الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
يا لها من أيام عظيمة الشِّدَّةِ على نفوس المؤمنين! إذ كان حبيبهم صلى الله عليه وسلم يقاسي شدة المرض والحُمّى، ثمَّ لم يلبث حتَّى قاسى سكَراتِ الموت، ثم لقِيَ ربَّه؛ فقاسى المسلمون صُنُوف الأحزان على فراق نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم ..
أما بعد: سنعيش هذه اللحظات مع أمر عظيم، وخطب جَلَل، مع الأحداث الهائلة، والفترة العصيبة، مع أعظم مُصيبة مرت بتاريخ أمة الإسلام.
يا ترى ما هي هذه المصيبة؟ متى حدثت؟ وأين كانت؟ وما هي قصتها وأحداثها؟ دعوا كتب السير ونقَلة الأخبار يحدثوننا عن أنباء تلك المصيبة الجليلة.
حَجَّ الحبيب صلى الله عليه وسلم حجته الأولى والأخيرة، فخطب الناس ووعظهم وقال: "خذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع!.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم ابتدأه المرض في أواخر شهر صفر.
إنها بداية المصيبة، مصيبة هذه الأمة بفقد حبيبها ونبيها وقدوتها خليل الرحمن محمد صلى الله عليه وسلم، فبفقده فقدت الأرض خير مخلوق دَبَّ على ظهرها، وبفقده فقدت البشرية سيِّدَها وأمامها وخيرها؛ إنها لمصيبة عظمى، وَرَزِيَّةٌ جُلَّى رُزِيَتْ بها أمة الإسلام.
قال ابن رجب رحمه الله واصفاً هول المصيبة وشدة وقعها على نفوس المسلمين: كل المصائب تهون عند هذه المصيبة، كانت الجمادات تتألم من مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بقلوب المؤمنين؟.
ثم قال رحمه الله: وروي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دُفن ترك بلالٌ الأذان.
يا لها من أيام عظيمة الشدة على نفوس المؤمنين! إذ كان حبيبهم صلى الله عليه وسلم يقاسي شدة المرض والحُمّى، ثم لم يلبث حتى قاسى سكرات الموت، ثم لقي ربه؛ فقاسى المسلمون صنوف الأحزان على فراق نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام رجب: ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أُقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية.
إذن، فلنشرع في ذكر ما حدث في تلك الأيام العصيبة، ولنرجع إلى مبتدأ المصيبة: لما كان أواخر شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة ابتدأه الوجع، فكان من أوائل ما أحس به الصداع في رأسه، فإنه دخل يوماً على عائشة -رضي الله عنها- فقالت: وا رأساه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه!" أخرجه البخاري .
ثم لما زاد عليه المرض استأذن نساءه أن يُمرَّض في بيت عائشة فأذنَّ له، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئٌ على رجُلَين، فإحدى يديه على الفضل بن عباس، والأخرى على رجل آخر هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فاحتملاه ورِجْلاهُ تخُطَّان بالأرض.
ثُمَّ لما دخل بيت عائشة اشتدَّ به وجعه فأمر أن يُصبّ عليه سبع قِرَب من الماء، قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة، ثم طفقنا نصُبُّ عليه من تلك القِرَب، ثم أشار إليهم بيده فكَفّوا، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
وأخرج البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: "مُرُوا أبا بكرٍ فَلْيُصَلِّ بالناس"، فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمِع الناس من البكاء، فمُرْ عُمَر فليصل بالناس، فلما رددوا عليه القول قال : "مَهْ، إنَّكُنَّ لَأنتنَّ صواحبُ يوسف! مُروا أبا بكر فلْيُصَلِّ بالناس".
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خِفة فخرج بين رجلين وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر.
ثم قال صلى الله عليه وسلم للرجلين: "أجْلِساني" فأجلَساه إلى جنب أبي بكر، فكان أبوبكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
ثم جاء يوم الإثنين اليوم الذي وقعت فيه الفاجعة، وكان المسلمون يصلون الفجر، يُصَلِّي بهم خير هذه الأمة بعد نبيها: أبوبكر -رضي الله عنه-.
فبينما هم يصلون إذ فوجئوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكشف ستر حجرة عائشة -رضي الله عنها-، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فلما رآه أبو بكر نكص على عقبيه، ظاناً أنه يريد الصلاة بهم.
ورآه المسلمون فكادوا أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً به صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر.
وظن المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فانصرفوا، ورجع أبو بكر إلى أهله.
وجاءت ساعة الاحتضار، ودنا الموت، وأزف الرحيل، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم مستنداً إلى صدر عائشة -رضي الله عنها- وعنده ركوه أو عُلبة فيها ماء، فجعل يُدْخِل يده الكريمة في الماء ثم يمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات.
قال أنس فيما رواه البخاري: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: وا كرب أباه! فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم".
فلما حضره القبض غُشي عليه، حتى إذا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وأَلْحِقْنِي بالرفيق الأعلى"، قالت عائشة: فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم بل الرفيق الأعلى".
فأخذت فاطمة تبكي عندما مات وتقول -كما عند البخاري-: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه. يا أبتاه! مَن جنة الخلد مأواه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه. فلما دُفِنَ قالت: يا أنس، أطابَتْ نفوسُكُم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟.
ثم علم المسلمون بالخبر، فاشتدت الرزية، وعظم الخطب، وجَلَّ الأمر، فمنهم من جُنَّ، ومنهم من صُعق، ومنهم من خرس، ومنهم من أنكر ذلك بالكلية.
ثم قام عمر يقول: والله ما مات رسول الله! وليبعثنَّه الله فلَيُقَطِعَنَّ أيديَ رجالٍ وأرجلَهم. فجاء أبو بكر على فرس، فنزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغشَّى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكَبَّ عليه فقبله، وبكى.
وفي رواية صحيحة لأحمد أن أبا بكر أتى إليه وقبل رأسه ووجهه ثم قال: وا نبياه! ثم قبله أخرى ثم قال: وا صفياه! ثم قبله ثالثة وقال: وا خليلاه! مات رسول الله!.
ثم انطلق ذلك الرجل الفذ، رجل المواقف الحاسمة، أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، انطلق إلى الناس وهم مجتمعون على عمر، وعمر يحذِّر مَن قال إن محمداً قد مات، فلما رأى الناس أبا بكر انصرفوا إليه وتركوا عمر.
فقام أبو بكر فيهم خطيباً وقال: مَن كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...) [آل عمران:144]، عندها انتبه عمر، ورجع عن قوله، وأيقن بوفاة حبيبه صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الخوف خيم أرجاء المدينة، فكان ذلك اليوم يوم كآبة وحزن وبكاء، حتى قال أبو ذؤيب الهذلي: قدِمتُ المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهَلُّوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مَهْ! فقالوا: قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحتى قال عثمان -رضي الله عنه- : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم المدينة إذ مر بي عمر فسلم عليَّ، فلم أشعر به من الحزن.
يا له من حزن ملأ القلوب، وأشعل فيها جمر الأسى! إنه الحزن على فراق خير البرية، وإمام البشرية، الذي امتَنَّ الله به على المؤمنين، فبصّرهم به من العمى، وهداهم به من الضلالة، وعلمهم به بعد عصور الجهالة.
اللهم فَصَلِّ وسلِّم عليه صلاة وسلاماً دائمين أتمين إلى يوم الدين، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم واجعلنا ممن يحظى بشفاعته، اللهم اسقنا من حوضه، وأقِرَّ عيوننا في الجنة برؤيته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: فإن الله -عز وجل- ذكر طائفة من عباده ومدحهم وبشَّرهم فقال: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:73].
فما أسعدهم ببشارة الله! وما أحظاهم بالمنزلة العظيمة عند الله! فاسأل الله -عز وجل- أن يمنَّ علينا فنكون منهم، وأن نستمع القول فنتبع أحسنه، لا أن نكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لأقماع القول"، فشبه من يستمع القول ولا ينتفع به بمن أذناه كالقمع يدخل فيها الشيء ثم يخرج منها ولا يثبت فيها.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...