العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
حادثة المقاطعة العامة من حوادث التاريخ الإسلامي الكبرى، بل من حوادث التاريخ الإنساني الكبرى؛ إذ كانت طريقة فريدة وغير مسبوقة في مواجهة الدعوات، فلأول مرة في التاريخ العربي تطبق سياسة الحصار الاقتصادي العام بصورة شديدة الصرامة، ولخطورة تلك الحادثة وأهميتها كان لابد من دراسة بنود وثيقة المقاطعة بنداً بنداً وقرأءتها قراءة جديدة وبفكر...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
هاجر المسلمون إلى الحبشة أول مرة في رجب من العام الخامس من النبوة ثم عادوا سريعاً بعد تغير الأوضاع الداخلية بمكة في أواخر رمضان من نفس العام، فوجدوا أن حقيقة الأمر يختلف كثيراً عن صورته التي نقلت إليهم، فهاجروا الثانية بناء على أمر صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تلك الهجرة أكبر وأشمل من الأولى، وكللت بنجاح كبير رغم الإجراءات المشددة والاحتياطيات المكثفة التي اتخذها المشركون لمنع الهجرة وذلك أواخر العام الخامس من النبوة.
في تلك الفترة واجهت قريش عدة تحديات من الدعوة الإسلامية، تمثلت في إسلام رجلين من أشد رجال قريش وهما: حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وما استتبع ذلك من اعتزاز المسلمين بإسلامهما ومجاهرة المسلمين بصلاتهم في الكعبة في تحدي كبير للهيمنة السيادة القرشية على الأماكن المقدسة، وتمثل أيضاً في نجاح الدعوة في فتح أرض جديدة ببلاد الحبشة البعيدة، ثم الفشل الذريع لمحاولة استعادة المهاجرين، وما قرأه عمرو بن العاص في عين النجاشي من ميله للإسلام وإقراره بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتمثل أيضاً في نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الدعوة الإسلامية لخارج حدود مكة بحيث وصلت لمعظم أنحاء الجزيرة رغم الجهود الضخمة التي بذلها المشركون وصناديد الكفر لصد الناس عن سماع الحق، فقد وصل الإسلام إلى العديد من قبائل العرب مثل غفار والأزد وطيء وثقيف ودوس عبر إسلام بعض الشخصيات المؤثرة من أبناء تلك القبائل، والذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الإسلام في قبائلهم.
شعر المشركون بحساسية موقفهم والإحراج الشديد الذي أصاب هيبتهم ومكانتهم بين القبائل العربية وهم يرون المسلمين يحققون صعوداً لافتاً وتوسعاً استراتيجياً، لذلك قرروا اتخاذ خطوات كبيرة وحاسمة لمواجهة تنامي الوجود الإسلامي في مكة والجزيرة العربية كلها، تلك الخطوات كما يلي:
أولاً: رفع وتيرة التعذيب: فقد انقلب المشركون على المسلمين في مكة بداية من السنة السادسة من النبوة بشتى وأقسى وأشنع أنواع المثلات من تقطيع وتحريق وتنكيل، حتى عظم البلاء واشتد على المسلمين أخرج ابن إسحاق بسند صحيح عن الزهري قوله: "ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء...".
وقد تحمل الضعفاء والأرقاء القسط الأوفر من حملات ووصلات التعذيب، ولم تبال قريش بمن قتل أو مات تحت وطأة التعذيب، ولم تبال بإنكار العرب عليهم تلك الوحشية والقسوة المفرطة التي تتعارض مع مروءة العرب ونصرتهم للمظلوم.
ثانيًا: محاولة اغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم-: النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له من الهيبة والجلالة والمكانة بين قبائل قريش ما كان يحفظه من إقدام قريش على النيل منه، أضف لذلك صيانة وحماية عمه أبي طالب له وهو سيد من سادات قريش له خطره ومنزلته بها، ومع ذلك فقد تجرأ عليه السفهاء وأكابر المجرمين، وأخذوا في النيل منه شيئاً فشيئاً، ابتداءً بالأذى النفسي من تكذيب واستهزاء وتسفيه وترويج شائعات وأباطيل عنه وعن دعوته، ثم بعد ذلك رفعوا وتيرة الاضطهاد بالتعرض له صلى الله عليه وسلم بالضرب والمنع من الصلاة بالكعبة ورمي الأذى على ظهره وجذبه من ثيابه، وهكذا من صنوف الأذى البدني الخفيف والمتوسط.
ولكن مع مرور الوقت ودخول المزيد من الناس في الإسلام فكر المشركون في التخلص نهائياً من الرسول صلى الله عليه وسلم باغتياله، وقد بادر بتلك المحاولات الشريرة أبو جهل عندما حاول قتل النبي صلى الله عليه وسلم بحجر وهو يصلي في الكعبة، ثم قام عقبة بن أبي معيط بخنقه خنقاً شديداً وهو يصلي حتى كادت أن تخرج روحه لولا تدخل أبي بكر، ثم عرضوا على أبي طالب أن يسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ويعطوه بدلاً منه شاباً من أنهد شباب قريش ليتخذه ولداً بدلاً منه، فرفض أبو طالب بشدة.
وكان رد أبي طالب على المشركين تلك المرة كفيلاً بإقناعهم بعدم جدوى المفاوضات بخصوص ذلك الشأن وعندها اجتمع خمسة وعشرون من أكابر المجرمين في قريش بقيادة أبي جهل واتفقوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم نهاراً جهاراً دون النظر للعواقب وما يترتب عليه الحادث من سفك دماء كثيرة.
كان أبو طالب مهموماً بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتخوف من تنامي العداء ضده، وتصاعد وتيرة الاعتداء عليه، فقرر القيام بعمل في غاية الذكاء والإستراتيجية في نفس الوقت لإبطال مخططات المشركين الرامية لاغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إذ خرج أبو طالب في صحن الكعبة وأعلن إجارته للرسول صلى الله عليه وسلم بصورة قاطعة مؤكدة أوقف بها كل مفاوضات المشركين في ذلك الشأن، ثم دعا بني هاشم وبني عبد المطلب -وكان هو زعيمهم وسيدهم- للدخول في حلف دفاع مشترك مؤمنهم ومشركهم، حيث لم يخص المؤمنين بالخطاب وحدهم، بل دعا الجميع ليستفيد من الأعراف القبلية والتقاليد العربية التي تجعل الولاء للقبيلة والدفاع عن العشيرة مقدم على ما سواه.
وقد أنشد أبو طالب قصيدته اللامية الشهيرة التي هي أفحل من المعلقات السبع كما قال ابن كثير والتي جاء في أولها:
ولما رأيت القوم لا ود عندهم | وقد قطعوا كل العرى والوسائل |
وقد حالفوا قوماً علينا أظنـة | يعضون غيـظاً خلفنـا بالأنامل |
وكان لتلك القصيدة مفعول السحر في حشد همم بني هاشم وبني عبد المطلب ودخولهم جميعاً مسلمهم ومشركهم في حلف الدفاع وحركت كوامن نصرة العصبية فيما بعد عند كل ما يتعلق ببني هاشم بنسب أو قرابة، مع ضرورة التأكيد أن حماية بني هاشم للنبي صلى الله عليه وسلم ودفاعهم إنما كان حمية للقبيلة لا نصرة للإسلام والدعوة، ومع ذلك قبل الرسول تلك الحماية ودخل معهم في الحلف، بل هو كان قلب الحلف وأساسه وموضوعه الأساسي، ليبين لنا جواز الاستفادة من الأعراف والتقاليد الجاهلية من أجل خدمة الإسلام وتطويعها لتكون وسيلة من وسائل الجهاد ورد عدوان الكافرين.
كانت استراتيجية أبي طالب في الرد على تصعيد المشركين لوتيرة العداء للرسول صلى الله عليه وسلم وعزمهم على قتله نهاراً جهاراً.. كان لها أثر كبير في جنبات مكة؛ إذ تحالف بنو عبد المطلب وبنو هاشم جميعهم مؤمنهم وكافرهم على الدفاع عن النبي صلي الله عليه وسلم حتى الموت، وعندها أيقن المشركون أن التعرض لشخص رسول الله؛ بالإيذاء أو القتل سيؤدي إلى حمامات دم تباد خلالها معظم بطون قريش، فقرر المشركون الوصول بمواجهة الدعوة الإسلامية لأعلى درجة وأعلى مستوى، وهو مستوى الحصار العام والمقاطعة الشاملة أو بلغة العصر حرب إبادة كاملة.
روى ابن إسحاق في السيرة بسند صحيح عن الزهري: "فلما عرفتْ قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق؛ فلا يتركوا لهم طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرًا واغتيالاً له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فأضجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه.
وفي رواية أخرجها البيهقي في الدلائل بسند صحيح: "لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه وهم عن خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه، فلما فعلت بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم عن بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديدًا".
وكان الذي تولى كتابة الصحيفة الظالمة منصور بن عكرمة فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده وصار عبرة للعالمين، وكان الاستثناء الوحيد من بني هاشم وبني المطلب هو أبو لهب حيث ظاهر قريش على عشيرته.
حادثة المقاطعة العامة من حوادث التاريخ الإسلامي الكبرى، بل من حوادث التاريخ الإنساني الكبرى؛ إذ كانت طريقة فريدة وغير مسبوقة في مواجهة الدعوات، فلأول مرة في التاريخ العربي تطبق سياسة الحصار الاقتصادي العام بصورة شديدة الصرامة، ولخطورة تلك الحادثة وأهميتها كان لابد من دراسة بنود وثيقة المقاطعة بنداً بنداً وقرأءتها قراءة جديدة وبفكر استراتيجي ومن خلال هذه القراءة يتضح لنا عدة أمور:
الأمر الأول: أن بنود الوثيقة قد وضعت بإتقان وإحكام وعناية شديدة تكشف عن دراسة طويلة وعميقة وتشاور وتباحث مكثف، ولم تكن مجرد رد فعل على تحالف بني هاشم وبني المطلب على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك الأمر يعني أن فكرة المقاطعة العاملة لم تكن وليدة الموقف بل كانت في حسابات المشركين وربما إعدادها كان سابقاً لخطوة أبي طالب، وذلك يدل على مدى تخطيط المشركين وتفكيرهم في محاربة الدعوة الإسلامية.
الأمر الثاني: أن بنود الوثيقة قد شملت مناحي الحياة كلها ولم تكن قاصرة على الجانب الاقتصادي فقط كما يفهم الكثيرون وتصور على أنها مقاطعة اقتصادية، فقد شملت الجوانب الاجتماعية والإنسانية أيضاً، ويظهر ذلك في تحريمهم مجالستهم والسلام عليهم ودخول بيوتهم ومناكحتهم، وفى ذلك قطع مبرم لكل أسباب التواصل التي قد تفضي للإخلال بتنفيذ بنود المقاطعة؛ فالمجالسة والسلام والضيافة والنكاح كلها أمور اجتماعية رحبة تشيع جو من الألفة والمودة أو على أقل تقدير تفتح مجالاً للنقاش وتبادل الآراء وسماع وجهات النظر، وهو ما لا يريده المشركون أبداً؛ لعلمهم اليقيني بعلو كعب المسلمين في الحجة والبيان، وكانت سياسة المشركين الثابتة منذ بداية الدعوة منع الناس من الجلوس للنبي صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه، لذلك فقد استفاد المشركون من رصيد تجربتهم في محاربة الدعوة الإسلامية، فلما وضعوا بنود وثيقة المقاطعة حرصوا على أن تشتمل كل التدابير اللازمة لقطع الصلات بصورة كاملة مع المسلمين.
الأمر الثالث: أن بنود الوثيقة قد حوت بنوداً تتكلم عن بعد خارجي؛ لتنفيذ المقاطعة وهو البند الذي يقطع الطريق على المسلمين في التعامل مع التجار القادمين من خارج مكة، وذلك عن طريق رفع الأسعار عليهم؛ لقطع أسباب الرزق عنهم، فتنقطع بالمسلمين السبل، ويصل بهم الحال لأنْ يأكلوا أوراق الشجر وحشائش الأرض.
الأمر الرابع: أن بنود الوثيقة قد صيغت بطريقة شديدة الإحكام؛ لتنفيذ هدف واحد لا غير وهو تسليم النبي صلى الله عليه وسلم للقتل، وقطع الطريق على ما دون ذلك من أنصاف الحلول، لذلك جاء من ضمن البنود "لا تقبلوا لهم صلحًا أبدًا"، وجاء أيضاً "ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل"، وهذا التصعيد الخطير من جانب قريش يكشف عن يأس المشركين التام من إيقاف الدعوة الإسلاميين من التمدد والانتشار.
الأمر الخامس: أن بنود الوثيقة قد شنت أسلوب العقاب الجماعي كطريقة خبيثة تستهدف خنق الدعوة الإسلامية بحصار أهلها، سار عليها بعد ذلك أعداء الإسلام عبر العصور، وبرزت بقوة خلال الصراع بين أسبانيا النصرانية ودولة الإسلام في الأندلس، ثم أخذت في وقتنا الحاضر شكل العالمية والدولية وذلك بعد أن تسلطت أمريكا الصليبية على الهيئات والمؤسسات الدولية ووجهتها نحو استصدار قرارات جائرة وظالمة بمقاطعة بعض الدول الإسلامية وحصارها مثل ما حدث في العراق والسودان وسوريا ثم قمة الطغيان في حصار غزة الخانق الذي تجلت فيه كل مظاهر العداء والكره للإسلام والمسلمين.
الأمر السادس: يظهر في صنع الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وحدب عمه أبي طالب عليه بكل ما أوتي من قوة بحيث أنه يحشد كل الوسائل اللازمة للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذ كل التدابير اللازمة؛ للحفاظ على سلامته صلى الله عليه وسلم حتى أثناء نومه، ثم صنع الله عز وجل لنبيه بصمود أهله وعشيرته وأتباعه المؤمنين على ذلك الحصار الخانق الذي وصل بهم الحال فيه لئن يأكلوا كل شيء حتى التراب.
الأمر السابع: في أمر الوثيقة تتمثل في رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ فعلى الرغم من كثرتهم العددية -نسبياً- إلا أنهم رفضوا التورط في صِدام مسلح مع المشركين، وأثاروا الصمود والصبر والثبات في أدب سامي وخلق راقي في الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الرد على عدوان قريش، وكان من السهل أن يورط أحدهما في قتال قد لا يحمد عقباه.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه في الشعب محاصرين ثلاث سنوات كاملة قاسوا خلالها من ويلات الحصار ما لم تشهده العرب ولا الإنسانية من قبل حتى قيض الله عز وجل من مشركي مكة أنفسهم من مشى في نقد تلك الصحيفة الظالمة الجائرة، وكانت هناك محاولات عديدة لكسر الحصار على المسلمين؛ فقد أخرج ابن إسحاق في السيرة بسند صحيح: "فقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سراً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش وقد كان أبو جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البحتري بن هشام وتقاول مع أبي جهل ثم اشتبك وضربه ضرباً شديداً...".
وأخرج ابن إسحاق أيضا: "ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث، فقد كان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا شرف في قومه، فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جانبيه فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به وقد أوقره براً فيفعل به مثل ذلك...".
ويتضح من تلك الروايات كراهية عقلاء قريش لذلك الحصار القاسي ومبادرة بعضهم بفك الحصار عن المحاصرين. ولأن الحصار كان حصاراً جماعياً عاماً شاملاً لكل مناحي الحياة؛ فقد كان فك ذلك الحصار يحتاج لقرار جماعي ولا يكفي فيه المبادرات الفردية، وكان أول من فكر في جماعية فك الحصار هو هشام بن عمرو بن الحارث الذي سعى في حشد الرأي العام داخل المجتمع القريشي ضد الحصار، واستطاع أن يستقطب العديد من الشخصيات الهامة ذات الوجاهة والمكانة داخل المجتمع القريشي مثل زهير بن أبي أمية بن المغيرة، والمطعم بن عدي، وأبي البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود.
وبنظرة سريعة للأسماء التي تعاهدت على فك الحصار نجدها من شتى بطون قريش ومن ذوي الوجاهة والشرف، وأيضاً لم يكونوا من المشهورين بعداوة الدعوة الإسلامية، أي بعبارة أخرى لم يكونوا من أكابر مجرميها، وبالتالي يسهل إقناعهم بالجور والظلم البين لميثاق المقاطعة والحصار، وفي ذلك درس وعبرة للدعاة إلى دين الله في البلاد الغربية أن يحاولوا التركيز في دعوتهم وخطابهم على عقلاء الغرب وعدم افتعال صدامات لا داعي لها؛ لأنها تورث الدعوة والدعاة أعداء وخصومات كانوا في غنى عنها.
وإضافة للجهد البشري المبذول في فك الحصار من بعض عقلاء قريش كانت صحيفة المقاطعة على موعد مع معجزة إلهية تجلت فيها قدرة الله عز وجل وحكمته في نقد تلك الصحيفة وفي ذلك الوقت تحديداً؛ فقد أخرج ابن هشام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: "يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان" فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: "نعم" قال: فو الله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا فهلم صحيفتكم فإذا كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي فقال القوم: قد رضينا. فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً، فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
ولكن ما الحكمة الإلهية في بقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه في الشعب طيلة ثلاث سنوات يعانون خلالها من أقسي ويلات الحصار؟!
حقيقة الحكم الإلهية من تلك الحادثة كثيرة وعظيمة من أبرزها:
1- كسب أنصار جدد للدعوة بسبب إعجاب وإجلال الكثيرين بصمود الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، رغم كل التحديات والصعوبات التي واجهها المحاصرون خلال تلك السنوات الثلاث.
2- تعويد المسلمين وتدريبهم على الصمود والصبر والتحمل في المواقف الصعبة والشدائد، وسيتضح أثر ذلك التدريب والإعداد فيما بعد في مواقف مشابهة مثل يوم الأحزاب ويوم تبوك وما تلى ذلك من مواقف شبيهة أيام الردة والفتوح الإسلامية.
3- بيان أن النصر لا يأتي هكذا سريعا بل لابد من الصبر والثبات والتضحية وبذل الجهد واستفراغ الوسع، وعندها ينزل النصر بحبل من الله وحبل من الناس.
وأخيرا نقول يا عباد الله: إن ما يتعرض له إخواننا المحاصرون في غزة من ويلات حصار قاس وعنيف منذ ثلاث سنوات ليذكرنا بما تعرض له الرسول صلي الله عليه وسلم ومن معه في شعب أبي طالب من حصار قاس وعنيف، وأيضا لمدة ثلاث سنوات، وإذا كان الفرج والانتصار من الله عز وجل لرسوله من معه قد جاء بعد ثلاث سنوات، بعد أن مشى عقلاء المشركين الذين أبت عليهم نفوسهم الحُرَّة مسايرة هذا الظلم والجور، فإن في ذلك بشرى لإخواننا في غزة بقرب الفرج والانتصار بعد أن مرت عليهم السنوات الثلاث، فقد تم الأمر ووقع الأجر واستوت المحنة وطابت المنحة، وها هم أحرار العالم من مسلمين وغيرهم يقودون الأساطيل لفك الحصار عن أهل غزة، وعاد مرة أخرى للظهور رجال من عينة زهير بن أبي أمية وهشام بن عمرو الهاشمي والمطعم بن عدي ولكن بأسماء أوروبية وأجنبية يقودهم قادة الإسلام الجدد -الأتراك-؛ ليقودوا ملحمة لكسر الحصار عن غزة، فالحصار واحد والمدة واحدة والمحاصرون أمة واحدة، لذلك فالفرج يكون بمشيئة الله عز وجل في آن واحد؛ فأبشروا واستبشروا يا أهل غزة فهذا أوان الانتصار والفرج.