ... ستترك مالك، وسلطانك، وأهلك، وأحبابك، وعلمك، وعملك، وخبرتك، وصحتك، وجمالك ... وسيعود جسدك إلى ما بدأ منه.ستأتي اللحظة التي ينسلخ فيها لحمك من عظامك، وتتمزق فيها عروقك وأحشاؤك ...وسيصبح هذا الجسد الحي أمامك قليلاً من العظام تحت كتلة من التراب...سيطول بك المقام كما طال بسابق الأقوام ... فهل سألت نفسك عن حقيقة مصيرك؟!وهل فهمت ما سيكون من أمرك في مستقبلك الطويل؟! إنك ومن في الأرض من الدول والشعوب تبذلون أقصى الجهود لتأمين مستقبل يعد بالسنين، ولا يلبث أن تنتهي أعوامه وأيامه؟فماذا أعددت لمستقبلك الدائم؟وهل هناك مستقبل؟وهل هناك حياة بعد هذه الحياة؟وهل ترتبط تلك الحياة بهذه الحياة؟وما هو طريق الفوز والنجاة؟وما الذي يؤكد لنا هذه الأخبار؟إن الذي خلقنا أول مرة من تراب ليس بعسير عليه أن يبعثنا مرة أخرى بعد أن نعود ترابًا.إن الذي ظهرت حكمته من خلقنا وأطوار خلقنا لا شك أنه قد أراد حكمةً من موتنا ستظهر إن انتقلنا إلى طورنا الجديد بعد الموت.إن الذي أتقن خلق الإنسان من نطفة تمنى لن يتركه يذهب سُدى ... إن الذي أقام الحق في الأرض والسماء سيقيم الحق فيما عمل الإنسان من خير أو شر، فيجزي المحسن كما قال – سبحانه -: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، ويعاقب المسيء كما قال – تعالى – في أهل الشقوة والضلال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال: 50-51]، وقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: 93].إن الذي يبدأ الخلق ثم يعيده قادر على إعادة خلقنا مرة ثانية كما بدأه أول مرة. إن الأمر خطير إذن ... إنه أمر المستقبل الدائم والمصير الدائم.إما حياة النعيم ... أو حياة الجحيم ([5]). مع عمر بن عبد العزيزخطب عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس:إنكم لم تخلقوا عبثًا ولن تتركوا سدى. وإن لكم معادًا يجمعكم الله فيه للحكم والفصل فيما بينكم، فخاب وشقي غدًا عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السموات والأرض. وإنما يكون الأمان غدًا لمن خاف واتقى، وباع قليلاً بكثير، وفانيًا بباق، وشقوة بسعادة، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلف بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله – عز وجل – قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟ وأيم الله إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي. ولكنها سنن من الله عادلة، آمر فيها بطاعته، وأنهى فيها عن معصيته، وأستغفر الله»، ووضع كفه على وجهه، وجعل يبكي حتى بلت دموعه لحيته. وما عاد إلى مجلسه حتى مات.وقال في إحدى خطبه: «إن الدنيا ليست بدار قراركم. دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن عنها.فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال قلّص فذهب، بينا ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه. إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر. إنها تسر قليلاً وتحزن كثيرًا». المفاجأةقال أحد الفضلاء: كم من صاحب لي، لو شئت سميته، أطلق نفسه في شهواتها، ووقع أسير اللذة، وغفل عن ذكر الموت والحساب، فلما هداني الله – عز وجل – لطاعته وامتثال أوامره، وتحقيق مخافته، فزعت إلى صاحبي، أنصحه وأرغبه، وأرهبه، فما كان منه إلا أن اعتذر بشبابه (!) وغرّه طول الأمل...فو الله لقد فاجأه الموت، فأصبح اليوم في التراب دفينًا، وصار بما قدم من السيئات مرتبطًا رهينًا، ذهبت عنه اللذات، وفارقته الغانيات، وبقيت في عنقه التبعات، وأقبل على الجبار ... بأعمال الفسقة الفجار ...أعاذني الله وإياك ... من صحيفة كصحيفته، ومن خاتمة كخاتمته.فاتق الله – يا عبد الله – ولا يكن مثلك كمثله، وأنت تعلم أن هذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، واذكر ساعة الموت والانتقال، وما يتمثل لديك ساعتها من كثرة السيئات، وقلة الحسنات، فما وددت عمله في تلك الساعة، فعجل بعمله من اليوم، وما وددت اجتنابه فمن الآن: فلو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء ([6]) وأنشدوا: أذكر الموت ولا أرهبه إن قلبي لغليظ كالحجر أطلب الدنيا كأني خالد وورائي الموت يقفو بالأثر وكفى بالموت فاعلم واعظًا لمن الموت عليه قد قدر والمنايا حوله ترصده ليس ينجي المرء منهن المفرّ وقال آخر: بينا الفتى مرح الخطا، فرح بما يسعى له إذ قيل: قد مرض الفتى إذ قيل: بات بليلة ما نامها إذ قيل: أصبح مثخنًا ما يرتجى إذ قيل: أصبح شاخصًا وموجهًا ومعللاً. إذ قيل: أصبح قد قضى  فوائد ذكر الموتإن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج من هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية. والإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه. فإنه لا يدوم، والموت أصعب منه، أو في حال نعمة وسعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها، والسكون إليها، لقطعه عنها:ولقد أحسن من قال: اذكر الموت هادم اللذات وتجهز لمصرع سوف ياتي وقال غيره: واذكر الموت تجد راحة في ادكار الموت تقصير الأمل كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل. الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه، فقيل: إنه قد مات، فقال: ما زال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال فأصابه متيقظًا متشمرًا ذا أهبة لم تلهه الآمال وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشيًا عليه.وكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – يجمع العلماء فيتذاكرون الموت، والقيامة، والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.فليت هذا يكون حالنا اليوم...وقد قيل: «من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة»([7]).فتفكر – يا أخي – في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرحًا للقلوب، ومبكيًا للعيون، ومفرقًا للجماعات، وهادمًا للذات، وقاطعًا للأمنيات، فهل تفكرت في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، وإذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك والله من مال إلا الأكفان.أين الذي جمعته من المال؟هل أنقذك من الأهوال؟إذا علمت هذا، فاطلب فيما أعطاك الله – تعالى – من الدنيا الدار الآخرة، لا في الطين والماء والتجبر والبغي، واعلم أنك ستترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن، كما قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تُلوى فيهما وحنوط وكقول الآخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن؟  تذكر الموت سبب في التوبةيروى أن ملكًا من ملوك أهل البصرة تنسك ([8]). ثم مال إلى الدنيا والسلطان، فبنى دارًا وشيدها، وأمر بها ففرشت له ونجدت، واتخذ مائدة وصنع طعامًا ودعا الناس. فجعلوا يدخلون عليه ويأكلون ويشربون وينظرون إلى بنيانه ويعجبون من ذلك ويدعون له ويتفرقون.فمكث بذلك أيامًا حتى فرغ من أمر الناس. ثم جلس ونفر من خاصة إخوانه، فقال: قد ترون سروري بداري هذه، وقد حدثت نفسي أن اتخذ لكل واحدٍ من ولدي مثلها، فأقيموا عندي أيامًا استمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا البناء لولدي. فأقاموا عنده أيامًا يلهون ويلعبون، ويشاورهم كيف يبني لولده، وكيف يريد أن يصنع.فبينما هم ذات ليلة في لهوهم ذلك إذ سمعوا قائلاً من أقاصي الدار: يا أيها الباني والناسي منيته لا تأملن فإن الموت مكتوب لا تبنين ديارًا لست تسكنها وراجع النسك كيما يغفر الحوب ([9]) ففزع لذلك وفزع أصحابه فزعًا شديدًا ، وراعهم ما سمعوا من ذلك. فقال لأصحابه: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: فهل تجدون ما أجد؟ قالوا: وما تجد؟ قال: أجد والله مسكة على فؤادي، وما أراها إلا علة الموت.قالوا: كلا، بل البقاء والعافية.فبكى، ثم أقبل عليهم، فقال: أنتم أخلائي وإخواني، فماذا لي عندكم؟ قالوا: مُرْنا بما أحببت من أمرك. فأمر بالشراب فأهريق، ثم أمر بالملاهي فأخرجت، ثم قال: اللهم! إني أشهدك ومن حضرني من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي، نادم على ما فرطت في أيام مهلتي ([10])، وإياك أسأل إن أقلتني ([11]) أن تتم نعمتك علي بالإنابة إلى طاعتك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضلاً منك علي. واشتد به الألم، فلم يزل يقول: الموت والله ([12])! الموت والله! حتى خرجت نفسه. فكان الفقهاء يرون أنه مات على توبة ([13]). مما قيل في الحث على تذكر الموتأيها الأخ الكريم: أجزم أنك قد فقدت في يوم من الأيام أبًا وأخًا أو أمًا أو صاحبًا أو جارًا أو قريبًا من أقاربك، فهل تذكرت الحال التي وردها؟ والمآل الذي صار إليه؟! وهل اعتبرت وفكرت في المكان الذي انتقل إليه؟!وهل تخيلت انفرادك في قبرك؟!لا زوجة، ولا أم، ولا أب، ولا صاحب!ألقوك في قبرك، فأهالوا عليك التراب، ثم ذهبوا وتركوك! تذكر أنك قد تترك الحياة بكل ما فيها الآن. الآن قبل أن تقوم من مقامك هذا الذي تقرأ فيه هذا الكلام الذي أكتبه إليك؟ وعندئذ تترك كل شيء، تترك أهلك، وأمك، وأباك، وإخوتك، وأخواتك وأصحابك، ولا ينفعك إلا عملك الصالح... تنفعك دمعة صادقة جرت منك خالصة للواحد الأحد ... تنفعك صدقة تصدقت بها في يوم من الأيام، لا تريد بها إلا العمل للدار الآخرة. ينفعك علم ينتفع به، تعلمته، وعملت به، وعلمته للناس. ينفعك ولد صالح ربيته على الكتاب والسنة، فدعا لك بالمغفرة والرحمة ...هذا الذي ينفعك غدًا في الدار الآخرة، وأما غيره فلا ... إذا علمت ذلك، فاستمع إلى ما قيل في الحث على تذكر الموت، قال ابن حبان البستي: «كم من مكرم في أهله، معظم في قومه، مبجل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة، ولا الضنك في المصيبة، إذ ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاصم الطغاة، فألقاه صريعًا بين الأحبة وجيرانه، مفارقًا لأهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعًا، ولا يستطيعون عنه دفعًا. فكم من أمة قد أبادها الموت، وبلدة قد عطلها، وذات بعل قد أرملها، وذي أب أيتمه، وذي إخوة أفرده»([14]).وعن أحمد بن محمد بن مصعب الشافعي عن عبد الله بن محمد قال: سمعت عبيد الله بن مسلم بن زياد الهمداني قال: سمعت عمر بن ذر يقول: ورث فتى من الحي دارًا عن آبائه وأجداده فهدمها، ثم ابتناها وشيدها، فأُتِي في منامه، فقيل له: إن كنت تطمع في الحياة فقد ترى أرباب دارك ساكَنُوا الأموات أنى تحس من الأكارم ذكرهم؟ خلت الديار وبادت الأصوات قال: فأصبح الفتى مغتاظًا قد أمسك عن كثير مما كان يصنع، وأقبل على نفسه.وعن ذهل بن أبي شراعة القيسي قال: حدثتني سكينة – وكانت علامة -قالت: قال لي أبو العتاهية: دخلت على هارون أمير المؤمنين، فلما بصرني قال: أبو العتاهية؟ قلت: أبو العتاهية، قال: الذي يقول الشعر؟ قلت: الذي يقول الشعر. قال: عظني بأبيات شعر، وأوجز ، فأنشدته:لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ولو تمنعت بالحجاب والحرس واعلم بأن سهام الموت قاصدة لكل مدَّرع منا ومتَّرس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها؟ إن السفينة لا تجري على اليَبَس قال: فخر مغشيًا عليه.وعن الوضاح بن حسان قال: سمعت ابن السماك يحدث قال: بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكة في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي، ويقول: عزيز فلم تُترك لعزك، غنيٌّ فلم تُترك لغناك، فقير فلم تُترك لفقرك، جواد فلم تُترك لجوادك، شديد فلم تُترك لشدتك، عالم فلم تُترك لعلمك؟ يردد هذا الكلام ويبكي ([15]).قال ابن حبان: وأنشدني الكريزي: أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها فلا الإقامة تنجي النفس من تلف ولا الفرار من الأحداث ينجيها وكل نفس لها وَزْر يصبحها من المنية يومًا أو يمسيها ([16]) ومما قيل في التذكير بالموت قول ابن أبي زمنين:الموت في كل حين ينشر الكفنا ونحن في غفلة عمّا يراد بنا لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همُ كانوا لنا سكنًا؟ سقاهم الموت كأسًا غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنًا تبكي المنازل منهم كل منسجم بالمكرمات وترثي البر والمننا حسب الحمام لو أبقاهم وأمهلهم ألاّ يظن على معلومه حسنًا  قالوا على فراش الموتقال ابن المهدي:لما احتضر سفيان الثوري – رحمه الله – بكى وجزع، فقلت له: يا أبا عبد الله! ما هذا البكاء؟! قال: يا أبا عبد الرحمن، لشدة ما نزل بي من الموت. الموت – والله – شديد. فمسسته، فإذا هو يقول: رُوح المؤمن تخرج رشحًا، فأنا أرجو. ثم قال: الله أرحم من الوالدة الشفيقة الرفيقة، إنه جواد كريم، وكيف لي أن أحب لقاءه، وأنا أكره الموت. فبكيت حتى كدت أن أختنق، أخفي بكائي عنه، وجعل يقول: أوه ...، أوه من الموت. ثم قال: مرحبًا برسول ربي، ثم أغمي عليه، ثم أسكت حتى أحدث، ثم أغمي عليه، فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق، فقال: يا عبد الرحمن! اذهب إلى حماد بن سلمة، فادعه لي، فإني أحب أن يحضرني. وقال: لقني قول: لا إله إلا الله. فجعلت ألقنه. قال: وجاء حماد مسرعًا حافيًا، ما عليه إلا إزار، فدخل وقد أغمي عليه، فقبل بين عينيه، وقال: بارك الله فيك يا أبا عبد الله. ففتح عينيه، ثم قال: أي أخي، مرحبًا. ثم قال: يا حماد! خذ حذرك، واحذر هذا المصرع ([17]).وقال المسعودي: شكوا في موت المعتضد بالله (الخليفة العباسي) فتقدم إليه الطبيب، وجس نبضه، ففتح عينيه، ورفس الطبيب برجله، فتدحاه أذرعًا، فمات الطبيب، ثم مات المعتضد من ساعته.ولما احتضر أنشد لنفسه:تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا ([18]) ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقًا قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدوًا ولم أمهل على ظنه خلقًا وأخليت دار الملك من كل نازع فشردتهم غربًا ومزقتهم شرقًا ([19]) وقيل لأبي العتاهية (ت211هـ) عند الموت: ما تشتهي؟قال: أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني، فينشدني:سيُعرض عند ذكري وتُنسى مودتي ويحدث بعدي للخليل خليل إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي فإن غناء الباكيات قليل وقال أبو العتاهية لابنته رقية في علته التي مات فيها: يا بنية، ارثي أباك واندبيه بهذين البيتين: فندبته بقوله: لعب البلى بمعالمي ورسومي وقبرت حبًا تحت ردم همومي لزم البلى جسمي فأوهن قوتي إن البلى لموكل بلزومي ويروى في ترجمة سيبويه (أستاذ النحاة) أنه ارتحل إلى خراسان ليحظي عند طلحة بن طاهر، فإنه كان يحب النحو، فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه، فتمثل عند الموت:يؤمل دنيا لتبقى له فمات المؤمل قبل الأمل يربي فسيلاً ([20]) ليبقى له فعاش الفسيل ومات الرجل ويقال: إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه، فدمعت عين أخيه، فاستفاق، فرآه يبكي، فقال: وكنا جميعًا فرق الدهر بيننا إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا قصيدة زهديةمن لحظة الاحتضار حتى المواراة في الترابمَنْ الغريب؟للإمام علي زين العابدين ([21])ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن سفري بعيد وزادي لا يبلغني وقسمتي لم تزل والموت يطلبني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهدًا على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت! يا غفلة ذهبت! يا حسرة بقيت في القلب تقتلني دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن دعني أسح دموعًا لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني كأنني بين تلك الأهل منطرحًا على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر من طبيب اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مرًا حين غرغرني وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدُّوا في شرا كفني وقام من كان أولى الناس في عجل إلى المغسل يأتيني يغسلني وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقًا حرًا أديبًا أريبًا عارفًا فطن فجائني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأطرحوني على الألواح منفردًا وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثًا ونادى القوم بالكفن وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني في قبري على مهل وأنزلوا واحدًا منهم يلحدني وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسبل الدمع من عينيه أغرقني فقام محتزمًا بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني وقال هلوا عليه التُرب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن وأودعوني ولجوا في سؤالهمو مالي سواك إلهي من يخلصني في ظلمة القبر لا أُم هناك ولا أب شفيق ولا أخ ليؤنسني وأودعوني ولجوا في سؤالهمو ما لي سواك إلهي من يخلصني وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مطلع ما قد كان أدهشني من منكر ونكير ما أقول لهما إذ هالني منهما ما كان أفزعني فامنن علي بعفو منك يا أملي فإنني موثق بالذنب مرتهن تقاسم الأهل ما لي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني فلا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الزاد والكفن خذ القناعة من دنياك وارض بها ولو لم يكن لك إلا راحة البدن يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني ([1]) «عذاب القبر ونعيمه وعظة الموت» لعبد اللطيف عاشور ص7-8.([2]) «التذكرة» للقرطبي (1/43، 44)، ط. دار الكتاب العربي، الأول 1408هـ.([3]) التذكرة (1/16، 17).([4]) المرجع السابق. ([5]) «طريق الإيمان» للشيخ/ عبد المجيد الزنداني ص21-25 بتصرف.([6]) «الموت عظاته وأحكامه» لعلي حسن عبد الحميد ص16-17.([7]) التذكرة (1/24).([8]) من النسك، وهو العبادة.([9]) الحوب: الإثم، وهو الذنب.([10]) مهلتي: أي غفلتي.([11]) أقلتني: صفحت عني وتجاوزت.([12]) أي: هذا هو الموت والله.([13]) «كتاب التائبين من الملوك والسلاطين» لابن قدامة ص11-13 ط. مؤسسة الريان. ([14]) «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» لابن حبان البستي ص285.([15]) روضة العقلاء ص286.([16]) المرجع السابق. ([17]) «سير أعلام النبلاء» للذهبي (7/250-251).([18]) الرنق: الكدر.([19]) «عظماء على فراش الموت» لعلي يوسف بديوي ص78.([20]) الفسيل: جمع فسيلة وهي النحلة الصغيرة.([21]) نقلاً عن كتاب: مهلاً يا جامع الدنيا ص (12 : 14).