القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فَهَذِهِ -يا عباد الله- أساليبُ الشَّيْطَانِ في إغوائنا, وحيَلُه في إضْلالنا, وَلَا يُحْصِي أَفْرَادَهَا وأسرارها إلَّا اللَّهُ, ولا بدّ للعاقل اللبيب أنْ يَعْرِفَ الْحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ, والمدخلَ الذي دخل عليه الشيطانُ منها, والشبكةَ التي صاده بها.
الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخَّار, وخلق الجانّ من مارجٍ من نار, فانْقسموا إلى فريقين: مؤمنين أبرار, وكافرين فُجَّار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, يعلم الخفايا والأسرار, ويسمع دعاء الصالحين بالأسحار, ويرى دبيب النمل في القفار.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, واجَه في سبيل الله المصاعب والأشرار, ووقف في وَجْهِهِ الْمُعاندون وعُبَّادُ الأحجار, واسْتجاب له الْمُوفَّقون من مهاجرينَ وأنْصار, صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه السادةِ الأخيار, الذين فتحوا في سبيل الله القلوبَ والديار, فانتشر العدلُ والرخاءُ في سائرَ الأقطار, ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنَّ الشيطانَ أخذ على نفسه, وأقسم على ربِّه, أنْ يُغْوي بني آدم ويُضلَّهم: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16-17].
وقد حذَّرنا الله -تعالى- من فتنته أشدَّ الحذر: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)[الأعراف:27]؛ وأمرنا أن نتخذه عدواً: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6].
ومع عداوته لنا, وسعيِه لإضلالنا, أنكر الله على من جعله وليًّا, (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) [الكهف:50].
وقد ذكر العلاَّمةُ ابنُ القيم -رحمه الله- أنَّ الشَّيَاطِين يَتَحَيَّلُونَ على بَنِي آدَمَ, ويأتون إليهم بكلِّ طريقٍ ووسيلة, لِيُوقِعُوهُمْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ ثمانِ حيَلٍ وَلَا بُدَّ.
فلْنعرفْ هذه الوسائلَ والطرُق التي من خلالها أضلتْ الشياطينُ أكثر الناس, مِنْ لَدُنْ آدمَ إلى وقتنا.
الحيلةُ الأولى: أنْ يوقعوا بني آدم في الكفر والشرك, فَيَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ كي يُوقِعُوهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ, عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِه ومِلَلِه.
والشركُ بالله -تعالى- هو مقصودُ الشياطين الأكبر, وغايتُهمُ العُظْمى.
ولقد كان أنبياء الله -تعالى-, وفي مُقدِّمتِهمْ إبراهيمُ -عليهمُ السلام-, يخافون من الوقوع بالشرك, بل ويسألون الله أنْ يُجنبهم عبادةَ الأصنام.
فها هو إبراهيمُ -عليه السلام- يدعو ويتضرَّع: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم:35-36].
فَإِذَا تمكَّنتِ الشياطينُ من هذه الحيلة, ونجحت في إيقاع الناس في الشرك والنفاق؛ قَرَّتْ عُيُونُهُمْ, وسُرَّتْ خواطرُهم.
فَإِنْ عَجزتْ حِيَلُهُمْ عَنْ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ, وقَوِيَ إيمانُه؛ حاولوا معه في الحِيْلةِ الثانية, وذلك بإلْقَائِهِ فِي الْبِدْعَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا, وتنوُّعِ درجاتها؛ وهي لا تقلّ خطراً عن الحيلة الأولى.
فَإِنْ تَمَّتْ حِيَلُهُمْ, كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَعْصِيَةِ, وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً؛ لأن البدعةَ أشدُّ من المعاصي والكبائر, قال سفيان الثوريُّ -رحمه الله-: البدعةُ أحبّ إلى إبليس من المعصية, المعصيةُ يُتَابُ منها, والبدعةُ لا يُتَابُ منها.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-, شارحاً سبب ذلك: لأن الْمُبتدعَ, الذي يتخذ ديناً لم يَشْرَعْهُ الله ولا رسولُه, قد زُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسناً, فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً, ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة. اهـ.
فَإِنْ عجزوا عن هَذِهِ الْحِيلَة, وَمَنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بِتَحْكِيمِ السُّنَّةِ وَمَعْرِفَتِهَا, وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبِدْعَةِ: حاولوا معه في الحِيْلةِ الثالثة, وذلك بإلْقَائِهِ فِي كَبَائِرِ الذنوبِ وعظائِمها, وَيُزَيِّنُون لَهُ فِعْلَهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ, وَيقُولُون لَهُ: أَنْتَ عَلَى السُّنَّةِ, وَفُسَّاقُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ, وَعُبَّادُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَعْدَاءُ اللَّهِ.
ثم يفتحون له باب الرجاءِ وحُسْنَ الظنّ, ويقولون له:لَمْ يَتَوَعَّدِ الله بِالْعِقَابِ أَحَدًا أَعْظَمَ مِمَّنْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السُّوءَ, وَأَنْتَ لَا تَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السُّوءِ, فَمَا لَك وَللْعِقَابِ؟! وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ حِيلَةً ووسيلةً إلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالْكَبَائِرِ, وَأَخْذِهِ الْأَمْنَ لِنَفْسِهِ.
فَإِنْ عجزوا عن هَذِهِ الْحِيلَة, وَعَظُمَ وَقَارُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ, حاولوا معه في الحِيْلةِ الرابعة, وذلك بأنْ يُهَوِّنُوا عَلَيْهِ صَّغَائِرَ الذنوب, وَيقولُوا لَهُ: ألم تعلم أنْ صغائرَ الذنوبِ تُمْحى وتُكفَّر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ والْمُوبقات, حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ, وكأنك لم تعملْها؟.
ويُذَكِّرونه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ, وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ, وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ, مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ" رواه مسلم.
فما أخطر هذه الحيلة! وما أكثر ما اصْطادوا بها الكثير من الناس, وما أقلَّ من نجا وتخلَّص منها, وهي بوَّابةٌ للكبائرِ, بل للكفرِ والشركِ، والعياذُ بالله! قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ! فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ" رواه أحمد.
قال بعض السلف : "المعاصي بريد الكفر, كما أن الحُمَّى بريد الموت".
فَإِنْ عجزوا عن هَذِهِ الْحِيلَة, وَخَلَّصَ اللَّهُ عَبْدَهُ مِنْهَا, نَقَلُوهُ إلى الحِيْلةِ الخامسةِ, وهي إشْغالُه بالْمُبَاحَاتِ وَالتَّوَسُّعِ فِيهَا, التي لا ثواب فيها ولا عقاب.
فتراه مشغولاً بالنُزْهةِ والصَّيدِ مثلا, أو بالسَّفر، أو جلساتٍ مع الأصدقاء، ونحوِ ذلك, ويتعلَّل بأنْ ذلك يُلْهيه عن الحرام, وهكذا يَفْنى عمْرُه, وتُطوى صحائفُ أعمالِه بلا أعمالٍ صالحة ودرجاتٍ رفيعة, فأيُّ خسارةٍ حلَّتْ عليه!.
فَإِنْ عجزوا عن هَذِهِ الْحِيلَة, وكان حافظاً لوقته، شحيحاً به, يعلم مقدار أنفاسه, نَقَلُوهُ إلَى الحِيْلةِ السادسة, وهي أن يُشْغلوه بالطَّاعَاتِ الْمَفْضُولَةِ, الصَّغِيرَةِ الثَّوَابِ, لِيَشْغَلُوهُ بِهَا عَنْ الطَّاعَاتِ الْفَاضِلَةِ الْكَثِيرَةِ الثَّوَابِ, فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ فِي تَرْكِهِ كُلَّ طَاعَةٍ كَبِيرَةٍ نافعة, إلَى مَا هُوَ دُونَهَا وأقلَّ منها, فيأمُرُه بفعل الخير المفضول, ويحثُّه عليه, ويُحَسِّنه له, حتى يدعَ ما هو أفضل وأعلى منه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقلَّ من يتنبه لهذا من الناس, ولم يصل علمُه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين باباً من أبواب الخير, إما ليتوصَّل بها إلى بابٍ واحد من الشر, وإما ليفَوِّت بها خيراً أعظمَ وأجلَّ وأفضل من تلك السبعين بابا"ً. اهـ.
تأمل -يا عبد الله- في أن الشيطان الرجيم يحثُّك على أبوابٍ كثيرةٍ من الخير والبر, ليتوصَّل من خلالها إلى بابٍ من الشرّ، كأن يحبّب للعبد إكرام جاره, والقيامَ على أهله, وإيْصال الطعام والشرابِ إلى بيته, ومقصودُه من ذلك أنْ يُعلِّق قلبه بإحدى بناتِ جاره, ويُعلِّقَ قلبَها به, فتنشأ علاقةٌ محرمةٌ بينهما, تؤَدِّي بهما إلى الهلاكِ والفضيحة.
نسأل الله -تعالى- أنْ يجنبنا مكائدَ الشيطان ووساوسَه, وحيَلَهُ ومكره, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, يرفعُ أقوامًا ويضعُ آخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه الْمُصطفى الأمين, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، فَإِنْ يَئِسَتِ الشياطينُ من الْحِيل السابقة, وَخَلَّصَ اللَّهُ عَبْدَهُ مِنْهَا, وكان العبدُ مؤمناً ثابتاً, مطيعاً لله منيباً, فهل تيأس الشياطينُ حينها؟ لا؛ بل يسعون معه في الحِيْلةِ السَّابعة, وهي الغلوُّ والتَّشَدُّدُ في الدِين, ورميُ الآخرين بالتقصير, ويصلُ الحال في كثيرٍ منهم, إلى ازْدراء الآخرين من العلماءِ والدعاةِ والمصلحين, وزاد بعضُهم في التشدُّدِ فكفَّرهم, وقاتل المسلمين، وسفكَ دماءهم, كما حصل للخوارج وأتْباعِهم.
والشيطان -كما ذكر ابنُ القيم رحمه الله-, يشمُّ قلب العبد ويختبره؛ فإذا رأى فيه فتوراً وتهاوناً وتقصيراً في التمسكِ بالسُّنة حبَّب إليه البدع والأهواء, وسهَّل عليه سبُلَ الشهوات والملذَّات.
وإن رأى فيه حرصاً على السنة, وتمسُّكاً في الدين؛ أمره بالاجتهاد والتشديدِ على النفس، ومجاوزةِ حدِّ الاقتصاد فيها، قائلا له: إنَّ هذا خيرٌ وطاعة، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم.
فَإِنْ عجزوا عن هَذِهِ الْحِيلَةُ,لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ, وهي الحيلةُ الثامنةُ والأخيرة, بأنْ يُسلِّطُوا عليه أَهْلَ الْبَاطِلِ وَالْبِدَعِ وَالظَّلَمَةِ عَلَيْهِ, يُؤْذُونَهُ في عِرْضه وبدنه ودينه.
فيُوحي الشيطانُ إلى أوليائه وأتباعه بإيذاء أولياء الله وأحْبابه, ولسانُ حاله يقول: لو أطعتني واتَّبعْتني, ولو بشيءٍ يسيرٍ وقليل, لما سلَّطت عليك أوليائي, وهم يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ, وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ; لِيُفَوِّتُوا عَلَيْهِ مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ, ويُفَوِّتُوا عَلَى النَّاسِ مَصْلَحَةَ الْإِجَابَةِ.
فَهَذِهِ -يا عباد الله- أساليبُ الشَّيْطَانِ في إغوائنا, وحيَلُه في إضْلالنا, وَلَا يُحْصِي أَفْرَادَهَا وأسرارها إلَّا اللَّهُ, ولا بدّ للعاقل اللبيب أنْ يَعْرِفَ الْحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ, والمدخلَ الذي دخل عليه الشيطانُ منها, والشبكةَ التي صاده بها.
فإذا عرف ذلك, سهُل عليه طبّه وعلاجُه, وسعى حينها في إصلاح حاله, واللُّجوءِ إلى ربِّه, ليهديَه سواءَ السبيل, فمن جاهد نفسه في الله هداه الله, (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].
نسأل الله -تعالى-, أنْ يهدينا سواءَ السبيل, وأنْ يُعيننا على إصلاحِ أنفسنا, ودحرِ الشيطان عنَّا, إنه على كل شيء قدير.