العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
إنها بشارة في شدة المحنة ، وتفاؤل بقرب موعود الله تعالى مع عظم الكرب ، واستحكام الأمر ، فيا له من يقين بالله تعالى لا يتزحزح من قلب النبي صلى الله عليه وسلم مهما عظمت المحنة ، واشتد الكرب ، واستحكم البلاء.
الحمد لله؛ ابتلى عباده المؤمنين، وأجزل المثوبة للصابرين، أحمده على ما قدر من السراء والضراء، وأشكره على جزيل المنح والعطاء ، وأستغفره من كل الذنوب والأخطاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ تفرد بصفات الجلال والكمال ، ونزه عن الأنداد والأمثال ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ مسته البأساء والضراء ، وأحاطت به المصائب واللأواء، فصبر على عظيم الأذى ، واحتمل في سبيل الله تعالى شدة الابتلاء ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أولي الصدق والنقاء ، وأهل التضحية والفداء ، ومن تبعهم بإحسان واهتدى.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى - عباد الله - وأطيعوه ؛ فلنعم زاد المؤمن تقوى الله تعالى وطاعته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أيها الناس: الإيمان والتقوى سببان للمحنة والابتلاء ، وثمن الثبات عليهما جنة عرضها الأرض والسماء ، وقد حفت الجنة بالمكاره كما حفت النار بالشهوات ، وأفاضل الخلق من الرسل والأنبياء عليهم السلام كانوا أعظم الناس بلاء ، وأشدهم امتحانا ، وما أصابهم من البلاء لا يطيقه سواهم ، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : "أي الناس أشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي شوال من السنة الخامسة من الهجرة النبوية المباركة وقع ابتلاء شديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ؛ إذ رمتهم العرب عن قوس واحدة ، واجتمعت عليهم جموع المشركين مع غدر اليهود وتخذيل المنافقين ، في واقعة سميت بغزوة الأحزاب ، ونزل في وصف شدتها ومحنتها آيات بينات تتلى إلى آخر الزمان.
كانت قريش تريد الثأر لأسيادها الذين قتلوا في بدر ، وشجعهم على حشد الحشود ، وتحزيب الأحزاب جماعة من يهود بني النضير الموتورين بالجلاء عن المدينة إلى خيبر بعد نقضهم للعهد مع المسلمين ، فوفد منهم وفد إلى مكة شجعوا المشركين على غزو المدينة ، وأفتوهم بأن دين المشركين خير من دين المسلمين ؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: "كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحُقَيق وأبو رافع ...وذكر جماعة ثم قال: فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ، فأنزل الله تعالى فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) [النساء:51-52].
ثم انتقل وفد من هؤلاء اليهود إلى قبيلة غطفان وهي من أكبر قبائل نجد آنذاك فأغروها بالتحالف مع المشركين على أن لهم نصف ثمر خيبر ، وخرج معهم جماعة من أشجع وبني سليم وبني مرة ، وبني كنانة وأهل تهامة في جمع عظيم ، سماه الله تعالى : الأحزاب ، قاصدين المدينة النبوية ، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم شاور أصحابه ، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق لمنع المشركين من الوصول إلى المدينة فحفره المسلمون.
واجتمع عليهم مع خوف عدوهم ، وتكالب المشركين عليهم ، ما يجدونه من المخمصة الشديدة ، والجوع المؤذي ، وهم يحفرون الخندق ، وكان ذلك في زمن الشتاء ، والشتاء لا يخفف برده إلا الطعام ولا طعام ، والحفر شاق ومرهق ولا يقدر عليه جائع ، والمسلمون جوعى ، فتكالب عليهم قلة ذات يد ، وشدة جوع ، مع خوف عدو ، قال أنس رضي الله عنه يصف ما يأتيهم من طعام وهم يعملون الخندق قال: " يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن" رواه البخاري ، والإهالة هي الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتا أو سمنا أو شحما ، وقوله: سنخة أي تغير طعمها ولونها من قدمها؛ ولهذا وصفها بكونها بشعة.
وهذا الطعام على رداءته وجوده أحسن من عدمه ، وإلا فإنهم قد يعدمونه فلا يجدون ما يأكلون كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: " لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا فانكفأت إلى امرأتي فقلت هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا " رواه الشيخان.
ويستمر بهم الجهد والجوع أياما تباعا لا يجدون ما يأكلون حتى يبلغ بهم إلى عصب بطونهم بالحجارة ؛ كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال جابر رضي الله عنه: " إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كُدْية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ...." وجاء في رواية أخرى :" أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع".
وهذه الحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والجوع جعلت جابرا رضي الله عنه يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ويغدوا إلى امرأته فيقول لها
فلما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من طعام جابر رضي الله عنه بعد أن بارك الله تعالى فيه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام لامرأة جابر: "كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة " وهذا يدل على شدة ما هم فيه من القلة والمسغبة.
وتتواصل المحن عليهم ، ويعظم البلاء بهم ، وهم على ما هم فيه من الأمر العصيب ؛ إذ سرت في الناس شائعة أن اليهود داخل المدينة قد نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم سيحالفون المشركين على المسلمين ، وأن الخطر قد أحاط بنساء المسلمين وذراريهم داخل حصون المدينة ، واشتد الأمر على المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من يأتيني بخبر القوم - يعني بني قريظة- قال الزبير: أنا ، ثم قال: من ياتيني بخبر القوم ؟ قال الزبير: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير" رواه الشيخان .
فأخبر الزبير رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببوادر نقض قريظة للعهد ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفدا من سادة الأنصار لمحاورتهم واستظهار خبرهم وقال لهم: " انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس" فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله وقالوا:لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله فسلموا عليه ثم قالوا: "عضل والقارة" أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه - أرادوا ألا يعلم الناس بالأمر كما أوصاهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين"
إنها بشارة في شدة المحنة ، وتفاؤل بقرب موعود الله تعالى مع عظم الكرب ، واستحكام الأمر ، فيا له من يقين بالله تعالى لا يتزحزح من قلب النبي صلى الله عليه وسلم مهما عظمت المحنة ، واشتد الكرب ، واستحكم البلاء.
انضم إلى هذه المحن والشدائد التي تتابعت على المسلمين شدة في إثر شدة ، ومحنة تنسي الأخيرة منها ما قبلها ، انضم إليها ظهور النفاق ، وتخذيل المنافقين في أوساط المسلمين ، وإضعاف معنوياتهم ببث الشائعات والأراجيف ، وتخويفهم من قوة المشركين ، مع الانسحاب من الجيش على ملأ من الناس ، حتى قال قائل المنافقين: " كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط" وقال آخر: " إن بيوتنا لعورة من العدو وذلك عن ملأ من رجال قومه فائذن لنا فلنرجع إلى دارنا ".
إنها محنة عظيمة ، وكرب شديد ، لا يصمد أمامه إلا من كان قوي الإيمان واليقين ، مع تثبيت الله تعالى وربطه على القلوب ، وإلا فما ظنكم باجتماع الخوف والجوع على النفس البشرية الضعيفة..عدو شرس قد حاصر المدينة يروم استئصال المسلمين ، في أعداد كثيفة لا يبلغ المسلمون الثلث منها ، وعدو في الداخل قد عزم على نقض العهد ، وخيانة المسلمين ، وخفرهم في نسائهم وذراريهم ، ومنافقون مرجفون قد فرحوا بمصاب المسلمين ، وصاروا يظهرون ما يخفون ، فمن ذا الذي يثبت أمام هذا البلاء العظيم ، ويواجه تلك المحن المتلاحقة بثبات ويقين ؟!
لقد وصف القرآن العظيم هذا البلاء بأدق وصف وأبلغه ، وأفصح عما أصاب المؤمنين من عظيم الشدة والكرب (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) [الأحزاب:11].
نعم زاغت الأبصار من شدة البلاء والكرب ، ونبت القلوب عن أماكنها من الخوف والرعب فبلغت إلى الحناجر ، وهو خوف من طبيعة البشر مهما كانوا ، ويبين حذيفة رضي الله عنه ما أصابهم آنذاك فيقول رضي الله عنه : " لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقُرٌّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم ، قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُم علي- أي لا تفزعهم حتى لا يشعروا بك -فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام- أي: لم يجد البرد الذي يجده الناس- حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته ، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام ، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قُرِرْتُ – أي أصابه البرد بعد انتهاء مهمته وتلك كرامة عجيبة- فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان" رواه مسلم .
وقد حكى الله تعالى مقولات المنافقين التي أرادوا بها الإرجاف ، وإضعاف المؤمنين ، وتقوية الكافرين عليهم ، فقال سبحانه: (وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا) [الأحزاب:13].
لقد ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله تعالى حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وعند استحكام البلاء ، وشدة الكرب يأتي الفرج من الله تعالى ؛ إذ أرسل جنده على الكافرين ، وخالف بينهم وبين اليهود فوقع الشر بينهم بخدعة نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي أسلم حينئذ وسعى بالوقيعة بين المشركين واليهود وهم لا يعلمون إسلامه، ورأى المنافقون ما يسوؤهم من بقاء الإسلام وأهله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب:9].
وبعد رحيل المشركين أمر المسلمون بالمسير إلى الخونة بني قريظة ناقضي العهد واستئصال شأفتهم بحكم الله تعالى الذي نطق به حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ رضي الله عنه ؛ كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت : " أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له بن العَرِقَةِ رماه في الأَكْحَل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل ، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة ، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد ، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء وتقسم أموالهم ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل ، وفي رواية: لقد حكمت بحكم الملك " رواه الشيخان واللفظ لمسلم .
وبعد أن حكم فيهم سعد بحكم الله تعالى دعا وهو جريح فقال : " اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه ، اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك ، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها فانفجرت من ليلته فلم يَرُعْهُم إلا والدم يسيل إليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد جرحه يَغِذُّ دما فمات منها " رواه مسلم .
ولما وضعت جنازته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام :" اهتز لها عرش الرحمن " وفي رواية : " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " رواه مسلم .
رضي الله تعالى عن سعد وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم، وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه ؛ أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين...
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71].
أيها المسلمون: كانت غزوة الأحزاب موطنا عصيبا من مواطن الامتحان والابتلاء ، اجتازه المؤمنون الصادقون باقتدار، وأخفق فيه المنافقون ، وتنزل القرآن يفضحهم ، ويبدي ما أخفوه من مساوئهم ، ويمدح المؤمنين على صبرهم وثباتهم ، ومواجهتهم هذه الابتلاءات بالرضى والتسليم لله رب العالمين.
واللافت للنظر -أيها الإخوة- أن الآية الآمرة بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت متخللة الآيات التي عرضت لهذه الغزوة وتفصيلاتها (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل .... ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة فقال تعالى (وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22] قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214] " .اهـ
وما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، واليقين بأن ما يعانونه في هذا العصر من أذى الكافرين، وتسلط المنافقين، وإرجافهم بالمؤمنين، قد وقع مثله وما هو أشد منه لأهل الصدر الأول من المسلمين، فصبروا على الأذى ، وثبتوا على دينهم ، ولم يغيروا أو يبدلوا إرضاء لأحد من الناس مهما كانت قوته ، ومهما بلغ مكره وتخويفه ؛ فأحسن الله تعالى لهم العاقبة في الدنيا بالنصر والتأييد على أعدائهم ، ورضي فعلهم فأرضاهم ورضي عنهم، وما نال أعداؤهم إلا الهزيمة والحسرة في الدنيا والخسارة في الآخرة.
وهؤلاء المؤمنون الثابتون على دينهم في غزوة الأحزاب رغم ما مر بهم من ابتلاءات قد جعلهم الله تعالى لنا أسوة ، وأمرنا بالاقتداء بهم في إيمانهم ويقينهم ، وثباتهم على دينهم ، وثقتهم بربهم ، وتصديقهم بموعوده.
فما أحوجنا -أيها الإخوة- إلى التأسي بهم ، والثبات على الحق كما ثبتوا ، إلى أن نلقى الله عز وجل غير مبدلين ولا مغيرين ، ويتأكد ذلك في زمن اشتدت فيه المحنة على المسلمين ، وزادت الضغوط والمضايقات والتسلط من الكافرين والمنافقين على المؤمنين ، يريدون تبديل دينهم ، وصرفهم عن شريعة ربهم ، ولا ثبات على الحق إلا بتثبيت الله تعالى ، فاسألوه سبحانه الثبات على الحق إلى الممات.
وصلوا وسلموا |