البحث

عبارات مقترحة:

المقتدر

كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

موجبات عذاب القبر والمنجيات منه ( 1)

العربية

المؤلف عبد الله بن علي الطريف
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. حقيقة عذاب القبر .
  2. بعض الذنوب التي يعذب بها في القبر .
  3. الأسباب المنجية من عذاب القبر .

اقتباس

لقد وعظت مناظر القبور فما تركت لواعظ مقالاً! ونادت: يا عُمَّارَ الدنيا: لقد عمرتم دارًا موشكةً بكم زوالاً، وخربتم دارًا أنتم مسرعون إليها انتقالاً، عمرتم بيوتًا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتًا ليس لكم مساكن سواها، فالقبور رياضٌ من رياض الجنة، أو حفرٌ من حفر النار.

أيها الإخوة: ثبت في صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ: "نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ"، قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ صَلَّى صَلاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. 

كما روى البخاري أيضًا عنها -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ". فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ! فَقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ".

نعم -أيها الإخوة-: لقد جَعَلَ اللهُ الدُّنْيَا دَارَ بَلائِهِ، وَالآخِرَةَ دَارَ جَزَائِهِ، وَجَعَلَ القُبُورَ بَرْزَخًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ؛ فَمَكَانُهَا فِي أَرْضِ الدُّنْيَا، وَجَزَاءُ أَهْلِهَا بِجَزَاءِ الآخِرَةِ، وَ"مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ".

أحبتي: سُئل ابنُ القيم -رحمه الله- في كتابه القيم "الروح"، عن الأسباب التي يعذبُ بها أصحابُ القبور؛ فقال: "جوابها من وجهين: مجملٌ ومفصل، أما المجملُ فإنهم يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه فلا يعذبُ الله روحًا عرفته وأحبته، وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدنًا كانت فيه أبدًا... فإن عذابَ القبر وعذابَ الآخرة إثر غَضَبِ الله وسخطه على عبده؛ فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتبْ، ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقلٌّ ومستكثر،ٌ ومُصَدِّقٌ ومُكَذِّب".

ثم ذكر -رحمه الله- الجواب المفصل، فذكر ما يقارب مائة من الذنوب والمعاصي تكون سببًا في عذاب القبر نعوذ بالله منه، ثم قال: "فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله". اهـ.

وسأذكر منها حديثَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدبٍ -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ لأصحابه: "هل رأَى أحدٌ منكم من رؤيا؟!"، فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ: "مَا شَاءَ اللَّهُ!".

وإنه قال لنا ذَاتَ غَدَاةٍ: "إنه أتاني اللَّيْلَةَ آتيان، وإنَّهُما ابْتَعَثَانِي، وإنَّهُمَا قالا لي: انطَلِقْ، وإنَّي انطلقتُ معهما، وإنَّا أتَيْنا على رَجُلٍ مُضْطجِعٍ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصَخْرةٍ، وإذا هو يَهْوِي بالصخرةِ لرأْسِهِ؛ فيثْلغ رَأْسهُ فَيَتَدَهْدَهُ الحَجرُ ها هنا -أي: يتدحرج- فَيَتْبَعُ الحجرَ فيأخُذُهُ، فلا يرجِعُ إليه حتَّى يصِحَّ رأْسُهُ كما كان، ثم يعود عليه فيفعلُ به مثلَ ما فعلَ المرةَ الأولى، قال: قلتُ لهما: سبحانَ الله! ما هذا؟! قال: قالا لي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ.


فأتينا على رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لقفاهُ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بِكلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ، فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفاهُ، ومِنْخَرَهُ إلى قفاهُ، وَعَينَهُ إلى قفاهُ، ثم يتحَوَّلُ إلى الجانبِ الآخر، فَيَفْعَلُ به مثل ما فَعَل بالجانب الأول، قال: فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصِحَّ ذلك الجانبُ كما كان، ثم يعودُ عليه، فيفعَلُ مثلَ ما فَعَلَ المرّةَ الأولى، قال: قلتُ: سبحان الله! ما هذا؟! قال: قالا لي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ.


فانطَلَقنا، فَأَتيْنا على مثل التَّنُّورِ، فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، قال: فاطّلَعْنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عُراةٌ، وإذا هُمْ يأتيهم لَهبٌ من أسفلَ منهم، فإذا أَتاهم ذلك اللَّهبُ ضَوْضَوْا، قال: قلتُ لهما: ما هؤلاء؟! قال: قالا لي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ.


قال: فانطَلَقنا، فَأتينَا على نَهْرٍ أحْمَرَ مِثْل الدَّم، وإذَا في النَّهْرِ رجُلٌ سابِحٌ يسْبَحُ، وإذا على شط النهر رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عنْدهُ حِجَارَة كَثيرة، وإذا ذلك السابحُ يسْبَحُ ما سَبَحَ، ثم يأتي ذلك الذي قَد جَمَعَ عنْده الحجارة، فَيَفْغَرُ فَاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، فيَنْطَلِقُ فيَسْبَحُ، ثم يرجعُ إليه كُلَّما رَجع إليه فَغَر فَاهُ؛ فأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قال: قلتُ لهما: ما هذا؟! قال: قالا لي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ.


فانطَلَقْناَ، وذكر أمورًا أخرى ثم قال: قلت لهما: فإني رأَيتُ منذُ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيتُ؟! قال: قالا لي: أمَا إنَّا سَنُخْبِرُك، أمَّا الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يُثْلَغُ رأْسُه بالحجَرِ، فإنَّهُ الرجلُ يأخذ القرآن، فيرفُضُه، وينام عن الصلاة المكتوبة
". فهل نتنبه لعظم ذنب النوم عن صلاة الفجر حتى تطلع الشمس؟!.

"وإنّ الرجل الذي أتيتَ عليه يُشَرْشَرُ شِدْقُه إلى قفاه، ومِنْخَرُه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يَغْدُو من بيته، فيكذِبُ الكذْبة تبلغُ الآفاق -وفي هذا الزمان ما أسهل ذلك عبر وسائل الإعلام الحديثة وما يسمى بشبكات التواصل الاجتماعي! أيها الأخ المبارك: قبل أن تضغط "زر": أرسِلْ في جوالك أو حاسوبك تذكر هذا الحديث، أسأل الله أن يلهمنا رشدنا!-.

وأما الرِّجال والنساءُ العراةُ الذين هم في مثل بناء التَّنُّور، فإنهم الزُّنَاةُ والزَّواني.

وأما الرَّجُلُ الذي أتيتَ عليه يَسبْحُ في النهر، ويُلْقَمُ الحجارةَ، فإنه آكلُ الرِّبا.

قال ابن القيم -رحمه الله- معلقًا على هذا الحديث: "هذا في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن وينام عن الصلاة المكتوبة، وتعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي في البرزخ".

وفي مسند أحمد بسند صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ". المراد الذين يقعون في الغيبة.

الغيبة! ذلكم الداء الذي لا يسلم منه إلا الموفقون، جعلنا الله منهم، وأعاننا على أنفسنا.

أيها الإخوة: وَمِنْ أَسْبَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ الْغُلُولُ؛ والغلول الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها. قال بعض أهل العلم: ومثل الغنيمةِ الأموالُ العامة التي تعتبر ملكًا للأمة إذا أخذ منها ما لا يستحق، ففِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أُصِيبَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا".

فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ". وَالشِرَاك: سير النعل على ظهر القدم. رواه البخاري ومسلم.

فَإِذَا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِشَمْلَةٍ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، وَهِيَ مُجَرَّدُ قِطْعَةِ قُمَاشٍ يُتَّشَحُ بِها، فما القول فيمَنْ يتجرأ على أخذ الْمَالِ الْعَامِّ، وَيَتَخَوَّضُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَى يديه واستئمانه عليه؟! وربما أفتى نفسه وقال: هذا مال الدولة وهذا حقي منه! (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر:8].

وبعد:

فهذه بعض الذنوب التي يعذّب عليها في القبور، فكم فيها من معذبٍ لا نعلم حاله! فظواهر القبور لنا ترابٌ وحجارة، وبواطنها عليهم حَسَراتٌ وعَذابٌ، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها.

تالله! لقد وعظت مناظر القبور فما تركت لواعظ مقالاً! ونادت: يا عُمَّارَ الدنيا: لقد عمرتم دارًا موشكةً بكم زوالاً، وخربتم دارًا أنتم مسرعون إليها انتقالاً، عمرتم بيوتًا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتًا ليس لكم مساكن سواها، فالقبور رياضٌ من رياض الجنة، أو حفرٌ من حفر النار.

نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها، ويمنّ علينا بالتوبة النصوح؛ إنه جواد كريم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أيها الإخوة: قال ابن القيم -رحمه الله-: "أما الأسباب المنجية من عذاب القبر فجوابها أيضًا من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفعها: أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبةً نصوحًا بينه وبين الله؛ فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة؛ فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظَ مستقبلاً للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته.

وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عَقَّبَ ذلك بذكر الله، واستعمال السُّنن التي وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرًا وفَّقَه لذلك، ولا قوة إلا بالله.

وأما الجواب المفصل فنذكر أحاديث عن رسول الله فيما ينجي من عذاب القبر، فمنها ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله يقول: "رباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان".

ومما ينجي من عذاب القبر قراءة سورة الملك، فقد صحح الألباني حديث: "سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر".

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟! قال الرجل: بلى، قال: اقرأ: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، احفظها، وعلمها أهلك وولدك وصبيان بيتك وجيرانك؛ فإنها المنجية.

أسأل الله تعالى أن ينجينا ووالدينا من عذاب القبر...