الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | أحمد حسين الفقيهي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد أصْبح السَّفر إلى الخارجِ مصيبةً تُضاف إلى رصيد الأمَّة، التي تتابعتْ عليها المصائب، وليْتَ الأمرَ يتوقَّف عند ذَهاب الأوْلياء فقط، بل وصل الأمرُ ببعض الأولياء أنْ يُرسلوا إلى تلك الديار البابئِسة فلذاتِ أكبادِهم، ومُهجَ نفوسِهم، وكأنَّهم بمَعْزلٍ عمَّا يَجري ويحدُث في تلك اللدان، مِن سيِّئ الأعمال، وقبيح الخِصال. ولقد أوضح علماءُ الإسلام شروطَ إباحة سفر المرْء إلى بلاد غير المسلمين...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرَّحمن الرحيم، مالكِ يوم الدِّين، وأشْهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، إله الأوَّلين والآخرين، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، إمام المتَّقين، وقُدوة النَّاس أجمعين، صلَّى الله عليْه وعلى آله وصحْبِه الطَّيبين، والتَّابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فيا عبادَ الله: مع شدَّة حرِّ الصَّيف، ولأْواء الشَّمس وهجيرها، ومع سخونةِ الأجْواء التي يتصبَّب منها الجبين عَرَقًا، يستعدُّ كثيرٌ من النَّاس للرَّحيل والسفر، حجوزات تُؤكَّد، وتذاكر تُقْطَع، حقائب تُجهَّز، وأموال تُرْصَد، يُيَمِّم الأكثر وجوهَهم قِبل المصايف والبلدان المعتدِلة والباردة؛ من أجْل التنعُّم بأجوائها، والاستمتاع بأمطارها، والتخفُّف من مشاغل الحياة ومتاعبها، وهذا السفر -عبادَ الله- وذاك التنقُّل في البلدان هو فِطرةٌ فطَر الله تعالى النَّفْس البشريَّة عليْها، ففِئة تسافر لتُتاجر، وأخرى لتُجاهد، وثالثة لتتعلَّم، ورابعة مِن أجْل أداء واجب كحجٍّ وعُمرة، وصِلة رحِم، أو دعوة إلى الله تعالى.
ولقد كان العرَب في الجاهليَّة يُسافرون ويَسيحون في الأرْض، فجاء الإسلام فزكَّى مبدأ السياحة وقوَّاه، بل امتنَّ به على قريشٍ حين ذكَّرهم بأنَّه هيَّأ لهم أسبابَ رِحلَتين عظيمتين منتظمتين: إلى اليمن تارة، وإلى الشام تارة أخرى، فقال سبحانه: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) [قريش: 1 - 2].
أيُّها المسلمون: السَّفر هو قطْع المسافات والمراحل بنيَّة السَّفر، وسُمِّي سفرًا؛ لأنَّه يُسفِر عن وجوه المسافرين وأخلاقِهم، فيظهر ما كان منها خافيًا؛ رَوَى ابنُ أبي الدنيا أنَّ عمر بن الخطَّاب -رضِي الله عنْه- رأى رجلاً يُثْني على رجل، فقال: أسافرتَ معه؟! قال: لا، قال: أخالطتَه؟! قال: لا، قال عمر -رضي الله عنه-: "والذي لا إلهَ إلا هو، ما تَعرِفه".
عباد الله: لقد كان آباؤنا في القديم، وأهْل الجاهليَّة مِن قَبلهم مع حاجتِهم إلى السَّفر، واضطرارِهم إليه أحيانًا، يُعانون في سلوكِ سبيله المتاعب، ويَتجرَّعون الغُصَص؛ نظرًا لقلَّة الإمكانيَّات، وانعدام الأمْن، وطول المسافات، هذا فضلاً عن مُفارقة الأهل والأبْناء والأصْحاب؛ ولذا قال المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إنَّ السَّفر قِطعةٌ من العذاب".
والعذاب هنا هو الألَم الناشِئُ عن المشقَّة؛ لما يَحصل في الرُّكوب والمشْي من ترْك المألوف -كما قال ابن حجر رحمه الله تعالى-.
ولقد سُئِل إمام الحرمين: لِمَ كان السفر قطعةً من العذاب؟! فأجاب على الفور: لأنَّ فيه فرقة الأحباب.
أيها المسلمون: ومع العذاب الذي يُصاحب السفر غالبًا إلاَّ أنَّ السَّفر في هذه الأزْمان يختلِف عن السفر في قرون مضَتْ، فقد مُهِّدت الطرق، وجَرتْ عليها الآلات بشتَّى أنواعِها، فهي تسير بِهم على الأرْض إنْ شاؤوا، أو تُقلُّهم الطَّائرات إن رغِبوا، أو تَحملهم الفُلْك في البحر إنْ أرادوا، ما يؤكِّد أهميَّةَ شُكر الله تعالى على هذه المصنوعات السَّائرة، وتلك الوسائل الباهِرة؛ قال تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 5 - 8].
عباد الله: ومع عذاب السَّفر في فُرْقة الأوْطان، والبعد عن الأهْل والخِلاَّن، إلاَّ أنَّ فوائدَ السَّفر ومنافعه تخفِّف جزءًا من ذلك العذاب والألم، ولقد أجْمل الأوَّل بعضًا مِن تلك المنافع، فقال:
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِي طَلَبِ العُلا | وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ |
تَـفَـرُّجُ هَـمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ | وَعِـلْمٌ وَآدَابٌ وَصُـحْبَةُ مَاجِدِ |
أيُّها المسلمون: إنَّ مِن أعظم فوائد السَّفر، وأكثرها تعلُّقًا بالله تعالى، معرِفةَ عظمته وقدرتِه بالنَّظر إلى ما أبدَعه -جلَّ وعلا- في هذا الكونِ من حيوانٍ ومواتٍ، وساكنٍ وذي حَرَكات، يقول الثعالبي -رحِمه الله تعالى-: "مِن فضائل السَّفر أنَّ صاحبه يرَى من عجائب الأمْصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يَزيدُه عِلمًا بقُدرة الله تعالى، ويدعوه شُكرًا على نِعمه
تِـلْكَ الطَّبِيعَةُ قِفْ بِنَا يَا سَارِي | حَتَّى أُرِيكَ بَدِيعَ صُنْعِ البَارِي |
فَالأَرْضُ حَوْلَكَ وَالسَّمَاءُ اهْتَزَّتَا | لِـرَوَائِـعِ الآيَـاتِ وَالآثَـارِ |
عباد الله: ينقسم النَّاسُ في السَّفر قِسمين وفسطاطين؛ قسم: أراد بسفرِه الخروجَ مِن المَلَل والسآمة، والضِّيق والكآبة، فساحَ في الأرْض تأمُّلاً في خلْق الله، أو تزوُّدًا مِن عِلْم رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، أو قصَد بسفرِه صِلةَ قريب أو أخٍ في الله تعالى، فهنيئًا لهؤلاء جميعًا تلك الخُطوات، وبُوركت تلك الرحلات.
وقسم آخر: اتَّخذ من السَّفر سبيلاً للمحرَّمات، والتَّنكُّر للأعْراف والعادات، فعاد لبلدِه بالأوْزار والسيِّئات، وغَضَبِ ربِّ الأرْض والسَّماوات.
أيُّها المسلمون: إلى أين الرَّحيل؟! ولماذا السَّفر؟! أفِي طاعة الله أسفاركم؟! أم إلى معصيةِ الله ارْتِحالكم؟!
إنْ كان سفرُكم إلى طاعة الله، وفي منأًى عمَّا يسخط الله، فامْضُوا على بركة الله، تكلؤكم عنايةُ الله، وأمَّا إن كان ارتِحالُكم إلى معصية الله، وفي غير طاعة الله ورِضاه، فاتَّقوا الله واستحْيُوا من الإله، واعلموا أنَّ الله كان عليكم رقيبًا.
أيُّها المسافرون: إنَّ المسلِم العاقل هو مَن أعملَ فِكْرَه، وأخَذ من حوادث النَّاس عِبرة، فكم من أناس سافروا طلبًا لاقتِراف الحرام، وبحثًا عن المعاصي والآثام، فكان جزاؤهم الخَيْبة والخسران، أصابتْهم الأمراض المُعْدية، وانتقلت إليْهم الجراثيم المستعْصِية، بما كسبتْ أيديهم، وبما اقترفوا مِن معصية باريهم.
أيُّها المسلمون: مِن الناس مَن يُطْلِق لنفسِه وأُسرته العِنان في السَّفر إلى بلاد موبوءَة، ومناطقَ مشبوهة؛ ليفتنَ نفسَه بالشَّهوات المحرَّمة، والأفعال الآثِمة، في مواخيرِ الفجور والزِّنا، وحانات الغيِّ والخَنَا.
فيا مَن أخفيْتَ نواياك في سفرِك عن البشر، وقصدتَ مكانًا لا تقَع فيه تحتَ عينٍ ونظر، ألاَ تَخْشى سطوةَ ربِّ البشَر، وأنت تعامله بالقبائح، وتبارِزُه بالفضائح؟!
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً | وَلا أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ |
عباد الله: لقد أصْبح السَّفر إلى الخارجِ مصيبةً تُضاف إلى رصيد الأمَّة، التي تتابعتْ عليها المصائب، وليْتَ الأمرَ يتوقَّف عند ذَهاب الأوْلياء فقط، بل وصل الأمرُ ببعض الأولياء أنْ يُرسلوا إلى تلك الديار البائِسة فلذاتِ أكبادِهم، ومُهجَ نفوسِهم، وكأنَّهم بمَعْزلٍ عمَّا يَجري ويحدُث في تلك البلدان، مِن سيِّئ الأعمال، وقبيح الخِصال.
ولقد أوضح علماءُ الإسلام شروطَ إباحة سفر المرْء إلى بلاد غير المسلمين:
أوَّلها: أن يكون عندَ الإنسان دِينٌ يدفع به الشَّهوات.
ثانيها: أن يكون عندَه عِلم يدفع به الشُّبهات.
ثالثها: الضَّرورة الشرعيَّة كعِلاج ونحوه.
فيا أيُّها الآباء والأوْلياء: اللهَ اللهَ في رِعاية الأبناء، وحِفْظ مَن تحت أيديكم من النِّساء.
واعلموا أنَّهم أمانةٌ عندكم سوف تُسألون عنها؛ يقول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "كلُّكم راعٍ، ومسؤولٌ عن رعيَّته".
عباد الله: نحن في بلاد الحَرمَين لنا خصوصيَّة تميِّزنا عن غيرِنا، فسلوكيَّاتُنا محلُّ نظر وتقدير العالَم كلِّه؛ لذا كما ينبغي أن تتميَّز فِعالنا، فكذلك ينبغي أن تتميَّز سياحتُنا عن سياحةِ الآخرين، وإذا صرفْنا النَّاس عن السَّفر للخارج، فذلك أمرٌ مرْغوب ومحمود، لكن شريطة أن لا نقَع في المحظور بحُجَّة جذْبِ النَّاس للسياحة الدَّاخلية، فالحُكم الشَّرعي في الأمْر المحرَّم واحد، وإنِ اختلف الزمان والمكان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريك له، تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آلِه، وصحْبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
فيا عباد الله: لقد عُنِي الإسلام بالسفر عنايةً فائقة، فجعل له أحكامًا تخصُّه من سُنن وآداب، وواجبات ومحرَّمات ومكروهات، ويَنبغي أن لا يَغفُل عنها كلُّ مسافر، ولا ينساها كلُّ راحِل ومهاجر.
أيُّها المسلمون: حقّ على كلِّ عاقلٍ أن يتذكَّر أنَّه في هذه الدنيا يقطع سفرًا إلى الآخِرة، وأنَّ محطَّة الوصول بعدَ سفر الدُّنيا هي الجنَّة أو النَّار، وزادُ هذا السَّفر هو التقوى الَّتي هي ثمرةُ الأعمال الصالِحة: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
عباد الله: لقد أمرَكم الله بأمْرٍ بدأَ فيه بنفْسِه، وثنَّى بِملائكتِه المسبِّحة بقُدسِه، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].