القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أشعثُ الرأسِ، أغبرُ القدمِ، ومن كانت هذه حالُه فإنه غالباً يكونُ في تذللٍ وخضوعٍ، تسبقُ كلماتِه...كانَ نساءُ السلفِ رحمهُن اللهُ إذا أرادَ زوجَها أن يخرجَ إلى تجارتِه أو عملِه تقولُ له: "اتقِ اللهَ ولا تطعمْنا حراماً، فإنا نصبرُ على الجوعِ في الدنيا، ولا ...
الخطبة الأولى
إن الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالنِا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
(وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
أما بعد:
ها هو كما أخبرَ عنه النبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ، قد تكاثرتْ عليه الهمومُ، وأحاطتْ به الغمومُ، وضاقتْ عليه الأرضُ بما رَحُبَتْ، فعلِمَ أن له رباً يسمعُ النداءَ، ويجيبُ الدعاءَ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
وقد أمرَ عبادَه بسؤالِه فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
بل يغضبُ على من تركَ الدعاءَ؛ كما قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ".
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ | وَتَرَى اِبْنَ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ |
قد اجتمعتْ فيه كثيرٌ من أسبابِ استجابةِ الدعاءِ، فها هو قد طالَ به السفرُ، وقد قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ، ومنها دَعْوَةُ الْمُسَافِرِ".
أشعثُ الرأسِ، أغبرُ القدمِ، ومن كانت هذه حالُه فإنه غالباً يكونُ في تذللٍ وخضوعٍ، تسبقُ كلماتِه الدموعُ، و"رُبَّ أَشْعثَ أغبرَ مدْفُوعٍ بالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسمَ عَلَى اللَّهِ لأَبرَّهُ"، بلغَ به الكربُ أقصاه، فتذكرَ: "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ".
رفعَ يديه إلى السماءِ، ينتظرُ ما عندَ اللهِ من العطاءِ، وقد قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ".
فلن تخيبَ يَدانِ رُفِعتْ إلى من بيدِه خزائنُ السماواتِ والأرضِ، الذي قالَ عن نفسِه: "يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ"، فلا ينقصُ من مُلكِه شيءٌ ، كما لا ينقصُ البحرُ إذا أُدخلتْ فيه الإبرةُ الصغيرةُ الصقيلةُ التي لا يتعلقُ بها الماءُ، وقالَ عنه أعرفُ الناسِ به صلى اللهُ عليه وسلمَ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ".
ابتدأ الدعاءَ، بما جاءَ به الأنبياءُ: "يَا رَبِّ، يَا رَبِّ"، بدأها آدمُ عليه السلامُ حينَ قال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
وختمَها محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلمَ بقولِه: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].
في سؤالِه إلحاحٌ وتكرارٌ، مُتَّبِعاً سُنةَ النبيِ المختارِ، كما في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه أن النبيَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "كَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا".
أخلَصَ في دعاءِه: "يَا رَبِّ"، فلم يدعُ مع اللهِ تعالى نبياً مُرسَلاً، ولا مَلَكَاً مقرباً، ولا ولياً صالحاً؛ كما أمرَ اللهُ تعالى في كتابِه: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر: 14].
ذلك الإخلاصُ الذي لو كان في دعوةِ مشركٍ لاُستجيبَ له: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65].
تذكَّرَ رحمةَ اللهِ التي وسِعتْ كلَ شيءٍ، حتى أنه استجابَ لإبليسَ لمَّا دعاه: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [ص: (79-81].
فإذا كانَ هذا فعلُه مع الشيطانِ اللَّعينِ، فكيف يكونُ عطاءُه لعبدِه المسكينِ؟.
يا أهلَ الإيمانِ: كلُّ هذا، ومع ذلكَ لم يستجبِ اللهُ دعاءَه، أتدرونَ لماذا؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة(172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ".
أستغفرُ اللهً لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أحلَ الطيباتِ من الرزقِ، وحرّمَ الخبيثَ منه، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عبادَ اللهِ: قد تنوعتْ طرقُ أكلِ الحرامِ في هذا الزمانِ، وأصبحتْ سهلةً جداً، حتى صارتْ أسهل من أكلِ الحلالِ، والمصيبةُ الأعظمُ أنها تُسمى بغيرِ اسمِها، زوراً وخداعاً للذين يخافونَ اللهَ تعالى ولا يقبلون بالحرامِ ولو ماتوا جوعاً، وجاءَ الزمانُ الذي قالَ فيه النبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ، لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ: أمِنَ الحلالِ أم من الحرامِ".
فيُسمونَ الرِبا الصُراحَ، فوائدَ وأرباحَ
معاملاتٌ في البنوكِ ربويةٌ، يكتبون عليها "مطابقٌ للشروطِ الشرعيةِ".
الرشوةُ الملعونةُ، يُطلقُ علها مساعدةٌ ومعونةٌ
خِداعُ الناسِ في التجارةِ، تُسمى ذكاءٌ وشطارةٌ
فتحٌ لمحلاتٍ كاذبةٍ، تأجيرٌ لعَمَالةٍ سائبةٍ، أكلٌ لأموالِ الناسِ بالباطلِ، ما بينَ مُخادعٍ ومماطلٍ، غشٌ وتغريرٌ.
اختلاسٌ وتزويرٌ، تقصيرٌ في العملِ وفي الحضورِ، بيعٌ للحرامِ والفجورِ.
فيا عبادَ اللهِ تذكروا قولَ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "كُلُّ لَحمٍ نَبَتَ مِنَ الحَرامِ فالنّار أولى بِهِ".
كانَ نساءُ السلفِ رحمهُن اللهُ إذا أرادَ زوجَها أن يخرجَ إلى تجارتِه أو عملِه تقولُ له: "اتقِ اللهَ ولا تطعمْنا حراماً، فإنا نصبرُ على الجوعِ في الدنيا، ولا نصبرُ على حرِّ النارِ في الآخرةِ".
اللهم أغننا بحلالِك عن حرامِك، وبطاعتِك عن معصيتِك، وبفضلِك عمن سواك، اللهم لا تكلْنا إلى أنفسِنا طرفةَ عينٍ.