السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
في أحوال الشدة والبأساء تكون الحاجة ملحة لفهم هذه السنن ؛ تثبيتا للقلوب ، وتقوية للإيمان ، وترسيخا لليقين ، وتلك هي طريقة القرآن .
الحمد لله العليم الحكيم؛ أبان الحق لمن أراد الحق برحمته، وأزاغ من زاغ قلبه بحكمته (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ) [الصَّف:5] نحمده على الإيمان الهداية، ونشكره على الإمداد والرعاية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، عليم حكيم في خلقه وحكمه وأمره (وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ) [التَّحريم:2] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أكمل الناس إيمانا، وأعظمهم يقينا، أحاطت به المحن والابتلاءات، فما زادته إلا قوة في الحق، وصلابة في الدين، ولا زاده أذى المشركين إلا صبرا وحلما، وفي أحد كسرت رباعيته، وشج وجهه شجة في جبهته حتى سأل الدم على وجهه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله" ولكنه ما لبث أن قال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه ، واعلموا أنكم إليه راجعون ، وعلى أعمالكم محاسبون(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقَّة:18] فأعدوا لذلك اليوم عدته بالإيمان والعمل الصالح.
أيها الناس: معرفة السنن الربانية في البشر تقوي إيمان العباد بالله تعالى ، وتعينهم على الثبات على دينهم ، وتزيل الحيرة من قلوبهم ، وتدلهم على ما هو خير لهم. وهذه السنن الربانية تؤخذ من الكتاب والسنة ، ومن السيرة النبوية ، وتعرف من أخبار السابقين وأحوالهم ؛ ففيهم الثابتون على دينهم ، كما أن فيهم الناكصين على أعقابهم.
وفي أحوال الشدة والبأساء تكون الحاجة ملحة لفهم هذه السنن ؛ تثبيتا للقلوب ، وتقوية للإيمان ، وترسيخا لليقين ، وتلك هي طريقة القرآن ؛ ففي غزوة أحد التي وقعت في شوال من السنة الثالثة ، وأصيب فيها المؤمنون بما لم يصابوا قبلها؛ نجد أن الآيات القرآنية التي عالجت هذه المصيبة قد عرضت لكثير من السنن الربانية ، وأشارت إلى أحوال السابقين على هذه الأمة (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:137-139] .
إن من سنن الله تعالى التي تستفاد من هذه الغزوة المباركة: أن الله تعالى قد جعل الأيام دولا بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ففي أزمان تكون الغلبة لأهل الباطل ، وتكون لأهل الحق أزمانا أخرى ، والحق والباطل باقيان إلى آخر الزمان ؛ ابتلاء للعباد وامتحانا . فأهل الحق قد يخسرون بعض المعارك ، ولا يعني انهزامهم أنهم ليسوا على الحق، كما أن انتصار أهل الباطل لا يقلب باطلهم إلى حق، وتلك سنة ربانية في الابتلاء قلّ في البشر من يفهمها؛ ولذلك يتخلى كثير منهم عن الحق إن استبطئوا النصر، ورأوا غلبة أهل الباطل وقوتهم.والآيات القرآنية التي عرضت لغزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها قد نصت على هذه السنة الربانية، وبينت الحكمة منها (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140].
ومن حكم تلك المداولة بين الحق والباطل: تمييز الخبيث من الطيب ، وإظهار الصادق من الكاذب ، ومعرفة المؤمن من المنافق ؛ فإن الصفوف لا تتمايز ، ولا تصقل القلوب ، ولا تعرف أقدار الرجال إلا بموجات البلاء والامتحان ، وفي أحوال السلامة والعافية كل يدعي الصدق والإخلاص (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران:179].
إن من الناس من ينحاز إلى من هم أقوى ولو كانوا على الباطل ، ولا يتبع الحق إن كان أهله أضعف ، بل أكثر الناس هم من هذا الصنف ، ولو أن أهل الحق انتصروا دائما لانحاز لهم من لم يكن منهم ، فجعل الله تعالى الابتلاءات والهزائم محطات تصفية وتمحيص؛ ولذا فإن الإسلام لما ظهر على الشرك في غزوة بدر، وقوي المسلمون قدّر الله تعالى على المؤمنين ما قدر في أحد؛ ابتلاء لهم وامتحانا؛ ليثبت على الإيمان -وإن انهزم أهله- من صدق إيمانه ، ولينحاز إلى أهل الباطل من كذب في إيمانه ، والجنة سلعة غالية ، لا يستحقها إلا الصادقون في إيمانهم ، الثابتون على دينهم ، المضحون في سبيله بالغالي والنفيس ، فمن كانوا كذلك اصطفى الله تعالى منهم في أحد من اصطفى فكانوا من شهدائها ، وتلك نعمة ومنة من الله تعالى عليهم ( وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [آل عمران:140].
ثم إن هزيمة أهل الحق ابتلاء يكفر الله تعالى به سيئاتهم ، ويرفع به درجاتهم ، ويكون سببا في توبتهم من ذنوبهم ، وإيابهم إلى ربهم، كما أن انتصار أهل الباطل سبب لمحقهم بما يداخل قلوبهم من الاستكبار عن الحق، والعلو على الخلق، والإمعان في الظلم ، والفساد في الأرض؛ لتكون نهايتهم الهلاك والمحق.
وقد رأينا كيف أن زعماء الباطل في هذا العصر قد انتشوا بقوتهم ، واغتروا بحضارتهم ، وسعوا في فرض باطلهم ولكن غرورهم بقوتهم ، كان سببا في جرهم إلى مستنقعات غرق فيها جندهم ، وكانت سبب ذلهم وانكسارهم ، وظهور أهل الحق عليهم ، وفي الحديث عن غزوة أحد نجد ذلك صريحا في قول الله تعالى ( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران:141-142].
ومن الصدق في الإيمان: الثبات على الدين مهما عظمت المصائب ، وعدم ربط الدين بالرجال ، ولا معرفة الحق بالأشخاص ؛ فإن الرجال يموتون ويبقى الدين ، بل إن من الرجال من ينتكسون على أعقابهم ، ويبدلون دينهم ، فهل ينتكس أهل الحق بانتكاسهم؟!
وهذه السنة العظيمة منصوص عليها في سياق الحديث عن هذه الغزوة العظيمة ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].
فإذا كان موت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله لا يسوغ لأتباعه التخلي عن لزوم الحق ، ونصرة الدين فما دون ذلك أحرى أن لا يكون مسوغا صحيحا لذلك.
وهذه الآية إنما عرضت لإشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم التي سرت في المسلمين يوم أحد ، فجاء القرآن يبين أن شرف النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلو منزلته عند الله تعالى ، واختصاصه بما لم يختص به أحدا من خلقه لن يمنع الموت عنه ، وأن سنة الله تعالى في عباده ستجري عليه ، فيجب على أتباع الحق أن يثبتوا على الحق وإن مات داعية الحق ؛ لأنهم تبعوا الحق تعبدا لله تعالى ، ولم يتبعوا الحق عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أحسن الصحابة رضي الله عنهم فهم هذه السنة العظيمة؛ فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه يرمى بهذه السنة الربانية في أوساط المسلمين وقد ذهلوا من هول الفاجعة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أعظم مصيبة نالتهم ، وأكبر فاجعة أصابتهم ، وأفقدتهم صوابهم ، فكان لها الصديق رضي الله عنه ؛ إذ حضر الناس وعمر رضي الله عنه يخطب فيهم ويحلف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات فخاطبه أبو بكر فقال : " أيها الحالف على رسلك ، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزُّمر:30] وقال (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144] فنشج الناس يبكون" وفي رواية: " والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله تعالى أنزلها حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس فما يسمع بشر إلا يتلوها) رواه البخاري.
قال القرطبي رحمه الله تعالى : "فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين أي: لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد ، والنبوة لا تدرأ الموت ، والأديان لا تزول بموت الأنبياء".
وما أحوج المسلمين إلى فهم هذه السنة الربانية حتى لا يغيروا دينهم ، ولا يبدلوا شريعة ربهم بزعم الانفتاح على الحضارة المعاصرة ، أو بدعوى اللحاق بركاب الأمم المتطورة أو بحجة تخفيف ضغوط الكافرين والمنافقين ؛ فإن موت النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم مصيبة في هذه الأمة ، كيف وقد كان المسلمون في معاركهم يحتمون به ، ويستجلبون النصر بدعائه ، وقد اجتمعت كلمتهم عليه ، ولما مات ارتدت قبائل العرب ، واشرأبت أعناق المنافقين ، وطمع اليهود والنصارى في المسلمين ، ولكن فهم الصديق رضي الله عنه لهذه السنة الربانية كان سببا في ثباته وتثبيت الصحابة رضي الله على الحق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقاتلة المرتدين.
أفإن طعن الكافرون والمنافقون في ديننا ، واستخفوا بقرآننا ونبينا عليه الصلاة والسلام ، وطالبونا بتغيير شعائرنا ، والتخلي عن أوامر ربنا ، واتباعهم في ضلالهم ، وساومونا على ذلك ، أفإن فعلوا ذلك بنا يرتد أقوام من المسلمين على أعقابهم ، وينبرون لهذه المهمة القذرة ، فيصيحون في الناس إن أرادوا النجاة من كَلَب الكافرين والمنافقين فعليهم أن يتبعوهم فيما أرادوا ، ويطيعوهم فيما أمروا ، والله عز وجل يقول (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144] والشاكرون هم الثابتون على دينهم وإن غير المغيرون ، وحرف المحرفون ، وبدل المبدلون.
وجزاء الله تعالى للشاكرين في الدنيا بأن تكون الغلبة في آخر المطاف من نصيبهم ، والعاقبة لهم ، ومن كتب الله تعالى عليهم الابتلاء بالهزيمة فقتلوا وهم يدرءون عن دينهم فقد اصطفاهم الله تعالى شهداء ، كما اصطفى سبعين من الصحابة رضي الله عنهم في أحد شهداء ، ومن مات منهم حتف أنفه قبل أن يتنزل النصر فقد لقي الله عز وجل ثابتا على دينه ، لم ينقلب على عقبيه.
وأما جزاؤهم في الآخرة فهو جزاء من ثبتوا على دينهم ، وواجهوا المحن والبلايا بقلوب مؤمنة بالله تعالى ، موقنة بوعده،صابرة على ابتلائه ، راضية بقضائه وقدره ، وجزاء الإيمان واليقين ، والصبر والرضا عند الله عز وجل عظيم ؛ ولذا سمى أهله شاكرين ، وأخبر سبحانه بأنه سيجزي الشاكرين، وجزاء الكريم عظيم ، والله عز وجل هو الجواد الكريم ، فاثبتوا - رحمكم الله تعالى - على دينكم مهما كانت الابتلاءات ، وثقوا بوعد ربكم لكم ؛ فإن الدين دينه ، والعز والنصر يستجلب بطاعته (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ) [آل عمران:126] .
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله – وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: من السنن العظيمة التي نص عليها القرآن الكريم في سياق الحديث عن غزوة أحد : أن المنافقين يتولون حال المحن عن المؤمنين ، وينحازون إلى الكافرين ، ويشتغلون عن نصر الأمة وتأييدها باللوم والنقد ، والتخذيل والإرجاف في أوساط المسلمين ، ولما انخذل المنافقون في أحد وكانوا ثلث الجيش ، ثم كتب الله تعالى الهزيمة على المؤمنين فرح المنافقون وتشفوا من المؤمنين ، وقالوا (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) [آل عمران:156] فعابهم الله تعالى بذلك، وفضحهم في قرآن يتلى إلى يوم (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران:166-168].
وقد حذر الله تعالى من اتخاذ المنافقين بطانة ، أو توليتهم ولاية ؛ لأن قلوبهم مع الأعداء وإن كانت أجسادهم مع المسلمين ، ولا يزالون يتربصون بالمؤمنين الدوائر ، ويحيكون لهم المكائد ، وظهرت أفعالهم القبيحة الشنيعة في غزوة أحد ؛ إذ خذلوا المؤمنين ، ومالئوا الكافرين ؛ ولذا حذر الله تعالى المؤمنين منهم في سياق الآيات التي تقص خبر غزوة أحد ؛ لأن طبيعة المنافقين لا تتغير من زمان إلى زمان ، ولا تكون في مكان دون مكان ؛ فهم كارهون لدين الله تعالى ، رافضون لشريعته فأي خير أو صلاح أو إصلاح يرتجى منهم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) [آل عمران:118-120].
كما أن من السنن العظيمة التي بانت في هذه الغزوة : أن طاعة الكافرين سبب للهزيمة والضعف والانحطاط والتبعية ؛ لأن الكافرين لا يريدون الخير للمسلمين ، كما أن النصر لا يستجلب من الكافرين مهما كانت قوتهم وغلبتهم ، بل يطلب من الله تعالى ، وفي سياق آيات غزوة أحد يقول الله تعالى محذرا عباده المؤمنين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) [آل عمران:149-150].
وقد رأينا هذه السنة العظيمة ماثلة للعيان في كثير من القضايا المعاصرة ، فلا يزال الكافرون يغدرون بالمسلمين ، ولا يفون لهم ، وفي أكبر قضاياهم وهي قضية بيت المقدس ؛ رأينا المسلمين لما أطاعوا الكافرين فيها ما زادوهم إلا وهنا على وهنهم ، وتفرقا إلى تفرقهم ، وما حلت قضيتهم ، بل جرأت اليهود عليهم ، وأطمعتهم في بقية بلدانهم ، وما نفعتهم وعود الكافرين لهم ، إن هي إلا قرارات يمتصون بها غضبهم ، ومبادرات يميتون بها إحساسهم ، حتى بلغ عتو اليهود وظلمهم أن قتلوا الأطفال والنساء ، ودمروا البيوت على ساكنيها ، وخربوا الزرع والثمار ، وجوعوا أمة كاملة من المسلمين ولا يحرك ذلك ساكنا في المسلمين ،ولا يقدرون على نصرة إخوانهم أو نجدتهم ، ولو برغيف خبز يرسلونه إليهم ، أو دواء يعالجون به جرحاهم.
وما كان ذلك إلا لأن المسلمين منذ نصف قرن وهم يطيعون الكافرين في قضيتهم تلك ؛ ولذلك خسروها ، ولا يزالون يخسرون كل يوم جزءا منها ، ولا تزيدهم الأيام إلا تنازلات ما كانوا يرضونها من قبل ، وصدق الله تعالى إذ حذرنا من ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [آل عمران:149].
لقد كانت الآيات التي عرضت لغزوة أحد من سورة آل عمران زاخرة بالسنن الربانية التي لو فقهها المسلمون ، وأحسنوا التلقي عن القرآن ؛ لتبدل حالهم من ضعف إلى قوة، ومن ذل إلى عز ، ومن هزيمة إلى نصر ، فهل يفعل المسلمون ذلك وقد خسروا كثيرا بالتفريط في دينهم ، وتقصيرهم في تدبر كتاب ربهم جل جلاله ، وطاعتهم للكافرين والمنافقين.
عسى أن يكون ذلك ، وأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يفتح للمسلمين فتحا من عنده ، وأن يردهم إلى دينهم ردا جميلا ، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى ، وأن يكبت أعداءهم ، إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم ....
وما أحوج المسلمين إلى فهم هذه السنة الربانية حتى لا يغيروا دينهم ، ولا يبدلوا شريعة ربهم بزعم الانفتاح على الحضارة المعاصرة ، أو بدعوى اللحاق بركاب الأمم المتطورة أو بحجة تخفيف ضغوط الكافرين والمنافقين ؛ فإن موت النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم مصيبة في هذه الأمة ، كيف وقد كان المسلمون في معاركهم يحتمون به ، ويستجلبون النصر بدعائه ، وقد اجتمعت كلمتهم عليه ، ولما مات ارتدت قبائل العرب ، واشرأبت أعناق المنافقين ، وطمع اليهود والنصارى في المسلمين ، ولكن فهم الصديق رضي الله عنه لهذه السنة الربانية كان سببا في ثباته وتثبيت الصحابة رضي الله على الحق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقاتلة المرتدين.