العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أيها الأخ المبارك: وإذا اجتمعت مع الناس فخالقهم على حسبِ درجاتِهم، الصغيرُ والكبيرُ والشريفُ والوضيعُ، والعالمُ والجاهلُ، كلُ أحدٍ تكلمْ معه بالكلام الذي يناسبُه ويليقُ بحاله، ويدخل السرور عليه، وبالكلام الذي له به ميدان، معلماً للجاهلِ متعلماً ممن هو أعرف منك.. متشاوراً مع...
الخطبة الأولى
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة: فإن الله خلق الخلق، وغرس فيهم حب الاجتماع، والتعايش فيما بينهم، ولقد حث الإسلام على الاجتماع ورغب فيه، فقال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
عنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ؛ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[ابن ماجة وغيره وصححه الألباني].
ومن هذا المنطلق حث الإسلام على الاجتماع وحسن المعاشرة بين المسلمين فيما بينهم.
ولقد تمثل هذا المبدأ ودعا إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- وركز على ذلك فيما كتب رحمه الله، وظهر هذا المبدأ جلياً في سلوكه كما ينقل ذلك عنه من عاشره، وكرس الدعوة إلى حسن المعاشرة بين المؤمنين في كتاباته، وسأقتبس في حديثي اليوم كثيراً من كتاباته -أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه ووالدينا جنات النعيم-.
أيها الأحبة: أصل ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقا"[رواه الترمذي وهو حديث صحيح].
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"[رواه البخاري ومسلم].
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله–: "ما يحب لنفسه" من أمور الدنيا والدين، لأن هذا مقتضى الأخوة الإيمانية أن تحبَّ لأخيك ما يحبُّ لنفسك....".
قال الشيخ السعدي: "واعلم أن الناسَ في معاشرةِ بعضهم بعضاً درجاتٌ في الخير والشر لا تنضبط درجاته، وأغلب المعاشرات قليلةُ الجدوى عديمة الفائدة، بل كثير منها مؤدٍّ إلى الخسران والأضرار الدينية والدنيوية".
ونذكر في هذا الموضع أعلى الأقسام وأنفعها وأبقاها ثمرةً، فإن أدركها المؤمن بتوفيق الله وجدِّه واجتهاده، فقد أدرك كلَّ خيرٍ، وإن لم تقوَ نفسُه على بلوغِها فليجاهدها ولو على بعضها، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه.
أيها الأحبة: أصل ذلك أن تعتقد َ عَزْماً جازماً، وعقيدةً صادقةً على محبة جميع المؤمنين، والتقربِ لله في هذه المحبةِ، وتجتهدَ على تحقيقها على وجه العمومِ، وعلى وجه الخصوص، وعلى قلعِ ما يضادُّها أو يَنْقُصها، فتعتقدُ أن تَحَقُقَ القلب بمحبة المؤمنين عبادةٌ من أجل العبادات وأفضلِ الطاعات، وذلك بأن تتخذَ جميعَ المؤمنين إخواناً، تحب لهم ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكرهه لنفسك من الشر، وتَفَقَّد قلبك في تحقيق هذا الأمر الجليل والاتصاف به، والاحتراز من ضده، من الغلِّ والحقد والحسد والبغض لأحدٍ منهم، ومتى رأيت من قلبك شيئاً من ذلك فبادر بقَلعه، واسأل الله أن لا يجعل في قلبك غلاًّ على أحد من المؤمنين، خاصتِهم وعامتِهم.
وميزّ من له في الإيمان مقامٌ جليلٌ كعلماء المسلمين وعبادهم بزيادة محبة، قال الله - تعالى -: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].
أي: من جاء بعد المهاجرين والأنصار (يَقُولُونَ) على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ).
وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم.
وهذا من فضائل الإيمان: أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضُهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا.
ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.
لأن دعاءهم بذلك مستلزم لمحبة بعضهم بعضا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن ينصح له حاضرا وغائبا، حيا وميتا، وأن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وهؤلاء أهله، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه.
وتعاهد أيها الأخ المبارك: ذلك بالتحبب إلى المؤمنين بطلاقة الوجه؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"[رواه مسلم].
كما تعاهد نفسك بحسن الخلق؛ فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاقًا"[رواه البخاري].
ومن المعاشرة الطيبة المعاملة الجميلة بين المسلمين، فإنها في نفسها عبادة، وجالبة لتحقق القلوب بالمودة والرحمة بينك وبين المؤمنين.
ووطن نفسك أخي الكريم: على ما ينالك من الناس من أذىً قولي، أو أذى فعلي، أو معاملة منهم بضد ما عاملتهم به من إحسان، فإن توطين النفس على ذلك يسهلُ عليك الأمر، وتتلقى أذاهم بضده، وليكن التقربُ إلى الله عند ذلك على بالك، فإن التقرب إلى الله هو الذي يهون عليك هذا الأمرَ الذي هو شديدٌ على النفس.
واعلم أن هذا الوصفَ من أوصاف الكُمِّل من أولياء الله وأصفيائه، فبادر للاتصاف به، فمن أبغضك وعادك وهَجَرَك فعامله بضد ذلك لتكسب الثوابَ، وتكسب هذا الخُلقَ الفاضلَ، وتتعجل راحة قلبك، وتخفف عن نفسك هم المعاداة، وربما انقلب العدو صديقا والمبغض محبا، كما هو الواقع، واعف عما صدر منهم لله، فإن من عفى عن عباد الله عفى الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه والجزاءُ من جنس العمل، وليَنْصَبِغْ قلبُك كلَّ وقت بالإنابة إلى الله، ومحبة الخير لعباد الله، فإن من كان كذلك فقد تأصلت في قلبه أصول الخير التي تؤتي أُكُلَها وثمراتِها كل حين بإذن ربها، وبهذا يكون العبد أوباً، إنه كان للأوابين غفورا. أ- هـ.
أيها الإخوة: ومما ينبغي أن يعاشر المسلم به الخلق: الإحسان إليهم بالقول والفعل، وأنواع المعروف، وكلها خيرٌ وإحسان، وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادرٌ عن إخلاص واحتساب لثوابه، فيُهَون الله عليه بذلَ المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خيرٌ ممن صدرت منه، والخير يجلب الخير، ويدفع الشر، وأن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجراً عظيماً.
اللهم ارزقنا حسن الخلق وحب عبادك الصالحين، واحشرنا ووالدينا في زمرة المتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها الأخ المبارك: وإذا اجتمعت مع الناس فخالقهم على حسبِ درجاتِهم، الصغيرُ والكبيرُ والشريفُ والوضيعُ، والعالمُ والجاهلُ، كلُ أحدٍ تكلمْ معه بالكلام الذي يناسبُه ويليقُ بحاله، ويدخل السرور عليه، وبالكلام الذي له به ميدان، معلماً للجاهلِ متعلماً ممن هو أعرف منك.. متشاوراً مع نظيرك فيما هو الأصلحُ من الأمور الدينيةِ والدنيويةِ، آخذاً لخواطرهم موافقا لهم على مطالبِهم التي لا محذور فيها، حريصاً على تأنيسهم، وإدخال السرور بكل طريق إلى قلوبهم؛ مضمناً كلامك لكل أحدٍ بما يناسبه من النصائح التي تنفعُ الدينَ والدنيا.
ومن الآداب الجميلةِ حَثِّهم على قيام كلٍّ منهم بما هو بصدده من الحقوقِ التي لله والتي للخلق، موضحا لهم الطرق المسهلة لفعل الخير والأسباب الصارفة عن الشر، واقنع بالقليل إذا عجزت عن الكثير واعلم أن قبولهم وانقيادهم مع الرفق والسهولة أبلغ بكثير من سلوك طريق الشدة والعنف إلا حيث تُلْجِئُ الضرورةُ إلى ذلك فللضرورة أحكام...
ومن حسن المعاشرة بين المؤمنين: أن توطن نفسك على أن لا تطلب الشكر إلا من الله، فإذا أحسنت إلى من له حق عليك أو من ليس له حق، فاعلم أن هذا معاملة منك مع الله.. فلا تبال بشكرِ من أنعمت عليه، كما قال الله - تعالى- في حق خواص خلقه: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9].
ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد، ومن قوي اتصالك بهم فمتى وطنت نفسك على إلقاء الشره عنهم، فقد أرحت واسترحت.
اللهم اكتب لنا من الأخلاق أحسنها، ومن الأعمال صالحها، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين أو مضلين.
وصلوا وسلموا على نبيكم؛ يعظم الله أجركم...