العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
طريق في الحوار حكيم، ومنهج في الكلام قويم، أخذ يحاكيهم في اعتقادهم ولا يعلن مخالفتهم أو يسفه أحلامهم ويحقر معبوداتهم، فذلك أدعى لإصغائهم لقوله، وتفهمهم لحجته، ثم لم يلبث أن كرّ على قولهم ينقضه، ورجع إلى مذهبهم يزيفه، ولكن من طريق خفي، ينبئ عن سداد رأيه ونقاء ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- القائل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق2 :3]
عباد الله: سنتحدث اليوم -بمشيئة الله تعالى- عن قصة إبراهيم -عليه السلام- الواردة في سورة الأنعام وقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنعام:74] فهو ينكر على أبيه وقومه عبادة الأصنام التي صنعوها بأيديهم واعتقدوا أنها آلهة تستحق العبادة من دون الله، والعبادة: تقتضي الذل والخضوع والخوف ورجاء الثواب والأجر والفضل، وهذه كلها لا يقدر عليها إلا الله، ولا يستحق العبادة إلا الله -عز وجل-، فالعبادة: هي غاية التذلل، فإبراهيم -عليه السلام- بدأ بدعوة أبيه ثم قومه، وهذا غاية البر بأبيه والنصح له ولقومه، ثم إن الله -عز وجل- أراد أن يطلع إبراهيم -عليه السلام- على حقائق الكون: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام:75] أي المهتدين، فلما جنّ عليه الليل -أي ستره الظلام- رأى كوكبًا مما يعبد قومه، وهو بين جماعة منهم يتحدثون ويسمرون، فجاراهم في زعمهم وحكى قولهم فقال: هذا ربي: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ) [الأنعام:76]
طريق في الحوار حكيم، ومنهج في الكلام قويم، أخذ يحاكيهم في اعتقادهم ولا يعلن مخالفتهم أو يسفه أحلامهم ويحقر معبوداتهم، فذلك أدعى لإصغائهم لقوله، وتفهمهم لحجته، ثم لم يلبث أن كرّ على قولهم ينقضه، ورجع إلى مذهبهم يزيفه، ولكن من طريق خفي، ينبئ عن سداد رأيه ونقاء بصيرته.
فلما غاب الكوكب -الذي قال: إنه ربه مجاراة لهم- قال: لا أحب الآلهة الآفلين المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، ثم عرّض بآلهتهم وتنقص معبوداتهم، وأعلن بغضه لهما وتبرؤه من حبها فيما بعد.
ولما رأى القمر طالعًا -وهو أسطع نورًا من ذلك الكوكب، وأكبر منه حجمًا، وأكثر نفعًا- قال: هذا ربي، استدراجًا لهم، واستهواءً لقلوبهم، فلما غاب أيضًا واحتجب، واختفى نوره واستتر قال: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [الأنعام:77] بيانًا لهم أن الله -عز وجل- مصدر الهداية، ومانح التوفيق عند الشكر والحيرة.
بعد ذلك جاوز التعريض إلى ما هو أفصح منه، لما أيس منهم سكوتًا على بغضه لآلهتهم، وإغضاءً عن ذمه لمعبوداتهم، وأبان أنه غير مطمئن النفس، مبلبل الفكر، لم يهتد بعد إلى طريق الحق، ولم يقف على سبيل الرشد، فهذا الذي يعبدونه مخلوق مستتر، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.
فلما رأى الشمس طالعة يتألق نورها، وينبعث شعاعها، وقد كست الدنيا نورًا، وملأت الأرض بهاءً، وأرجاء الكون ضياءً، قال: إن برئ مما تشركون، فهذه الكواكب التي تنتقل من مكان إلى مكان، وتتحول من حال إلى حال، لابد لها من خالق يدبرها ويحركها، وإله يطلعها ويسيرها، فهي لا تستحق عبادة ولا إكبارًا وتعظيمًا.
وبعد أن أعلن انصرافه عن آلهتهم وبراءته من معبوداتهم أفاض في الحديث عمن يخصه بالعبادة والخضوع فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:79] أي توجهت لله -عز وجل- بالعبادة، مسلمًا مائلاً عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
بعد ذلك حاجَّه قومه في ذلك الذي فاجأهم به ودعاهم إليه، عساه أن يرجع إلى عقيدتهم أو يرتد عن ادعائه إشراكهم، فقال: أتحاجونني في الله وقد هداني إلى الطريق المستقيم وأرشدني إلى الطريق القويم!!
بعد ذلك خوفوه بطش آلهتهم، وحذروه أن تصيبه بسوء، أو تلحق به أذى إذا تأخر عن عبادتها وابتعد عن الخضوع لها، ولكنه لم يستمع إلى نصحهم ولم يستجب إلى دعائهم، وتعجب أن يخوفوه شيئًا مأمون الجانب لا يملك ضرًا ولا نفعًا، وهم لا يخافون إشراكهم بالله ما لم ينزل به عليهم سلطانًا، وقد كان عليهم أن يحذروا الله ويخافوا عقابه، فقد ارتكبوا إثمًا كثيرًا، واقترفوا ذنبًا عظيمًا، فجزاؤهم -إن هم استمروا على كفرهم- جهنم وبئس المصير؛ قال تعالى: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام81 : 83] أي لا أخاف معبوداتكم، وإنما الخوف من الله -عز وجل-، فلا أخاف إلا من الله القادر على كل شيء، وأن المستحق للأمن هم المؤمنون بالله الذين لم يشركوا بالله -عز وجل-، فهم المستحقون للأمن، وهم المهتدون للحق، وقد أعطى الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- الحجة بهذا القول على قومه ورفع درجاته في العلم والحكمة، وفي كل ما يرد به الباطل ويظهر الحق.
وقصة أخرى لخليل الله إبراهيم -عليه السلام- عندما ذهب إلى ملك العماليق بمصر، عندما عمّ القحط وضاقت سبل العيش في الشام، فرحل إلى مصر تصحبه زوجته سارة، وكان حاكمها أحد ملوك العرب العماليق الذين استبدوا بالملك آونة من الدهر، وكانت سارة ذات جمال باهر، فوشى بها أحد بطانة السوء إلى الملك وأغراه بجمالها وزين له حسنها، وحبب إليه الاستحواذ عليها، فصادفت هذه المقالة رغبة في نفسه، وهوى في فؤاده، فدعا إبراهيم إليه وسأله عما يربطهما من سبب وما يصل بينهما من قرابة، ففطن إبراهيم إلى مأربه وعرف مقصده، وخاف إن أخبره أنها زوجته بيّت الشر له، وعمل على الإيقاع به لتخلص له من دونه، ويستأثر بها من بعده، فقال له: هي أختي، والأخت كما تكون في النسب تكون في الدين واللغة والإنسانية، ففهم الملك أنها ليست ذات زوج، فأمر أن يذهبوا بها إلى قصره ويسوقوها إلى مخدعه، ورجع إبراهيم إلى زوجته، فأخبرها بقصته، وطلب إليها أن تكون مصدقة لقوله، مؤكدة لخبره، ثم أسلمها لعين الله تحرسها وعناية الله ترعاها وتحفظها، بعد ذلك أدخلت إلى قصره وزينت بفاخر الثياب وأفضل الحلي، ولكنها لم تعبأ بهذا الزخرف البراق، ولم تهتم بما أحيطت به من نعمة وسعة السلطان وبسط العيش، ولم ينسها ذلك كله الوفاء لزوجها والاستمساك بدينها، وجلست مكتئبة حزينة، بل اتخذت مكانًا قصيًّا -أي بعيدًا-، ولما أقبل الملك عليها، ورأى ما بها من لوعة وأسى حاول أن يخفف من حزنها ويؤنس وحشتها ويزيل اكتئابها، فجفلت منه وانتكس ورجع خائبًا يحس اضطرابًا في نفسه وخوفًا في قلبه، وأراد أن يعيد الكرة فعاد إليه اضطرابه، فأوجس خيفة منها، وأوى إلى فراشه وغط في نومه، ورأى رؤيا استبان بها وجه الحق، وتبيّن منها سبيل الرشد، وعرف أن لها زوجًا، وأن عليه أن يخلي سبيلها ويتركها وشأنها، وأن لا يقربها ولا يمسها بسوء، فلما أفاق من نومه أيقن أنه لا مناص من إطلاق سراحها، فوهبها هاجر خادمًا لها، وأسلمها إلى زوجها إبراهيم -عليه السلام-، فخلص الله -عز وجل- إبراهيم وزوجته من المحنة في الغربة، وأقام بمصر ما شاء الله له أن يقيم، وكان وادع النفس، طويل الأناة، دؤوبًا على العمل؛ لذلك كثر ماله، وارتفع ذكره، ولكن القوم حسدوه على مكانته، وهموا أن ينالوه بالأذى، وأحس إبراهيم منهم جفوة، فأزمع الرحيل عنهم، وجعل وجهته فلسطين، تلك الأرض المقدسة التي اتخذها قبل موطنًا وأقام فيها زمنًا.
ولسيرته -عليه السلام- بقية، أسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأن لا نقول إلا حقًّا، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، نجّى خليله إبراهيم -عليه السلام- في أشد المواقف، وحفظه من كل سوء، فسبحانه ينجي أولياءه ويهلك أعداءه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واحمدوه واشكروه أن هداكم للإسلام، وجعلكم من أمة القرآن، أمة محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-.
عباد الله: سنتحدث في هذا اليوم أيضًا -بمشيئة الله تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- مع أهل بابل الذين كانوا ينعمون برغد العيش والنعمة، ولكنهم كانوا يتردون في مهاوي الضلالة؛ حيث نحتوا الأصنام بأيديهم وعبدوها من دون الله، ونصبوها آلهة، وكان نمرود بن كنعان بن كوش قابضًا على زمام الملك في بابل، وحاكمًا بأمره، مستبدًا برأيه، واستغل قوة سلطانه وجهل قومه ودعا الناس إلى عبادته والخضوع له وتعظيمه.
في هذه البلدة الفاسدة ولد إبراهيم -عليه السلام- لأبيه آزر، ثم آتاه الله الرشد وهداه إلى الحق، فصُرف بصائب رأيه وثاقب فكره ووحي ربه أن الله واحد، وهو المهيمن المسيطر على الكون والعالم، وأدرك أن عبادة قومه الأصنام لا تغني عنهم من الله شيئًا، فدعا قومه إلى توحيد الله، وعزم على تخليصهم من الشرك، وذلك بقلب ممتلئ بالإيمان، واثق بقدرة خالقه، مؤمن بما أوحي إليه من بعث الناس بعد موتهم وحسابهم في حياة أخرى على أعمالهم، وتطلع أن يلمس الآية البينة على البعث، ويرى الحجة الواضحة على النشوء، فسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى بعد موتهم، ويبعثهم بعد فناء أجسامهم، فقال الله له: أولم تؤمن؟! قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي ويزداد يقيني، فأجاب الله سؤاله، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير ويضمها إليه ليتعرف أجزاءها، ثم يجعلها أجزاءً، ويجعل على جبل منهن جزءًا، ثم يدعوهن إليه فيأتينه سعيًا بإذن الله تعالى، فلما دعاهن صار كل جزء ينضم إلى مثله ويعود إلى مكانه، وسرعان ما سرت فيها الحياة بعد أن أزهق أرواحها ومزّق أجسادها، فرأى آيات الله البينة وقدرته الباهرة التي لا يعجزها شيء في السماوات ولا في الأرض، عند ذلك ازداد إدراكه في قدرة الله على بعث الموتى من مرقدهم، ونشرهم من قبورهم سبحانه، إن الله العزيز الحكيم إذا أراد شيئًا فلا مرد له، وإنما يقول له: كن فيكون، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:260]
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.