البحث

عبارات مقترحة:

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

الحفي

كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...

لماذا نبتلى ؟

العربية

المؤلف القسم العلمي بمدار الوطن
القسم كتب وأبحاث
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الرقائق والمواعظ
كثيرًا من الناس تمرُّ بهم الأحداث سراعًا دون أن يكون لهم معها وقفات وتأملات، فيحدث بسبب ذلك عندهم تصورات خاطئة، واعتقادات باطلة ولكن الأحداث التي تمرُّ بها الأمة اليوم قد تفرز تلك التصورات الخاطئة، ومن هنا كان لابد من التنبيه والبيان والتصحيح، وهذا الكتيب لمَن سيطر عليه الوهم، وأصابته الحيرة والشكوك، ووقع في لوثة تلك التصورات والاعتقادات الخاطئة.

التفاصيل

لماذا نبتلى ؟ فتنة الضرَّاء سبب الخطأ وأصله أصول نافعة جامعة  لماذا نبتلى ؟بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:أما بعد:فإن كثيرًا من الناس تمرُّ بهم الأحداث سراعًا دون أن يكون لهم معها وقفات وتأملات، فيحدث بسبب ذلك عندهم تصورات خاطئة، واعتقادات باطلة، فمنهم مَن يظن صحة دين الكفار والعياذ بالله لأنهم متفوقون متغلبون قاهرون، فتكون قوة هؤلاء وتفوقهم فتنة لهؤلاء المخذولين.ومنهم مَن يظن أن أهل الدين والإيمان لابد أن يكونوا في الدنيا أذلاَّء مقهورين مغلوبين دائمًا، وأن نصر الله لهم لا يكون في الدنيا، بل في الآخرة فقط.ومنهم مَن يظن في نفسه الكمال، وأنه قائم بما فرض الله عليه من شريعة الإسلام علمًا وعملاً، ويظن أنه مستحق لنصر الله تعالى له، وأنه لا معنى لتأخر هذا النصر والتأييد عنه، فيدفعه غروره إلى الشكوك في وعد الله عز وجل.إن الأحداث التي تمرُّ بها الأمة اليوم قد تفرز تلك التصورات الخاطئة، ومن هنا كان لابد من التنبيه والبيان والتصحيح.ولقد رأيت كلامًا نفيسًا للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله بيَّن، فيه فساد تلك التصورات، وذَكَرَ قواعد جامعة في سنن التدافع بين الخلق، وأسباب النصر والهزيمة، وذَكَرَ أصولاً جامعة في حِِكَم الابتلاء وفوائده.ونظرًا لأهمية هذا الكلام رأينا أن نُفْرِده في هذه الرسالة الصغيرة علَّه يكون بلسمًا شافيًا لمَن سيطر عليه الوهم، وأصابته الحيرة والشكوك، ووقع في لوثة تلك التصورات والاعتقادات الخاطئة، وبالله التوفيق.قال الإمام العلامة شمس الدين بن قيِّم الجوزية رحمه الله: «إذا كان كل عملٍ فاصله المحبة والإرادة، والمقصود به التنعُّم بالمراد المحبوب، فكلُّ حيٍّ إنما يعمل لِمَا فيه تنعُّمه ولذَّته، فالتنعُّم هو المقصود الأول من كل قصدٍ وكلِّ حركة، كما أن العذاب والتألُّم هو المكروه أولاً بكل بُغْضٍ، وكلِّ امتناع وكفٍّ. ولكن وقع الجهل والظلم من بني آدم بمعنيين:بالدين الفاسد، والدنيا الفاجرة.طلبوا بهما النعيم، وفي الحقيقة فإن ما فيهما ضده، ففاتهم النعيمُ من حيث طلبوه وآثروه، ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه.فالنعيم التام هو في الدين الحق علمًا وعملاً، فأهله هم أصحاب النعيم الكامل، كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع، كقوله: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ{ [الفاتحة: 6، 7]، وقوله: }فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{ [طه: 123]، وقوله: }إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ{ [الانفطار: 13، 14].فوعدُ أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة، ووعيدُ أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وتضمنته الكتب، لكن نذكر ها هنا نكتة نافعة: فتنة الضرَّاءوهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرًا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرًا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم قليل.وكذلك قد يعتقد أن العزَّة والنصرةَ في الدنيا تستقرُّ للكفار والمنافقين على المؤمنين، فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ{ [المنافقون: 8]، وقوله: }وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ{ [الصافات: 173]، وقوله: }وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [القصص: 83] ونحو هذه من الآيات، وهو ممن يصدق بالقرآن، حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يَغْلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر، والقرآن لا يَردُ بخلاف الحس، ويعتمد على هذا الظن إذا أُديل عليه([1]) عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق، وأنا مغلوبٌ، فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها للباطل.فإذا ذُكِّر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا في الآخرة فقط.ولقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للربِّ تعالى واتهامه ما لا يصدر إلا من عدو، فكان الجَهْمُ بن صفوان يخرج بأصحابه، فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء ويقول: انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارًا لرحمته، كما أنكر حكمته.وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضرُّ مِن الخالِق!!وكان بعضهم يتمثل:إذا كان هذا فِعْله بمحبِّه فماذا تراه في أعاديه يصنعُ؟ فأنت تشاهد كثيرًا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربي! ما كان ذنبي حتى فعلتَ بي هذا؟وقال لي غير واحد: إذا تبتُ إليه وأنبتُ وعملت صالحًا، ضيَّق عليَّ رزقي، ونكَّد عليَّ معيشتي، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسي مرادها، جاءني الرزق والعون، ونحو هذا.فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة، أم أنت كاذب، فترجع على عقبك؟ سبب الخطأ وأصلهوهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين:إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهي عنه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك.والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلومًا مقهورًا مستضامًا، مع قيامه بما أمر به ظاهرًا وباطنًا، وانتهائه عما نهي عنه باطنًا وظاهرًا.فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.وأصل هاتين المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة: الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده.فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنًا وظاهرًا، وترك المحظور باطنًا وظاهرًا، وهذا من جهله بالدين الحق وما لله عليه، وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدرًا ونوعًا وصفة.وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده.حاسب نفسكأما المقام الأول: فإن العبد كثيرًا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلاً وتهاونًا، وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبًا من واجبات الأبدان وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات.فتراه يتحرَّج من ترك فرض، أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريمًا وأعظم إثمًا.بل ما أكثر ما يتعبد لله بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك.بل ما أكثر مَن يتعبَّد لله بما حرَّمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثمًا.وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل.الله لا ينصر إلا الحق وأهلهوالله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علمًا وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هي لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: }وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [آل عمران: 139]، فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ{ [المنافقون: 8] فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة ففي مقابله ما فاته من حقائق الإيمان علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا.وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا{ [الحج: 38]، فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه، وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان، قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ [الأنفال: 64]، أي: الله حسبك وحسب أتباعك، أي: كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص.وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه، قال تعالى: }وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{ [آل عمران: 68]، وقال تعالى: }اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا{ [البقرة: 257].وكذلك معيَّته الخاصة هي لأهل الإيمان كما قال تعالى: }وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ{ [الأنفال: 19]، فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان.وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: }إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{ [غافر: 51]، وقال: }فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ{ [الصف: 14].فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد؛ ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: }وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا{ [النساء: 141]، فإن انتفاء السبيل هو عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله.فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهرًا وباطنًا، وقد قال تعالى للمؤمنين: }وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [آل عمران: 139].وقال تعالى: }فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ{ [محمد: 35].فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذا كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره.المؤمنون منصورون في الدنياوأما المقام الثاني: الذي وقع فيه الغلط، فكثير من الناس يظنُّ أن أهل الدين الحق يكونون في الدنيا أذلاء مقهورين مغلوبين دائمًا، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى، وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده.والله سبحانه قد بيَّن، في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: }إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{ [غافر: 51]، وقال تعالى: }وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ{ [المائدة: 56]، وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي{ [المجادلة: 20، 21]. وهذا كثير في القرآن، وقد بيَّن سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدو، أو كسْر، وغير ذلك فبذنوبه، وزال الإشكال بالكلية، واستغنيتَ عن تلك التكلفات الباردة، والتأويلات البعيدة.فقرَّر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير، منها ما تقدم.ومنها أنه ذمَّ من يطلبُ النصر والعزة من غير المؤمنين كقوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ{ [المائدة: 51-56]. فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون.ونظير هذا قوله: }بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا{ [النساء: 138، 139].وقال تعالى: }يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ [المنافقون: 8].وقال تعالى: }مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ{ [فاطر: 10] أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح.وقال تعالى للمؤمنين: }وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا{ [الفتح: 22، 23]. فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرًا وباطنًا.وقال تعالى: }إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ{ [هود: 49]، وقال }وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى{ [طه: 132]. والمراد: العاقبة في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنه ذكر ذلك عُقَيب قصة نوح، ونصره وصبره على قومه، فقال تعالى: }تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ{ [هود: 49]. أي: عاقبة النصر لك ولمن معك كما كانت لنوح u ومن آمن معه.وقال تعالى: }وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا{ [آل عمران: 120]، وقال تعالى: }بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ{ [آل عمران: 125].وقال إخبارًا عن يوسف أنه نُصر بتقواه وصبره، فقال: }أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [يوسف: 90]، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ{ [الأنفال: 29]، والفرقان هو العز والنصر والنجاة، والنور الذي يفرق بين الحق والباطل.وقال تعالى: }وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا{ [الطلاق: 2، 3]. وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي ذر t عن النبي ﷺ‬ قال: «لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم» فهذا في المقام الأول.قل هو من عند أنفسكموأما المقام الثاني: فقال تعالى في قصة أحد: }أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم{ [آل عمران: 165]، وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا{ [آل عمران: 155].وقال تعالى: }وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{ [الشورى: 30].وقال: }ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ [الروم: 41].وقال: }وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ{ [الشورى: 48]. وقال: }وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ{ [الروم: 36].وقال: }أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ{ [الشورى: 34].وقال: }مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ{ [النساء: 79].العلاجولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر؛ لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار، ولابد في انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة، وبالصبر يتم اليقين بالوعد، وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله: }فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ{ [غافر: 55].وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجَّاهم بالصبر والطاعة ثم قال: }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ{ [يوسف: 111]. أصول نافعة جامعةوتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة.الأصل الأول:أن ما يصيب المؤمن من الشرور والمِحَن والأذى دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك، وكذلك ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير([2]).الأصل الثاني:أن ما يصيب المؤمنين في الله مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء.والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: }وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ{ [النساء: 104].فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.الأصل الثالث:أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لابد له من شيء منه دفع عنه ثقلاه ومؤنته ومشقته وتَبِعَته.الأصل الرابع:أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب في رضا محبوبه مُسْتحلىً غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:لئن ساءني أن نِلْتَني بمساءةٍ لقد سرَّني أني خَطَرْتُ ببالك فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه.الأصل الخامس:أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه، دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسْرٌ وهوان، وإن كان في الظاهر بخلافه، قال الحسن رحمه الله: «إنهم وإن هملجت([3]) بهم البَرَاذِين([4])، وطقطقت بهم البغال، إن ذلَّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل مَن عصاه».الأصل السادس:إن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي ﷺ‬: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم]. فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خُفِّف عنه([5])، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض، وليس عليه خطيئة.الأصل السابع:أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه في بعض الأحيان، أمرٌ لازمٌ لابد منه، وهو كالحرِّ الشديد والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم؛ لكان ذلك عالمًا غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التي مزج أجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار غير هذه الدار كما قال تعالى: }لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{ [الأنفال: 37].الأصل الثامن:أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم وكسرهم لهم أحيانًا فيه حكم عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم.ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائمًا مقهورين مغلوبين منصورًا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا تضرَّعوا إلى ربهم وأنابوا إليه وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه. وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يدخل معهم أحدٌ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين مَنْ يريد الله ورسوله، ومن ليس له مرادٌ إلا الدنيا والجاه.ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها.فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنسان، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحِّصُهم ويخلِّصهم ويهذِّبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: }وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ{ [آل عمران: 139-143].فذكر سبحانه أنواعًا من الحكم التي لأجلها أُديل عليهم الكفار، بعد أن ثبَّتهم وقوَّاهم وبشَّرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسَّهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مسَّ أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله.ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولاً بين الناس، فيصيب كلاًّ منهم نصيبه منها، كالأرزاق والآجال.ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعًا.ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد.ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين، أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفارهم من الذنوب التي أُديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.ثم أنكر عليهم حُسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائمًا منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم.فهذه بعض حِكَمِه في نصرة عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.الأصل التاسع:أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى: }وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{ [هود: 7].وقال: }إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{ [الكهف: 7].وقال: }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{ [الملك: 2].وقال تعالى: }وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ{ [الأنبياء: 35].وقال تعالى: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ{ [محمد: 31].وقال تعالى: }الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ [العنكبوت: 1-3].فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم آمنت، أو لا يؤمن، بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا.فأما من قال: آمنت، فلابد أن يمتحنه الربُّ ويبتليه، ليتبين هل هو صادق في قوله: آمنت، أو كاذب؟ فإن كان كاذبًا رجع على عقبيه وفرَّ من الامتحان كما يفر من عذاب الله. وإن كان صادقًا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانًا على إيمانه، قال تعالى: }وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا{ [الأحزاب: 22].وأما من لم يؤمن، فإنه يُمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم.فلابد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ وفي القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بليةً، فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات والرضا والتسليم ما يهون به عليه محنته. وأما الكافر والمنافق والفاجر فتشتد محنته وبليَّته وتدوم، فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة.الأصل العاشر:وهو أن الإنسان مدني بالطبع، لابد له من أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم.واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم، فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى.وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرَّ منه، والغالب أنهم يسلَّطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولاً بموافقتهم.فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألمٌ يسيرٌ يُعْقِبُ لذةً عظيمةً دائمة أولى بالاحتمال من لذةٍ يسيرة تُعْقِبُ ألمًا عظيمًا دائمًا، والتوفيق بيد الله.الأصل الحادي عشر:أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام:فإنه إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب.والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارة، وبتألُّمها بدون التلف، فهذا مجموع ما يُبتلَى به العبد في الله.وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس.ومن المعلوم: أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرْصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها، ولكنَّ الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظنَّ حيث يقول: }قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا{ [الأحزاب: 16]، فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلاً، إذ لابد من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه.وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فالأمر هكذا في مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيَّض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلاً وآجلاً.وكذلك من رفَّه بدنه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.قال أبو حازم: «لَمَا يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى».فكل من امتنع أن يذل لله، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لابد أن يذلَّ لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته، عقوبة له، كما قال بعض السلف: «من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته، أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته».وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.* * * *([1]) أديل عليه: أي تغلَّب عليه وظفر به.([2]) ولا تستغرب هذا الكلام فهو الحق الذي لا مراء فيه، ومَن طالع معدلات الانتحار والأمراض النفسية وتفكك النسيج الاجتماعي والأسري في البلاد غير الإسلامية؛ علم أن القوم يعانون أكثر مما نعاني.([3]) هملجت: الهملجة ضرب من السير.([4]) البراذين: جمع برذون، وهو نوع من الخيل والبغال غير العربية.([5]) المراد بالبلاء هنا هو بلاء الاختبار والامتحان، أما البلاء الذي هو بسبب الذنوب والمعاصي فإنه يزداد بكثرة الذنوب والمعاصي ويقل بقلَّتها.