القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لا شَكَّ أَن تَغيِيرَ الأَخلاقِ الَّتي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيهَا لَيسَ بِتِلكِ السُّهُولَةِ، إِذِ النَّفسُ عِندَمَا تَستَمِرُّ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً عَلَى خُلُقٍ سَيِّئٍ أَو تَستَمرِئُ صِفَةً قَبِيحَةً، فَإِنَّهُ يَثقُلُ عَلَيهَا تَغيِيرُ ذَلِكَ إِلاَّ بِفَضلٍ مِنَ اللهِ، غَيرَ أَنَّ العُقَلاءَ مِن عِبَادِ اللهِ إِذَا لم يَستَطِيعُوا تَغيِيرَ مَا تَنطَوِي عَلَيهِ...وَهَذِهِ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ في جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالأَخلاقِ، فَمَتى لم يَقدِرِ المَرءُ عَلَى تَغيِيرِ قَبِيحِهَا لِضِدِّهِ مِنَ الحَسَنِ الجَمِيلِ، فَلْيُحَوِّلْهَا إِلى مَا يَنفَعُهُ، وَلْيَحذَرْ أَن يُبَالِغَ فِيهَا فَتَكُونَ غَايَةَ هَلاكِهِ، وَقَد...
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعقِلُونَ) [الأنعام:32].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: الإِنسَانُ ابنُ بِيئَتِهِ وَرَبِيبُ مُجتَمَعِهِ، يَتَأَثَّرُ بِهِمَا وَيَأخُذُ عَنهُمَا، وَبِمَن فِيهِمَا يَقتَدِي وَمِنهُم يَتَعَلَّمُ، فَإِن كَانَ في بِيئَةٍ طَيِّبَةٍ وَمُجتَمَعٍ صَالِحٍ، يُذَكِّرَانِهِ بِاللهِ وَيَربِطَانِهِ بِاليَومِ الآخِرِ، طَابَت أَخلاقُهُ وَسمَت نَفسُهُ وَزَكَت أَعمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ في بِيئَةٍ خَبِيثَةٍ وَمُجتَمَعٍ سَيِّئٍ، لا يُعِينَانِهِ عَلَى خَيرٍ وَلا يَدُلاَّنِهِ عَلَى بِرٍّ، فَسَدَت أَعمَالُهُ وَتَدَّسَت نَفسُهُ وَخَبُثَت أَخلاقُهُ، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَمَرَ اللهُ بِلُزُومِ البِيئَةِ الصَّالِحَةِ وَصُحبَةِ الصَّالِحِينَ، وَحَذَّرَ مِنَ البِيئَةِ الفَاسِدَةِ وَمُجَارَاةِ المُفسِدِينَ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَاصبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلا تُطِعْ مَن أَغفَلْنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، وَقَالَ -تَعَالى-: (وَإِذَا رَأَيتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعرِض عَنهُم حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيطَانُ فَلا تَقعُدْ بَعدَ الذِّكرَى مَعَ القَومِ الظَّالمِينَ) [الأنعام: 68].
وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَقَد نَزَّلَ عَلَيكُم في الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعتُم آيَاتِ اللهِ يُكفَرُ بها وَيُستَهزَأُ بها فَلا تَقعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُم إِذًا مِثلُهُم إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ في الأَرضِ قَالُوا أَلم تَكُنْ أَرضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَت مَصِيرًا * إِلاَّ المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ لا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء:97-99].
وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَت بَعضُ النُّفُوسِ مَجبُولَةً على بَعضِ الأَخلاقِ الحَسَنَةِ، لا تَتَكَلَّفُ في تَحصِيلِهَا وَلا تَبذُلُ جُهدًا في الاتِّصَافِ بها، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَخلاقًا أُخرَى كَرِيمَةً وَصِفَاتٍ نَبِيلَةً، لا يَجمُلُ بِالمَرءِ أَن تَمُرَّ بِهِ السَّنَوَاتُ تِلوَ السَّنَوَاتِ وَهُوَ خِلوٌ مِنهَا، بِحُجَّةِ أَنَّهُ لم يُطبَعْ عَلَيهَا وَأَنَّهَا لَيسَت مِن جِبِلَّتِهِ، أَو أَنَّهُ لا يُرِيدُ أَن يَتَكَلَّفَهَا ويَخرُجَ أَمَامَ النَّاسِ بِغَيرِ مَا هُوَ عَلَيهِ في الحَقِيقَةِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ ممَّا يَجِبُ أَلاَّ يُلتَفَتَ إِلَيهِ، بَل لا بُدَّ لِلمُرِيدِ لِنَفسِهِ الذِّكرَ الحَسَنَ في الدُّنيَا وَالنَّجَاةَ في الأُخرَى، أَن يُكَلِّفَ نَفسَهُ الاتِّصَافَ بِمَحمُودِ الخِصَالِ، وَيُجَاهِدَهَا عَلَى اكتِسَابِ شَرِيفِ الخِلالِ، وَيُرَوِّضَهَا عَلَى المَحَامِدِ وَيَتَحَرَّى المَكَارِمِ، حَتى يُحَصِّلَهَا وَتُصبِحَ لَهُ خُلُقًا وَعَادَةً وَدَيدَنًا، وَتَنقَلِبَ مَعَ الزَّمَنِ مِن خُلُقٍ يَتَكَلَّفُهُ وَيُقَاسِي مَرَارَتَهُ، إِلى طَبعٍ ثَابِتٍ يُعرَفُ بِهِ وَيُحَبُّ مِن أَجلِهِ، وَخُلُقٍ أَصِيلٍ يُمدَحُ عَلَيهِ وَتَمِيلُ النُّفُوسَ إِلَيهِ بِسَبَبِهِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَن يَستَعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَن يَستَغنِ يُغنِهِ اللهُ، وَمَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ، وَمَن يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ". رَوَاهُ الدَّارَقَطنيُّ وَحَسَنَّهُ الأَلبَانيُّ.
نَعَم -إِخوَةَ الإِسلامِ- إِنَّ مَن نِعمَةِ اللهِ عَلَى بَعضِ النَّاسِ أَن يَطبَعَهُ عَلَى أَحسَنِ الأَخلاقِ فَلا يَتَكَلَّفَهَا، فَعَن أَشَجِّ عَبدِ القَيسِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ"، قُلتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: "الحِلمُ وَالحَيَاءُ"، قُلتُ: قَدِيمًا أَو حَدِيثًا؟! قَالَ: "قَدِيمًا"، قُلتُ: الحَمدُ للهِ الَّذِي جَبَلَني عَلَى خُلُقَينِ أَحَبَّهُمَا اللهُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وَمَعَ هَذَا -إِخوَةَ الإِسلامِ- فَقَد لا يَكُونُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ طَرِيقٌ لِلاتِّصَافِ بِمَحَاسِنِ الأَخلاِقِ وَمَكَارِمِ الصِّفَاتِ الَّتي يُمدَحُ بها الرِّجَالُ وَبها يُحَبُّونَ، إِلاَّ بِتَكَلُّفِهَا وَمُجَاهَدَةِ النَّفسِ عَلَيهَا، فَبِالتَّسَامُحِ يُصبِحُ الرَّجُلُ سَمحًا، وَبِالتَّوَرُّعِ يُصبِحُ وَرِعًا، "وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حَتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لا شَكَّ أَن تَغيِيرَ الأَخلاقِ الَّتي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيهَا لَيسَ بِتِلكِ السُّهُولَةِ، إِذِ النَّفسُ عِندَمَا تَستَمِرُّ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً عَلَى خُلُقٍ سَيِّئٍ أَو تَستَمرِئُ صِفَةً قَبِيحَةً، فَإِنَّهُ يَثقُلُ عَلَيهَا تَغيِيرُ ذَلِكَ إِلاَّ بِفَضلٍ مِنَ اللهِ، غَيرَ أَنَّ العُقَلاءَ مِن عِبَادِ اللهِ إِذَا لم يَستَطِيعُوا تَغيِيرَ مَا تَنطَوِي عَلَيهِ نُفُوسُهُم مِن أَخلاقٍ غَيرِ مَحمُودَةٍ، فَإِنَّهُم لا يَستَسلِمُونَ لَهَا استِسلامًا كَامِلاً، وَلا يَنقَادُونَ لِتَأثِيرِهَا انقِيَادًا تَامًّا، وَلا يُبقُونَ عَلَيها مُشتَعِلَةً في نُفُوسِهِم تَحرِقُ عَلَيهِم حَاضِرَهُم وَتُضِرُّ بِمُستَقبَلِهِم، وَتَحرِمُهُمُ الحَسَنَاتِ وَتُثقِلُ كَوَاهِلَهُم بِالسَّيِّئَاتِ، وَلَكِنَّهُم يَجتَهِدُونَ أَلا يَستَعمِلُوا تِلكَ الأَخلاقَ إِلاَّ في مَوَاضِعِهَا الَّتي تَقتَضِيهَا وَمَوَاطِنِهَا الَّتي تَحسُنُ فِيهَا، وَيُخفُوهَا حَيثُ لا حَاجَةَ إِلَيهَا، فَمَا يَكُنْ فِيهِم مِن خُيَلاءَ وَكِبرِيَاءَ مَثَلاً، فَإِنَّهُم يَجعَلُونَهُ في الحَربِ أَمَامَ الأَعدَاءِ، وَمَا يُبتَلَونَ بِهِ مِن حُبِّ مُنَافَسَةٍ، فَإِنَّهُم يَصرِفُونَهُ إِلى المُنَافَسَةِ في الخَيرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ، وَمَا قَد يُحَرِّكُهُم مِن حِرصٍ، فَإِنَّهُم يَستَثمِرُونَهُ في التَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالاستِكثَارِ مِنَ القُرُبَاتِ، وَمَا يَكُنْ في أَحَدِهِم مِن شُحٍّ أَو بُخلٍ، فَإِنَّهُ يَجعَلُهُ فِيمَا يَنفَعُهُ، فَيَشِحُّ بِزَمَانِهِ أَن يَضِيعَ عَلَيهِ سُدًى، وَلا يَسمَحُ بِوَقتِهِ لِمَن لا يَستَحِقُّهُ مِنَ الفَارِغِينَ وَالبَطَّالِينَ، وَيَشِحُّ بِمَالِهِ أَن يَكُونَ في غَيرِ مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ، وَذَلِكَ بِإِنفَاقِهِ في سَبِيلِ اللهِ، وَتَقدِيمِهِ بَينَ يَدَيهِ زَادًا لِمَعَادِهِ، لا أَن يُفنِيَ عُمُرَهُ في جَمعِهِ وَالشُّحِّ بِهِ، ثم يَترُكَهُ لِغَيرِهِ يَتَنَعَّمُونَ بِهِ بَعدَ مَوتِهِ وَقَد يُفسِدُونَهُ، وَيَفُوتُهُ هُوَ أَجرُهُ وَلا يَصِلُ إِلَيهِ شَيءٌ مِن ثَوَابِهِ.
وَهَذِهِ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ في جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالأَخلاقِ، فَمَتى لم يَقدِرِ المَرءُ عَلَى تَغيِيرِ قَبِيحِهَا لِضِدِّهِ مِنَ الحَسَنِ الجَمِيلِ، فَلْيُحَوِّلْهَا إِلى مَا يَنفَعُهُ، وَلْيَحذَرْ أَن يُبَالِغَ فِيهَا فَتَكُونَ غَايَةَ هَلاكِهِ، وَقَد قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في الحَسَدِ مَثَلاً: "لا حَسَدَ إِلاَّ في اثنَتَينِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكمَةً، فَهُوَ يَقضِي بها وَيُعَلِّمُهَا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
وَلَو تَأَمَّلنَا مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ -عَلَيهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- مِن عِندِ اللهِ، لَرَأَينَا أَنَّهُم لم يَأتُوا بِمَنعِ النُّفُوسِ دَائِمًا مِمَّا تَتُوقُ إِلَيهِ وَتَشتَهِيهِ، وَإِنَّمَا جَاؤُوا بِتَهذِيبِ الأَخلاقِ وَصَرفِ بَعضِ الصِّفَاتِ عَن مَجَارِيهَا المَذمُومَةِ، وَتَوجِيهِهَا إِلى مَجَارِيهَا المَحمُودَةِ، فَجَاؤُوا مَثَلاً بِصَرفِ قُوَّةِ الشَّهوَةِ إِلى الزَّوَاجِ وَالنِّكَاحِ، بَدَلاً مِنَ تَضيِيعِهَا في الزِّنَا وَالسِّفَاحِ، وَجَاؤُوا بِصَرفِ قُوَّةِ الغَضَبِ مِنَ الظُّلمِ وَالبَغيِ وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ، إِلى استِثمَارِهَا في جِهَادِ أَعدَاءِ اللهِ وَالغِلظَةِ عَلَيهِم وَالانتِقَامِ مِنهُم، كَمَا قَالَ -سُبحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا النَّبيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ) [التوبة:73]، وَجَاؤُوا بِصَرفِ قُوَّةِ اللَّهوِ، إِلى تَعَلُّمِ الرَّميِ وَالمُسَابَقَةِ عَلَى الخَيلِ وَرُكُوبِهَا في سَبِيلِ اللهِ، وَأَبدَلُوا النَّاسَ بِرَفعِ الصَّوتِ بِالغِنَاءِ، تَرتِيلَ كَلامِ اللهِ وَالتَّغَنِّيَ بِهِ وَاستِمَاعَهُ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلاً) [المزمل:4]، وَوَقَفَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَستَمِعُ إِلى قِرَاءَةِ أَبي مُوسَى الأَشعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- لِلقُرآنِ، وَأَمَرَ ابنَ مَسعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَن يَقرَأَ عَلَيهِ القُرآنَ، فَقَرَأَ عَلَيهِ وَاستَمَعَ وَتَأَثَّرَ بما سَمِعَ وَبَكَى.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَدِ اشتَغَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليَومَ بِرِيَاضَةِ الأَبدَانِ وَتَقوِيَةِ الأَجسَامِ، وَغَفَلُوا عَمَّا هُوَ أَهَمُّ وَأَولَى وَأَحَقُّ، وَهِي النُّفُوسُ الَّتي لا فَلاحَ إِلاَّ بِتَزكِيَتِهَا، وَالقُلُوبُ الَّتي هِيَ مَوضِعُ نَظَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالى-، وَقَد قَالَ -سُبحَانَهُ-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2].
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأخلاقِ". رَوَاهُ أَحمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم". رَوَاهُ مُسلِمٌ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَزَكُّوا أَنفُسَكُم؛ فـ(قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:9، 10]، وَأَصلِحُوا قُلُوبَكُم بِتَجَنُّبِ الأَخلاقِ السَّيِّئَةِ، فَإِنَّهَا ممَّا يَطبَعُ عَلَى القُلُوبِ وَيُفسِدُهَا، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر:35].
وَقَالَ -تَعَالى-: (وَمِنهُم مَن عَاهَدَ اللهَ لَئِن آتَانَا مِن فَضلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِن فَضلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضُونَ * فَأَعقَبَهُم نِفَاقًا في قُلُوبِهِم إِلى يَومِ يَلقَونَهُ بما أَخلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبمَا كَانُوا يَكذِبُونَ) [التوبة:75-77].
اللَّهُمَّ اهدِنَا لأَحسَنِ الأَعمَالِ وَأَحسَنِ الأَخلاقِ لا يَهدِي لأَحسَنِهَا إِلاَّ أَنتَ، وَقِنَا سَيِّئَ الأَعمَالِ وَسَيِّئَ الأَخلاقِ لا يَقِي سَيِّئَها إِلاَّ أَنتَ.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكَرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لِلإِنسَانِ مَعَ نَفسِهِ حَالَتَانِ: فَهُو إِمَّا أَن يُطَهِّرَهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَيُنَقِّيَهَا مِنَ العُيُوبِ، وَيُرَقِّيَهَا بِطَاعَةِ اللهِ وَيُعلِيَهَا بِالعِلمِ النَّافِعِ وَيَرفَعَهَا بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِمَّا أَن يُدَنِّسَهَا بِالمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَيُدسِّيَهَا بِالأَخلاقِ القَبِيحَةِ وَهَابِطِ الصِّفَاتِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالحُسنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاستَغنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسرَى) [الليل:4-10].
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَتَذَكَّرُوا إِذَا ذُكِّرتُم، وَاتَّعِظُوا إِذَا وُعِظتُم، وَتَفَقَّهُوا وَاعمَلُوا بما عَلِمتُم، لِتَفُوزُوا وَتُفلِحُوا، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلمِ، كَمَثَلِ الغَيثِ الكَثِيرِ أصَابَ أرضًا، فَكَانَ مِنهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأنبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشبَ الكَثِيرَ، وَكَانَت مِنهَا أجَادِبُ أمسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوا وَزَرَعُوا، وَأصَابَ مِنهَا طَائِفَةً أخرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمسِكُ مَاءً وَلا تُنبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ الله وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَني اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَن لم يَرفَع بِذَلِكَ رَأسًا، وَلم يَقبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرسِلتُ بِهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
إِنَّ مِن سُنَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- في عِبَادِهِ، أَلاَّ يُغَيِّرَ مَا بِهِم مِمَّا يَكرَهُونَهُ، حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم مِمَّا يَكرَهُهُ -سُبحَانَهُ- وَلا يَرضَاهُ، فَمَتى غَيَّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم مِنَ الكُفرِ إِلى الإِيمَانِ، وَتَحَوَّلُوا مِن مَعصِيَةِ اللهِ إِلى طَاعَتِهِ، غَيَّرَ -تَعَالى- مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّقَاءِ وَالذِّلَّةِ وَالشِّدَّةِ، إِلى الخَيرِ وَالسُّرُورِ وَالغِبطَةِ وَالرَّحمَةِ، وَالعَكسُ بِالعَكسِ، فَلا يُغَيِّرُ اللهُ مَا بِقَومٍ مِنَ النِّعمَةِ وَالإِحسَانِ وَرَغدِ العَيشِ حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم، فَيَنتَقِلُوا مِنَ الإِيمَانِ إِلى الكُفرِ، وَمِنَ الطَّاعَاتِ إِلى المَعَاصِي، وَمِن شُكرِ النِّعَمِ إلِى البَطَرِ بها، فَيَسلِبَهُمُ اللهُ عِندَ ذَلِكَ إِيَّاهَا: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَومٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11].
أَلا مَا أَحوَجَنَا أَن نُرَاجِعَ أَنفُسَنَا، وَنَسلُكَ كُلَّ سَبِيلٍ يَزِيدُ في إِيمَانِنَا، وَيُغَيِّرُ أَخلاقَنَا مِن قَبِيحٍ إِلى حَسَنٍ، وَمِن حَسَنٍ إِلى أَحسَنَ، فَاعتَصِمُوا بِرَبِّكُم -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَاحتَمُوا بِحِمَاهُ، وَاستَمسِكُوا بِصِرَاطِهِ المُستَقِيمِ، وَاحرِصُوا عَلَى تَجدِيدِ إِيمَانِكُم وَتَحسِينِ أَخلاقِكُم، وَأَبشِرُوا بما يَسُرُّكُم مِن عِندِ رَبِّكُم، فَهُوَ القَائِلُ -سُبحَانَهُ-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ) [العنكبوت:69].