المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كم من النعم العظيمة الجليلة، التي تتمتع وتتقلَّب بها، وأنت لا تتذكَّرها ولا تستحضرها، أليس سترُ الله عليك، وعدمُ كشف معايبك وذنوبك؛ نعمةً لا تُقدَّر بثمن؟! ماذا عن نعمة الله عليك في سلامةِ عرضك وأهلك، ألست مُعافى من الوسوسة المميتة القاتلة، ألست مُعافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، آمنًا في بيتك وأهلك، ألست ..
الْحَمْدُ لِلَّهِ الكبيرِ المُتعال، صاحبِ العطايا والكرم والإفضال، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً أدَّخرها ليومٍ تزولُ فيه الجبال، ويذوق المجرمون فيه الذلَّ والوبال، ويتحلَّى المُتقون بأتَمِّ النَّعيمِ وأبهى الجمال، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْخلقِ بلا جِدال، أوْضَح ما تحتاجه الأُمَّةُ في الحاضر والمآل، فمَنْ ضلَّ عن سنَّته فقد وقع في الحيرة والضلال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أصْحابه وتابعيهم والآل، وَسَلَّمَ تسْليمًا كثيرًا مزيدًا إلى الْيومِ الذي تُعرضُ فيه الأعمال.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن مِن أعظم وأجلِّ الطاعات والقربات أن يتذكَّرَ المسلمُ ما أنعم الله به عليه، في بدنِه ودينه ودُنْياه.
فما أعظم أنْ تستحضر -أيُّها المسلم- وتتذكرَ على الدوام، نعمَ الله عليك في بدنِك وأولادِك ودينِك.
قال بعضُ السلف: "ذِكْرُ النِّعمة يورث الحب لله -عزَّ وجلَّ-".
وقال الحسن -رحمه الله-: "أكثروا ذكرَ هذه النِّعَم، فإن ذكرَها شكرُها".
عباد الله: إن الكثير من الناس في مجالسهم، وبينَهم وبين أنفسهم، يذكرون المساوئ والمصائب، فالبعض يذكرُ قلَّةَ راتبه وكثرةَ احتياجاته، والآخر دَيْدَنُه ذكرُ معايب الدولةِ والمسؤولين، ويتجاهلون ذكرَ نعم الله عليهم، وما منَّ به عليهم من الصحة والعافية والهداية، وهذا لا يليق مع الرب المنْعمِ المتفضِّلِ عليهم.
ونِعَمُ الله كثيرةٌ عظيمة، وما خَفِيَ منها أكثرُ وأعظم، والكثيرُ من الناس، يستحضر نِعْمةَ المأكلِ والمشربِ والمسكنِ فقط، ولم يعلم أن هذه من أقلِّ ما أنعم الله به عليه، وهي نعمٌ أعطاها الله حتى الكفار والمشركين.
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحَضَرَ عذابه".
نعم -أيها المسلم- كم من النعم العظيمة الجليلة، التي تتمتع وتتقلَّب بها، وأنت لا تتذكَّرها ولا تستحضرها، أليس سترُ الله عليك، وعدمُ كشف معايبك وذنوبك؛ نعمةً لا تُقدَّر بثمن؟! ماذا عن نعمة الله عليك في سلامةِ عرضك وأهلك، ألست مُعافى من الوسوسة المميتة القاتلة، ألست مُعافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، آمنًا في بيتك وأهلك، ألست تتمتع بالنظر والسمع والعقل؟!
يا مَن تشتكي قلَّة المال، وكثرةَ الديون، حتى أنْستك كلَّ نعمةٍ تتقلب بها، أتحبُّ أنْ تُعطى الأموال، وتُسلبَ نعمةً واحدةً من هذه النعم، فكيف تجحد وتنسى ما أنت فيه من النعم العظيمة، وتشكو حِرمان أموالٍ تافهةٍ قليلة.
ولكن صدق الله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6]، قال الحسن -رحمه الله-: "الكنودُ هو الذي يَعُدُّ المصائب، وينسى نعم الله عليه".
يـا أيُّها الظـالم في فعله | والظلم مردودٌ على من ظلم |
إلى متى أنـت وحتى متى | تشكو المصيبات وتنسى النعم |
جاء رجلٌ إلى أحد السلف الصالحين، يشكو إليه الحاجة وقلَّة المال، فقال له: أتُحبُّ أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مائةَ ألف درهم؟! قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائة ألف درهم؟! قال: لا، قال: فبِرِجْلِكْ؟! قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال له: "أرى عندك مئينَ ألوفٍ، وأنت تشكو الفقرَ والحاجة".
فيا كثير التسخُّطِ والتشكِّي: اعْرفْ قَدْرَ الصِّحَّةِ والعافية.
قال وهب بن مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: العافيةُ: الْمُلْك الخفيُّ".
وقد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري.
أي إن الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغ، كثيرٌ من الناس مغبونٌ فيهما، يندم ويتحسَّرُ صاحبُهما يوم القيامة، لعدمِ استغلاله لهما بما ينفعه ويُفيده.
أيها الْمُسْلم: وإنَّ نِعْمَةَ الله عليك في دينك، وسلامةِ عقيدتك، لهي أعظمُ نعمة، وأفضلُ منَّة، وهي التي يجب عليك شكرُها على الدوام. فإنَّ أكثر مَن في الأرض عقائدُهم باطلةٌ منحرفة.
قال بعض السلف: "كُنْ لِنِعْمة الله عليك في دينك، أشْكَرُ منك لنعمةِ الله عليك في دُنْياك".
كمْ في الأرض مِنْ أُناسٍ يعبدون البقر والحجر، ومَنْ يعبدون الأولياء والأضرحة، فاحمد الله أن وفقك لعبادته وحده لا شريك له.
فيا من بارزت ربك بالمعاصي والذنوب: ألا يستحق مَنْ متَّعك وفضلك بهذه النعم، أنْ تشكره عليها كلَّ يومٍ وفي كل حين؟! ألا تستحي -أيها العاصي- أنْ تعصيَه وقد أعطاك كلَّ ما تريد، كيف تعصيه بِنِعَمِه، تَنْظُرُ إلى الحرام وغيرُك قد سُلب النَّظر، تَسمع إلى الغيبة والنميمة والغناء، وغيرُك قد حُرِم نعمةَ السمع، تعصيْه بالزنا والخنا، وغيرُك قد شُلَّت جوارحه، وتعطَّلت أركانه.
جاء رجلٌ إلى إبراهيمَ بنِ أدهم -رحمه الله-، فقال له:" إن نفسي تراودني المعصية، ولا أستطيع كَبْح جماحها، فهل من مخرج؟! قال: نعم، سأدلك على طريْقةٍ تَعْصِيْه وتفعلُ ما تشاء، ولا يُحاسبك ولا يُعاقبك، فتعجَّب وقال: كيف لي بذلك؟! فقال له -واسْمع يا مَن تعصي ربك ليل نهار- قال له: "إذا أردت أن تعصيَ الله فلا تأكل من رزقه"، قال: يا إمام: وكيف لا آكل من رزق الله، وكلُّ ما في الأرض لله، والأرضُ ملكه، والسماء سماؤه؟! فقال له: "تريد أن تأكل من رزقه وتعصيْه؟! أما تستحي منه؟!
قال: فهل من مخرج غيرِ هذا؟! قال: "نعم، إذا أردت أن تعصيَ الله فلا تسكن في أرضه، ولا تنَمْ في مُلْكِهِ"، قال: وأين أذهب؟! وأين أسكنُ وأنام؟! قال: "تسكن أرضه، وتتنعَّم في مسكنه، وتريد أن تعصيَه، أما تستحي منه؟!".
قال: فهل من مخرجٍ غيرِ هذا؟! قال: "نعم، إذا أردت أن تعصيَه في أرضه ومُلْكه، وتعصيَه بنعمه وآلائِه، فافْعلْ ذلك حيثُ لا يراك، فلا يليق بك أنْ تُبارزه بالعصيان بنعمه وفي أرضه، وهو يراك ويُشاهدك".
قال: وكيف يكون هذا؟! وفي أيِّ مكانٍ أكونُ فالله يراني، فهو تعالى يعلم السر وأخفى! فقال له: "عجبًا لك ولأمثالك العاصين المُقصرين: أما تستحي أن تأكل من رزقه، وتنامَ وتسكنَ في أرضه، وتعصيَه أمام عيْنِه؟!".
لو أنَّ رجلاً أكرمك وأسكنك في بيته، وأطعمك من أطيب طعامه، وفرش لك أحسن فراشٍ ولِحاف، هل يليق بك أن تُفسد مُمْتَلَكاتِه؟! وتؤذيَ أهلَه وأبناءَه؟! وهو يُشاهدك ويراك؟! لا والله لا يليق ذلك أبدًا.
مرَّ أحدُ السلف الصالح بشابٍّ يُراود امرأةً عن نفسها، فقال له: "يا بني: ما هذا جزاء نعمة الله -عز وجل- عليك؟!".
نعم يا مَن تُراودُك نفسُك بالزنا والفجور، يا مَن هتك الأعراض، وتطاولْت على حُرمات الناس، ما هذا جزاء نعمةِ الله عليك.
وانْظر وتفكر فيمَن وقع في هذه الجريمة النكراء، واغتر لسنواتٍ بستر الله عليه، أحدُهم مُصابٌ بالوسواس الْمُميت، حتى أصاب نفسَه وأهلَه بالضَّنْك والحرج، وآخر يعيش بالفقر ونَكَدِ العيش، وبعضُهم في غياهِبِ السجون، وبعضُهم على كِبَرِ سِنِّه وكَثْرة أولاده، لا زال مفتونًا بالزنا والفجور.
وبعضهم -والعياذ بالله- امْتدت أيدي الفاجرين إلى عرضه، وهتكوا سِتْرَ أولاده وبَنَاتِه.
إِن الـزِّنا دَيْنٌ فإِن أقرضْتَه | كان الوفا من أهلِ بيتك فاعلمِ |
من يَزن يُزنَ به ولو بجدارهِ | إِن كنْـتَ يا هـذا لبيبًا فافهمِ |
وصدق الله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف: 183].
واعلم علمَ اليقين أن النعم إذا شُكرت قرَّت وزادت، وإذا كُفِرَتْ فرت وزالت، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، فمتى أردت دوامَ النعمِ وزيادتَها فالْزم الشكر، وبدونه لا تدوم ولا تَهْنأُ لَكَ نِعْمَة.
وإذا كنت -يا عبْد الله- تتقلَّب بنعم الله بأمانٍ واطْمئنان، وأنت مُصِرٌّ على الذنوب والعصيان، فهذا اسْتدراجٌ ومكرٌ بك والعياذُ بالله.
قال سفيان الثوريُّ -رحمه الله- في قول تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 182]، قال: "نُسْبغ عليهم النِّعَم، ونمنعهم الشكر". وقال غيرُه: "كلما أحدثوا ذنبًا، أُحْدِثَتْ لهم نعمة".
وقال الحسن -رحمه الله-: "إن الله لَيُمَتِّعُ بالنعمة مَنْ شاء، فإذا لم يُشْكَر قَلَبَها على صاحبِها عذابًا".
وأما إذا كنت شاكرًا لله على نِعَمِه، وسخَّرت جوارحك في طاعته، فهذه كرامةٌ ومنحةٌ ربَّانية، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "أعظم الكرامة لزومُ الاستقامة".
وسترى المزيد والتوفيق بإذن الله تعالى.
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة؛ لقول الله -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الشكر معه المزيد أبدًا، فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر". اهـ.
أي إنك حينما لا ترى زيادةً في رزقك، وبركةً في أهلك ومالك وحالك، وانْشراحًا في صدرك، فإنما هو بسبب تقصيرك في شكر الله، فاسْتقبل الشكر الحقيقيَّ الصادق، الذي يكون معه العمل والإخلاص، والطاعةُ والإيمان، وتركُ الشِّكايةِ والتَّسخُّط.
فالشكر الحقيقي: أن لا يُستعان بشيء من نعمه على معاصيه، كما قاله السلف الصالح، فالنَّظَرُ نعمة، فلا تستعن بها على المعصية، والمال نعمة، فلا تستعن به على المعصية.
نسأل الله تعالى، أن يُلْهمنا شُكرَ نِعْمِه، وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعطي العطاء الجزيل، ويرضى من عباده بالشكر القليل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلم: كم عاملتَ اللهَ تعالى بما يكره، فعاملك بما تُحب!! هل قصدتَّ إليه في أمرٍ عصيبٍ فخذلك؟! هل سألته شيئًا قطُّ فمنعك؟! أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك هذه الخلال، ما كان جزاؤه عندك؟! أليس الشكر والمَحبَّةُ والطاعة!! فربك الذي أحاطك بالرِّعاية والعِنَاية، أحقُّ وأحرى بالشكر والمحبَّة والطاعة.
فاتق الله يا عَبْد الله، فاللهُ سائِلُك عن هذه النِّعَم، التي تتقلَّب وتَتَنَعَّمُ فيها: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8]، فكلُّ نعمةٍ تتقلَّب فيها في حياتك الدنيا، سَتُسْألُ عن شكرها يومَ القيامة وتُطالَبُ بها.
أخرج الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُسْألُ العبدُ عنه يومَ القيامةِ مِن النَّعِيْم، أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ؟!".
فالله تعالى أنعمَ عليك بنعمٍ لا تُحصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وطلب منك الشُّكرَ، ورضي به منك.
اللهم أعنَّا على ذِكْركَ وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم أوزعنا أنْ نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والِدِينا، وأنْ نعمل صالحًا ترضاه، يا رب العامين.