القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | وائل بن عبد الله باجروان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن الغيرة سجية من سجايا النفس وغريزة من غرائزها الفطرية، وتضعف هذه الغيرة في النفس، ومن أسباب ضعف الغيرة في النفوس ضعف الإيمان، فكلما كان العبد أقوى إيمانًا كان أشد حفظًا لنفسه ولأهله من أي شيء يلوث سمعتهم أو يقتل حياءهم ودينهم، ولا...ومن أسباب ضعف الغيرة: الغلو في الثقة بالأهل إلى حد التعامي عن أمور واضحة بيّنة تخدش الشرف والعفاف، بحيث يتساهل في خروج أهله ودخولهن متى شاؤوا وكيف شاؤوا، فهو...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فتقوى الله هي المنجية من المهالك والمعاصي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله: إن من الأخلاق الحميدة خلقًا عظيمًا وطبعًا جميلاً يحمل الرجل على حفظ نسائه وأهل بيته من كل فاجر وغادر، تزيد في الرجال بقدر إيمانهم وشهامتهم وكرامة أنفسهم، ذلك الخلق ذو أهمية كبيرة خاصة في هذه الأيام التي كثر فيها الفساد، والتي سعى فيها أعداء الإسلام لإفساد المرأة المسلمة بشتى الوسائل.
أيها الإخوة المؤمنون: إن خلق الغيرة خلق عظيم، ركّبه الله -عز وجل- في فِطَر الرجال، قال العلامة بكر أبو زيد في كتباه القيم (حراسة الفضيلة): "الغيرة هي ما ركّبه الله في العبد من قوة روحية تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر".
الغيرة غريزة فطرية، وصفة ربانية، وسجية نبوية، وخلق محمود وصفة حسنة، والغيرة كانت موجودة في الجاهلية قبل الإسلام حتى قال شاعرهم يبين حماية الرجل لمحارمه:
منعَّمة ما يستطاع كلامها | على بابها من أن تزار رقيب |
وقد أقر الإسلام هذا الخلق وهذبه، وضبطه بضوابط الشرع.
والغيرة تكريم للمرأة وحفظ لها من العابثين المفسدين، لا كما تظن بعض النساء أنه تضييق عليها وتحكّم في تصرفاتها، بل هو من حقوق الزوجة على زوجها أن يغار عليها وأن يحميها، وذلك دليل على صدق حبه لها، يقول أحد الرجال في بيان شدة غيرته على زوجته:
أغار عليك من عيني ومني | ومنك ومن زمانك والمكان |
ولو أني خبّأتك فِي عيونِي | إلَى يوم القيامة ما كفـانِي |
إن الأعراض غالية ثمينة عند أصحابها أهل الغيرة والعفة، فهم يبذلون الغالي والنفيس في الحفاظ على أعراضهم، بل قد يبذلون أرواحهم، حتى عده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عداد الشهداء، قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "من قُتل دون ماله فهو شهيد".
والغيرة صفة من صفات الله تعالى، وهي كذلك صفة من صفات المؤمن الصادق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه".
إن غيرة الرجل على نسائه دليل على قوة إيمانه وعلوّ همته، ومجتمع يُحفظ فيه النساء مجتمع طهر وعفاف، قال في الإحياء: "كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها"، قال المناوي في الفيض: "أشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة".
أيها الأحبة في الله: إن الله -عز وجل- أشدّ غيرة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد خلق الله غيرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أمّة محمد: والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني".
وكما كان رسول الله أشد الخلق غيرة كان أصحابه -رضوان الله عليهم- أشد الناس غيرة، فهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يروي عنه أنه لما رأى الأسواق يزدحم فيها الرجال والنساء قال غيرةً على نساء المسلمين: "لا تستحيون؟! لا تغارون أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج"، وهم الرجال الفحول من الأعاجم.
وهذا سعد بن عبادة سيد الخزرج، كان مشهورًا بشدة غيرته، قال سعد -رضي الله عنه-: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أتعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني".
أيها المسلمون: إن الغيرة سجية من سجايا النفس وغريزة من غرائزها الفطرية، وتضعف هذه الغيرة في النفس، ومن أسباب ضعف الغيرة في النفوس ضعف الإيمان، فكلما كان العبد أقوى إيمانًا كان أشد حفظًا لنفسه ولأهله من أي شيء يلوث سمعتهم أو يقتل حياءهم ودينهم، ولا يضعف الإيمانَ إلا الذنوب، وإذا ضعف الإيمان هان على العبد مخالفة الدين والفطرة السليمة.
ومن أسباب ضعف الغيرة البعد عن تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، فالإسلام جاء بمكارم الأخلاق، والتي منها الغيرة على المحارم.
ومن أسباب ضعف الغيرة: الجهل بخطورة موت الغيرة، فعلى المسلم أن يعلم أهمية الغيرة على الأعراض، وأن ضدّ الغيرة الدياثة، وضد الغيور الديوث، وهو الذي يقر الفحش في أهله ولا غيرة له عليهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث". والخبث: الفاحشة.
ومن أسباب ضعف الغيرة: الجهل بعظم المسؤولية تجاه الأهل، فإن الرجل مسؤول يوم القيامة عن رعيته ومن تحت رعايته من بنت وزوجة وغيرها من إناث وذكور، فهم أمانة في عنقه، فيجب عليه تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وأن يحميهم من الأقوال البذيئة والأفعال القبيحة والسلوكيات الخاطئة.
ومن أسباب ضعف الغيرة: جلساء السوء، فللجلساء تأثير على الشخص، إن كانوا أهل صلاح وحياء وغيرة كانوا سببًا في صلاحه، وإن كانوا أهل فساد وقلة غيرة كانوا سببًا في فساده والتأثير عليه.
ومن أسباب ضعف الغيرة: الغلو في الثقة بالأهل إلى حد التعامي عن أمور واضحة بيّنة تخدش الشرف والعفاف، بحيث يتساهل في خروج أهله ودخولهن متى شاؤوا وكيف شاؤوا، فهو يتعامى عنهم باسم الثقة. ويقابل الغلو في الثقة انعدام الثقة عند بعض الرجال، فدائمًا ينظر إلى أهله بعين الريبة، يشك فيهم، بل يتهمهم، يعيش في أوهام وظنون ليس لها أصل من الصحة، وكلا الأمرين مذموم: الثقة الزائدة وانعدام الثقة.
ومن أسباب ضعف الغيرة: الإعلام الفاسد بوسائله المختلفة، ذلك أن للإعلام دورًا مهمًّا في تشكيل عقول متابعيه وأفكارهم وسلوكهم، فينقل لنا السلوكيات الشاذة عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف عبر البرامج المنحرفة والأغاني الهابطة والمسلسلات الخليعة والمفاهيم السقيمة الدخيلة علينا.
ومن أسباب ضعف الغيرة: التأثر بحضارة الغرب وتقدمه التقني والاقتصادي، فيظن الرجل ضعيف الإيمان أنه لا بد من تقليدهم في اللباس والهيئة والسلوك حتى نتقدم ونتحضر مثلهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة المسلمون: إن الغيرة نوعان:
غيرة محمودة، وهي المعتدلة الشرعية التي تجعل صاحبها يحمي محارمه من الوقوع في المنكر ومن اختلاطهن بالرجال الأجانب، وهو ما تحدثنا عنه في بداية الخطبة الأولى.
والنوع الثاني: غيرة مذمومة، وهي أن يشك الرجل في أهله ويتجسس عليهم ويظن بهم السوء وهم بعيدون عنه كل البعد، وكم انهارت من الأسر بسبب هذا الظن السيئ من غير دليل ولا بيان، إنها الشك والوسوسة، وهذه الغيرة يبغضها الله تعالى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة".
عباد الله: ولو كانت الغيرةُ منتشرةً بين الناس ما سمعنا من يتحدث عن تحرير المرأة والمطالبة بخروجها من بيتها والمطالبة بمساواتها بالرجل في أشياء تختص بالرجال وغير ذلك من الدعاوى.
فالله الله -يا عبد الله- في نسائك وأهل بيتك، احفظهم وصنهم فهم أمانة لديك، وتذكر أن الغيرة صفة رجولية محمودة، اتصف بها سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فسر على خطاهم وانهج نهجهم واسلك سبيلهم.
اللهم إنا نسألك السلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، ونسألك اللهم أن تحفظ أعراضنا وأموالنا ودماءنا من كل كافر حاقد ومجرم عابث، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان يا رب العالمين...