الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
أو بسبب الافتتان بالشعارات البراقة التي يرفعها الليبراليون، والتي في بعضها شيء من الصالح العام المشترك، مثل العدل والمساواة والحرية واحترام المال العام ومحاسبة الرئيس والمرؤوس، وإيجاد مؤسسات المجتمع المدني، والدعوة إلى إنشاء جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، والحفاظ على الثروة وتوزيعها العادل، والدعوة إلى الشفافية، وتفعيل أنظمة رقابية محاسبية، والقضاء...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وقفنا في الأسبوع الماضي عند الحديث عن علاج الوضع مع وجود التأثير الليبرالي الملموس على وقائع الحياة، وسبقنا بأن حذرنا من الاستهانة بالموضوع، والمسلم همه دينه وخلقه وعرضه، المصيبة في الدين هي نهاية الخسران الذي لا ربح فيه؛ ولذلك ورد دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا".
قال القاضي شريح -رضي الله عنه ورحمه الله-: "إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله -تعالى- عليها أربع مرات: أن لم تكن أعظم مما هي، وأن رزقني الصبر عليها، وأن وفقني للاسترجاع لما أرجوه من الصبر في الثواب، وأن لم يجعلها في ديني".
كُلُّ الذُّنُوبِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا | إِنْ شَيَّعَ الْمَرْءَ إِخْلاصٌ وَإِيمَانُ |
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الدِّينَ يَجْبُرُهُ | وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ |
الله الله في الدين والأخلاق وقيم الإسلام! لا بد من الحذر! فالليبراليون لا يريدون خيرا في هذا المجتمع؛ إنما يريدون إقصاء الدين وعلمائه ودعاته، يريدون إقصاءهم عن الحياة بعامة، يريدون حبس الدين لمن أراده فقط في المسجد، يريدون حبسه في المسجد، كما قال تعالى: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
حتى صرحت كبيرتهم، وهي امرأة تنتمي لهذه البلاد الكريمة مع الأسف وتفتخر بأنها الأمينة العامة للشبكة الليبرالية السعودية، صرحت لوسائل الإعلام في مؤتمر أقيم في القاهرة قبل عام ونصف تحت رعاية إحدى المؤسسات، وحمل المؤتمر عنوان "الانتقال إلى الديمقراطية في العالم العربي تحديات تاريخية وحلول ليبرالية"، حضرته [مع زملائها كممثلين للّيبراليين السعوديين]... كما صرحت في اللقاء الصحفي قائلة: "لقد حضرت أنا مع بعض زملائي كممثلين عن الشبكة الليبرالية السعودية الحرة، وقد كنا الوحيدين من منطقة الخليج".
وحضره كذلك معها قادة الليبرالية الدولية وتحالف الديمقراطيين في الخارج، وقالت في هذا اللقاء وهي تصف المملكة: "إن بلادنا أشبه بأوروبا في العصور الوسطى لما كانت الكنيسة تضطهد الناس وتسيطر عليهم"، وقالت: "إن سبعين في المائة من الشعب السعودي ليبرالي؛ لكنهم في قبضة فئة قليلة من أصحاب المصالح والدعاة ورجال الدين" كما سمـــّتهم.
كبرت كلمة تخرج من فمها! سبعون في المائة من السعوديين ليبراليون؟! بل إنها لم تُخْفِ ولم تجد حرجا من الثناء علنا على شخصيات محسوبة على الدعوة والعلم الشرعي -مع الأسف!- بل وصرحت بأسمائهم ومناصبهم واحدا واحدا علنا في ذلك اللقاء، وقالت أيضا، بكل صراحة: "هناك دعاة شاركوا معنا بصفة سرية في الشبكة الليبرالية ننشر لهم مقالات بشكل سري".
وفي بيان ختامي لها ولزملائها الذين حضروا معها ذلك المؤتمر قالوا فيه: "إن الحياة في السعودية تتسم بالرتابة المملة المبنية على الدين كنوع من أنواع التحكم في حيثيات المجتمع ومفاصله".
إذاً؛ فالدين في نظرهم رتابة مملة، الدين يتحكم في مفاصل المجتمع! هكذا هم كما ذكرت لكم من قبل، أهل شهوات ونزوات، يريدون حرية الإباحية بلا دين ولا قيود، والدين والعفاف يقفان في وجه أحلامهم، وهو وضع موشك أن يخنقهم ويكتم أنفاسهم.
إن هؤلاء الليبراليين -أيها الإخوة- يعملون بإصرار على تغيير المجتمع وتغريبه عبر وسائل مرحلية هادئة قد لا يشعر بها كثير من الناس، فمن وسائلهم الدارجة في وسائل الإعلام بالذات الطعن في الرموز العلمية والدعوية ذات المصداقية العالية والقبول الواسع، واستعداء الدولة عليهم لاتهام تلك الرموز بالتطرف والإرهاب، والتشكيك في نياتهم، ومحاولة نزع ثقة الناس عنهم وعن آرائهم، وبتشويه منطقهم، واتهامهم بالتخلف، وأنهم يجرون البلد للوراء، واستصغار منهجهم، ووصفهم بالسذاجة والدروشة.
[لقد] تطاول أحدهم على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ذاته -رحمه الله تعالى- وقال عنه: "مشايخنا نرجو بركتهم، ولا نؤمّنهم على دنيانا، أبعدوهم عن الدنيا!".
فما أشبهم بقوله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة:13]!.
فينبغي معرفة هذا الكيد الماكر جدا، وأن نَحذر وأن نُحذر أبناءنا وبناتنا منهم، من أن يتأثروا بأقوالهم، فالقابلية لهذا التأثر تكون إما بسبب الجهل والغفلة وسيطرة الهوى، أو بسبب روح التمرد التي تكتنف حياة الشباب، أو بسبب لوثة في التفكير مردها إلى كثرة المساس بالغرب عن طرق كثرة السفر إليه وإدمان مطالعة الأفلام الغربية، والتأثر بدعوات تحرير المرأة.
أو بسبب الافتتان بالشعارات البراقة التي يرفعها الليبراليون، والتي في بعضها شيء من الصالح العام المشترك، مثل العدل والمساواة والحرية واحترام المال العام ومحاسبة الرئيس والمرؤوس، وإيجاد مؤسسات المجتمع المدني، والدعوة إلى إنشاء جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، والحفاظ على الثروة وتوزيعها العادل، والدعوة إلى الشفافية، وتفعيل أنظمة رقابية محاسبية، والقضاء على الفساد الإداري و المالي، وتطوير التعليم؛ وغيرها من المشتركات التي يتبناها كل عاقل.
وأحيانا يكون التأثر بأقوالهم بسبب قربهم من الطرح الدعوي العصراني المتساهل لدى طائفة من مشاهير الدعاة وبعض المنتسبين للعلم الشرعي، تساهل وارتخاء أدى بأحد هؤلاء المحسوبين على العلم الشرعي في بلادنا إلى الانتفاض بنشاط عجيب وكتابة أكثر من أربع عشرة مقالة في إحدى الصحف يحاول فيها تأصيل إباحة اختلاط المرأة بالرجال، ويعترض على منعها من ذلك.
أربع عشرة مقالة! ما هذا النشاط؟! بل وصل به الحال إلى أن قال في مسألة قيادة المرأة للسيارة: "إن عدم قيادة المرأة للسيارة منكر!"، مخالفا بذلك آراء كبار العلماء، والدعاة النجباء.
فالدعاة العصرانيون هؤلاء مشكلة، محسوبون على المشايخ والمتدينين، وهم في الحقيقة بعيدون عن التدين في هذه القضايا.
وأحيانا يحصل التأثر بأقوال الليبراليين بسبب الغلظة عند بعض المتدينين، فقد تحصل مواقف مع بعض هؤلاء تؤدي بالشخص إلى بغض كل ما هو متدين من آراء وهيئات وأشخاص، وكلها مداخل للتجاوب مع الطرح الليبرالي والتأثر به.
معاشر الإخوة: إن رقة الدين سبب رئيس من أسباب الانزلاق في دهاليز البدع والمحدثات، وقبول الأفكار المنحرفة، وتبني المناهج المجانبة لمنهج النبوة، فالقلب القاسي الخالي من خشية الله لا حصانة له، معرض للزيغ في كل حين، حتى إنه يرى الحق باطلا والباطل حقا، ويفرح بنفسه ويزهو بعقله الرشيد، والمصيبة أنه لا يدري بأنها عقوبة من الله، نسأل الله السلامة!.
وقد كان كبار المؤمنين الراسخين في العلم يخافون زيغ القلب ويقولون: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران:8]، فاستئناس المعاصي له عاقبة سيئة على القلب، وعلى الفكر أيضا.
فمن حديث حذيفة -رضي الله عنه- في صحيح مسلم يقول -عليه الصلاة والسلام-: "عرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه".
فافتقاد حس التمييز بين الحق والباطل هنا مرده إلى كثرة الفتن والذنوب، فتن الشبهات والشهوات، يقول الأصبهاني: "إن الرجل إذا تبع هواه، وارتكب المعاصي، دخل قلبَه بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ؛ وإذا صار كذلك؛ افتُتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك".
وإذا افتقد المسلم هذا الحس، حس التفريق بين الحق والباطل، فكيف يتعرف على الحق؟ نسأل الله العافية .
عن أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوْصِنا! قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبدٌ حبشي؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثاتِ الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود.
ولهذا؛ إذا ورد السؤال: ما العمل؟ يكون الجواب: ما دام المسلم عنده عقل راشد وفي جوفه قلب سليم فلا يأنف من الحق، يقبل الحق، ويميز السنة من البدعة، والطاعة من المعصية، ويرى أن سلامة دينه لا يعدلها شيء في الدنيا، وأن دينه وخلقه وعرضه وقيمه الأصيلة كلها لا تباع ولا تشترى، فلا عليه إن شاء الله .
أسأل الله تعالى أن يقينا شر الأشرار، وزيغ الضُّلَّال، وأن يحرسنا بإنعامه وجوده وإحسانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فتقول إحدى التائبات من الليبرالية الكاتبة نوره الصالح، بعنوان: "لماذا هربت من الليبراليين؟"، تقول: "لكنني منذ أن تعرفت على بعض الكاتبات الليبراليات وجدت عندهن تفريطا كبيرا في الصلاة، بعض الجريئات منهن يطلقن على المثقفة المواظبة على الصلاة بعض ألقاب المطاوعة التي تتظاهر بالمزاح وتخفي اللمز، ولم يتوقف الأمر عند الصلاة، بل إنني بدأت أشم بين بعض الزميلات والزملاء الليبراليين شيئاً من رائحة المشروبات، والعلاقات غير المشروعة، صحيح أن الأمر لم يكن عاما بين الجميع؛ لكن البقية لم تكن ترى أن هذا شيء خطير، بل تراه مجرد خيار شخصي يجب عدم إعطائه أكبر من حجمه".
وشهد شاهد من أهلها، هذا هو واقعهم تحكيه من عاشت في أكناف تلك البيئة حتى أنقذها الله -تعالى- منها.
معاشر -الإخوة-: إن طريق الوقاية من الشبهات ميسر لمن كان عازما وجادا في وقاية نفسه وأهله، فليس مثل الاستقامة منجى، يعين الله بها العباد، وتتنزل عليهم الملائكة، وتطمئنهم في ذلك الطريق المبارك: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]
في صحيح مسلم، قال عبد الله الثقفي: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: "قل آمنت بالله؛ ثم استقم".
والاستقامة في هذا الموضوع تقتضي: أولا : ترك طبع الاستهانة، لا بد أن نترك هذا الطبع، والإحساس بخطورة الأمر.
ثانيا: نحن معهم في المشتركات النافعة المباحة التي يطلبها جميع الناس من الحقوق المشروعة وما شابهها؛ لكن الأمر ليس كذلك، ينبغي إدراك أن القضية قضية دين وعرض وخلق، من منا يريد أن يأتي اليوم الذي تحضر فيه البنت صديقها إلى البيت أو تخرج معه أمام والديها؟! من منا يريد أن يأتي اليوم التي تتلاشى فيه العباءة من مظهر بناته أو حفيداته إلا من جانب خفيف على جانب الشعر أو أقل؟!.
لا أظن أحدا يريد ذلك، وبالتالي؛ يجب البعد عن طرح أصحاب المنهج العصراني المتساهل، وتوعية الأبناء والبنات بأهمية الاستقامة على منهج النبوة والصحابة، قال -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
ونتكلم عن منهج النبوة والصحابة في مقام آخر إن شاء الله.
اللهم أحفظ علينا ديننا وأعراضنا، وأصلح شبابنا وبناتنا.