البحث

عبارات مقترحة:

المولى

كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

قصة فتح مكة ‘أحداث ووقفات‘

العربية

المؤلف مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. الأمة على موعد مع النصر في رمضان .
  2. فتح مكة نصر مؤزر .
  3. صلح الحديبية توطئة للفتح .
  4. بنو بكر تعتدي على خزاعة .
  5. دخول جيش المسلمين مكة فاتحًا .
  6. عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش .
  7. تكسير الأصنام .
  8. الاعتبار بفتح مكة .

اقتباس

ولقد كانت الأمة المسلمة على موعد مع النصر في شهر رمضان المبارك؛ إذ حدثت فيه عبر تاريخ المسلمين أكبر المعارك الحربية والفتوحات الإسلامية، غيّرت مجرى التاريخ ووجهته وجهة جديدة تحمل بوارق النصر والأمل وحسن العاقبة للمؤمنين الموحدين المجاهدين الصادقين، بدءًا من معركة بدر الكبرى التي كانت فرقانًا بين الحق والباطل، ثم فتح مكة الذي كسر الباطل وأهله، وأزال ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وإله الأولين والآخرين، وقيوم يوم الدين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وشفيع يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله -تبارك وتعالى- حق التقوى، وراقبوه سبحانه في السر والنجوى، اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور ويبعث من في القبور، ويظهر المستور، يوم تبلى السرائر، ويكشف ما في الضمائر، ويتميز البر من الفاجر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر:18].

أيها المسلمون: في تجديد الذكريات تجد النفوس سلوتها، وتستذكر الأجيال تاريخها، وتأنس القلوب وهي تعيد النظر كرة بعد أخرى في سير أمجادها، وتستعرض سجلات أبطالها، وتعظم هذه الذكريات وتزهو حين تكون ذكريات مجد ونصر وفوز وبطولة.

ولقد كانت الأمة المسلمة على موعد مع النصر في شهر رمضان المبارك؛ إذ حدثت فيه عبر تاريخ المسلمين أكبر المعارك الحربية والفتوحات الإسلامية، غيّرت مجرى التاريخ ووجهته وجهة جديدة تحمل بوارق النصر والأمل وحسن العاقبة للمؤمنين الموحدين المجاهدين الصادقين، بدءًا من معركة بدر الكبرى التي كانت فرقانًا بين الحق والباطل، ثم فتح مكة الذي كسر الباطل وأهله، وأزال دولته، ثم غزوة تبوك التي مثلت أول مواجهة ناجحة بين المسلمين والروم، ثم معركة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، ثم عين جالوت التي هزم المسلمون فيها التتار، وغيرها -عباد الله- كثير وكثير من سجلات النصر ومناسبات التمكين والعزة في حياة المسلمين، والتي وقعت معظمها في شهر رمضان المبارك.

عباد الله: ومن فتوحات المسلمين العظيمة ومناسبات النصر الكبيرة لهم: فتح مكة المكرمة، الذي حدث في شهر رمضان المبارك بعد عشر خلون منه سنة ثمانٍ للهجرة النبوية، فقد تعاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين في صلح الحديبية سنة ست من الهجرة على أن تضع الحرب أوزارها عن الناس عشر سنين، وأن من شاء أن يدخل في عقد محمد -صلى الله عليه وسلم- وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش دخل فيه.

كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس فيه على أنفسهم، وكلم بعضهم بعضًا وناظره في الإسلام، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، وذلك فضل الله وخيرته لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين الذي سماه فتحًا في كتابه العزيز: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا[الفتح1 :3].

نزلت هذه السورة بعد الحديبية، ونبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه راجعون إلى المدينة، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا رسول الله: أو فتح هو؟! قال: "نعم". رواه أبو داود.

ثم أكد الله تعالى كونه فتحًا في قوله سبحانه في آخر سورة الفتح: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً[الفتح27 :28].

وكان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على الوفاء بالعهد حتى في أشد الظروف صعوبة وحرجًا، أعاد أبا بصير وأبا جندل إلى المشركين، وقد جاءا إليه ولما تنتهِ مراسم الصلح، فارّين بإسلامهم، والقيود موثقة بأقدامهما، ولا عجب في ذلك، فالدين دين الله تعالى، والمسلمون موعودون بالنصر والتمكين والعاقبة الحميدة، لهم الله الذي ينصرهم ويحميهم ويثبت أقدامهم، والغدر ليس من صفات النبيين وأتباعهم، ولكن الصبر له حدود، والعهد له شروط، فإذا نقض العدو العهد واستباح الحمى واعتدى على حلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا مجال حينئذ إلا للعقوبة الرادعة التي تكف الباغي عن بغيه، وتردعه عن ظلمه، وتكفه عن عدوانه.

تواثبت خزاعة ودخلوا في عقد محمد -صلى الله عليه وسلم- وعهده، وتواثبت بنو بكر ودخلوا في عقد قريش وعهدها، فمكثوا في تلك الهدنة نحو ثمانية عشر شهرًا، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له: الوثير، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا أحد، فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، وقاتلوهم معهم للكره الذي في قلوبهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وحلفائه.

فخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال:

يـا رب إنـي ناشـد محمـدًا

حـلفنـا وحلـف أبيـه الأتـلدَ
قد كنتم ولـدًا وكنا والــدًا ثمة أسلمنــا ولـم ننـزع يـدًا
فانـصر هداك الله نـصرًا أيـدَ وادع عبـاد الله يأتــوا مــددًا
فيهم رسـول الله قــد تجـردَ أبيض مثل البدر يسموا صعــدًا
إن سيـم خسفًا وجهـه تربـدَ في فيلـق كالبحر يجري مزبــدًا
إن قـريشًا أخلفـوك الموعــدَ ونقـضـوا ميثـاقـك المؤكـدَ
وجـعـلوا لي في كداء رصـدًا وزعمـوا أن لسـت أدعو أحـدًا
وهــــم أذل وأقـل عـددًا هـم بيتـونا بالـوتير هجــدًا

وقتلونا ركعًا وسجدًا

يقول: قتلونا وقد أسلمنا واتبعناك ودخلنا في عهدك وعقدك وحماك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نصرت يا عمرو بن سالم"، ثم عرضت سحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب. رواه ابن هشام في السيرة.

لقد كانت استجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لنصرة حلفائه وأتباع دينه والرد على عدوان قريش سريعة حازمة لا تقبل المناقشة ولا التردد، فلن يتوقف أعداء الله تعالى عن كيدهم وعدوانهم على الإسلام والمسلمين إلا حين يعرفون أن المسلمين لا يقبلون الضيم ولا يرضون الاعتداء ولا يركنون إلى الذل والضعف، قادرون -بإذن الله- على حماية دينهم وأوطانهم من الظلم والعدوان: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[التوبة12 :13].

أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتجهز للغزو ولم يخبر أحدًا بوجهته لئلا يستعد المشركون للقتال، وقال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، وقال للناس: كأنكم بأبي سفيان وقد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة". رواه ابن هشام في السيرة.

فتجهز الناس، واستنصر القبائل التي حول المدينة حتى بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل، وأرسل حاطب بن أبي بلتعة -وهو صحابي بدري- كتابًا إلى قريش يخبرها فيه بأن المسلمين يريدون غزوها، وحملت الكتاب امرأة عجوز، فأخبر الله نبيه بذلك، فأرسل عليًّا والزبير والمقداد -رضي الله عنهم- فأمسكوا المرأة في روضة خاخ، واستخرجوا الكتاب من عقاصها، وأتوا به رسول الله -صلى لله عليه وسلم-، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا حاطب: ما هذا؟! قال: يا رسول الله: لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش يقول: كنت حليفًا ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أما إنه قد صدقكم"، فقال عمر: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فأنزل الله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ[الممتحنة:1]. رواه البخاري ومسلم.

بلغ الخبر المشركين، فأرسلوا أبا سفيان ليجدد العهد مع محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقدم المدينة وكلّم رسول الله قائلاً: هلمّ فنجدد بيننا وبينك كتابًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن على أمرنا الذي كان، وهل أحدثتم من حدث؟!"، قال أبو سفيان: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن على أمرنا الذي كان بيننا".

حاول أبو سفيان أن يكلم بعض الصحابة كي يشفعوا له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تجديد العهد والمدة، ولكن محاولاته باءت بالفشل، كلما كلم واحدًا من المسلمين قال له: ما كنت لأفتئت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر صف واحد وبنيان متماسك على قلب رجل واحد.

كناطح صخرة يومًا ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فخرج حتى قدم على قومه بمكة فقالوا: ما جئت به؟! قال: جئتكم من عند قوم قلوبهم على قلب رجل واحد، والله ما تركت منهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا أنثى ولا ذكرًا إلا كلمته فلم أنجح منهم شيئًا، وخرج المصطفى بالمسلمين من المدينة في رمضان بعد أن استخلف عليها أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري -رضي الله عنه-، ومضى -صلى الله عليه وسلم- بالناس وهو صائم والناس صيام، حتى إذا كانوا بالكديد، وهو الذي يسميه الناس اليوم: قديدًا، أفطر وأفطر الناس معه، ثم مضى حتى نزل مر الظهران ومعه عشرة آلاف مقاتل، وعمى الله الأخبار عن قريش فهم على وجل وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتحسس الأخبار، فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار يومًا، وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجحفة، وكان ممن لقيه في الطريق: ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو.

فقال لهما عليّ: ائتيا رسول الله من قبل وجهه فقولا له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً، ففعل ذلك أبو سفيان بن الحارث، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"، فأسلم وحسن إسلامه بعد ذلك، وبشّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة.

وركب العباس بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيضاء وخرج لعله يجد بعض الحطابة أو أحدًا يخبر قريشًا ليخرجوا يستأمنون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يدخلها عنوة، وبينما هو يسير سمع كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فدنا منهما فقال لأبي سفيان: هذا رسول الله في الناس وأصباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟! قال: والله لئن ظفر بك رسول الله ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، فذهب به العباس حتى قدم به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يزل يراجعه حتى أخذ له الأمان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اذهب -يا عباس- إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به، فذهب، فلما أصبح غدا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به، فلما رآه قال: ويحك -يا أبا سفيان-، ألم يأن أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟! قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد! قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟! قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!! أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئًا، فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق، فقال العباس: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، قال: "نعم! ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن". كما روى مسلم وأصحاب السنن.

ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قريشًا صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فقالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داخلاً مكة من أعلاها، وقد بعث الزبير على جانب المسلمين الأيسر، وبعث خالد بن الوليد على الجانب الأيمن وهو أسفل مكة، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحالة والحسر وهم الذين لا سلاح معهم.

وقال لخالد ومن معه: "إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا حتى توافوني على الصفا"، فما عرض لهم أحد إلا قتلوه، وتجمع سفهاء من المشركين مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان معهم حماس بن قيس بن خالد يعد سلاحًا قبل دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتقول له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟! قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم شهد الخندمة، فلما لقيهم المسلمون ناوشوهم شيئًا من قتال، فقذفوا الرعب في قلوبهم، وقتلوا بعضهم وشردوا بعضهم وانهزم بعضهم، وكان من المنهزمين الفارين حماس هذا صاحب السلاح الذي كان يتوعد المسلمين، دخل بيته وقال لامرأته: أغلقي عليّ بابي، فقالت: وأين ما كنت تقول؟! فأنشد يقول:

إنك لو شهدت يوم الخندمة

إذ فـر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربًا فلا نسمع إلا غمغمة لهم نهيـت حـولنا وهمهمة

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

عباد الله: هذه بعض أحداث فتح مكة، نصر الله -عز وجل- فيها محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

  

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كبيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، وله أخلصوا وبدينه تمسكوا تفوزوا وتفلحوا.

أيها المسلمون: ودخل المسلمون مكة، وركزت راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجد الفتح، ثم نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون والأنصار بين يديه ومن خلفه ومن حوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه ثم طاف بالبيت سبعًا.

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء:81]، ويقول: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ:49].

وبثّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراياه التي كانت حول مكة فكسرت كلها، منها اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره. كما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى.

ثم أمر بالصور التي في الكعبة فمحيت، ودخل الكعبة فأغلق عليه الباب ومعه علي وأسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك، ثم دار في نواحي البيت وكبر الله ووحده، ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينظرون ماذا يصنع بهم، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات:13]، ثم قال: يا معشر قريش:" ما ترون أني فاعل بكم؟"! قالوا: خيرًا، أخ كريم! قال:" فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء". أخرجه ابن هشام في السيرة، والبخاري مختصرًا.

وأمر -صلى الله صلى الله عليه وسلم- بلالاً الحبشي أن يصعد فوق الكعبة فيؤذن أمام الجموع الهائلة من أشراف مكة؛ ليبين لهم وللناس أجمعين أن التفاضل في ميزان الإسلام إنما هو بالتقوى لا بغيرها من الأنساب والشعارات البشرية.

وهكذا -أيها المسلمون- فتح الله تعالى مكة المكرمة على رسوله والمؤمنين فتحًا عظيمًا جلجلت به الآفاق، وخضعت به الجزيرة كلها للإسلام، وقرّت به أعين النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بعد حرب للإسلام والمسلمين زادت على العشرين عامًا، منذ كانوا بمكة يستخفون بإسلامهم وتوحيدهم من المشركين الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب.

وسقطت الأصنام، وأخرجت الأنصاب والأزلام، وكسرت التصاوير ومحيت، وارتفعت راية التوحيد، وسقطت راية الشرك في الجزيرة العربية، وأعلن في سماء مكة لأول مرة دون منازع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده.

وأشرقت بسمات الوحي وانقشعت

تيجان من قتلوا الأحرار واعتسفوا
والكـفر يا ويحه غضبان من أسف لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسف
ولا حمته سـيوف كلـها كـذب في صـولة الحق والإيمان تنقصف

لقد كان فتح مكة ملحمة عظيمة، وفتحًا كبيرًا، وعزًا ومجدًا للإسلام والمسلمين أعز الله به دينه، ونصر به رسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين ومثابة وأمنًا من أيدي الكفار والمشركين، وأعاد إليه رسوله والمؤمنين منتصرين غانمين ظافرين بعد أن أخرجوا منه وهو أحب البقاع إلى نفوسهم، ومع ذلك فقد دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة دخول الأنبياء والعظماء، خاشعًا ذاكرًا لله شاكرًا معترفًا بفضله ونصره وتوفيقه، يقرأ سورة الفتح، ويرجع في قراءتها. كما عند البخاري.

لم يدخلها دخول المتغطرسين الظالمين المتشفين سنين عددًا وهم يحاربونه ويقاتلونه، يكيلون له ولأصحابه العذاب، ويناصبونهم العداء، ما تركوا قبحًا ولا سوءًا إلا رموهم به وألصقوه بهم، ولا تركوا قبيلة من القبائل إلا أضرموا نار الحقد والبغضاء في قلوبهم عليهم، ثم يمن الله عليه بالفتح فيعفو عنهم أجمعين، ويعلى من مكانتهم قائلاً: "لا يقتل قرشي صبرًا -أي ظلمًا- بعد يوم الفتح إلى يوم القيامة". كما عند مسلم وأحمد.

ولو شاء أن يقتلهم جميعًا على أي طريقة لأمكنه ذلك، ولكنه رسول رب العالمين، الرحمة المهداة للعالمين -صلى الله عليه وسلم- ما بُعث للناس ليقتلهم ولا ليستعبدهم ولا ليظلمهم، إنما بُعث ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ثم أعلن حرمة مكة من جديد إلى يوم القيامة، ونهى أن يترخص أحد بقتال رسول الله فيها، فإن الله تعالى أباحها لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة. كما في الصحيح.

وكان فتح مكة نصرًا عظيمًا وفتحًا للعرب كلهم، إذ كانت العرب تلوم بإسلامها الفتح يقولون: انظروا، فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبي، فلما جاءت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وقدمت الوفود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعاهده وتبايعه على الإسلام: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر1 :3].

وإن لكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها -عباد الله- أن يعتبر بهذا النصر العظيم، وأن تقر عينه بوعد الله، وأن يثق به، أكثر من عشرين عامًا والمشركون يصبون جام حقدهم وغضبهم على المؤمنين المستضعفين، سحبوهم في رمضاء مكة، وربطوا الحجارة والحديد على بطونهم وظهورهم، شردوهم عن بلادهم، وسلبوا أموالهم وديارهم وقاتلوهم ومثلوا بهم وفرقوا بينهم وبين من يحبون، أرغموهم على الهجرة عن وطنهم مرتين، وغزوهم في مهاجرهم وحاربوهم فيه.

ثم ها هم المسلمون يوم فتح مكة وقد صبروا على أذاهم وتمسكوا بدينهم وجاهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووثقوا بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، ها هم ينعمون بالنصر المؤزر على أعدائهم والتمكين في الأرض والعودة إلى ديارهم وأهلهم؛ ليكون ذلك عهدًا لكل مؤمن بالله حقًا، يؤدي في سبيل الله من أجل دينه ومعتقده، فيصبر ويثبت أن مصيره النصر والتمكين، فالباطل جولة والحق دائم إلى قيام الساعة، وما من شدة إلا سيأتي لها فرج قريب: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126].

وصلوا -عباد الله- وسلموا على رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.