النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | أبو عبد الله الأنصاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات |
الحرام من القوت نار تذيب شحمة الفِكْر، وتذهب لذة حلاوة الذكر، وتحرّق ثياب إخلاص النيّات، ومن الحرام يتولد عمى البصيرة وظلام السريرة، وروي في حديث: "أن ملَكا على بيت المقدس ينادي كل يوم وكل ليلة: من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا"، الصرف: النافلة، والعدل....
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة" [رواه أحمد والطبراني وإسنادهما وصححه الألباني].
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلّا من قال بالمال هكذا وهكذا، وكسبه من طيّب".
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب أخذ الحلال وترك الحرام"[رواه ابن حبان وصححه الألباني].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلَّ، ودعوا ما حرُم " [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه، فلا يستبطئن أحد منكم رزقه، فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله - أيها الناس - وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته " [رواه الحاكم وصححه الألباني].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله".
وفي رواية: "إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت" [رواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد حسن].
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة عائرة فأخذها فناولها سائلا، فقال: "أما إنك لو لم تأتها لأتتك" [رواه الطبراني].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملِك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه " [رواه ابن حبان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء" قال قلنا: يا نبي الله إنا لنستحيي والحمد لله، قال: " ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
ولقد كان لأسلافنا شأن عظيم في توقي اللقمة الحرام؛ حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: "لأن يجعل أحدكم في فِيه تراباً خيرٌ من أن يجعل في فيه حراماً".
وقال عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: " لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ".
وعن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج - أي قد كاتبه على مال - وكان يجيئه كل يوم بخراجه فيسأله: من أين أتيت بها؟ فإن رضيه أكله، وإلا تركه، قال فجاءه ذات ليلة بطعام وكان أبو بكر صائما، فأكل منه لقمة ونسي أن يسأله ثم قال له: من أين جئت بهذا؟ فقال: كنت تكهنت لأناس بالجاهلية وما كنت أحسن الكهانة إلا أني خدعتهم فقال أبو بكر: أف لك كدت تهلكني! ثم أدخل يده في فيه فجعل يتقيأ ولا يخرج فقيل له: إنها لا تخرج إلا بالماء فدعا بماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى قاء كل شيء في بطنه، فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ فقال رضي الله عنه: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به "، فخشيت أن ينبت بذلك في جسدي من هذه اللقمة.
وفي رواية أنه قال: " لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالطه الأمعاء ".
وشرب عمر لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا ؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء، وكان عمر رضي الله عنه يقول: " كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام ".
وقال عياض بن غنم - أمير عمر على حمص - لبعض أقربائه: " فوالله! لأن أُشقَّ بالمنشار أحبُّ إليَّ من أن أخون فلساً أو أتعدَّى! ".
وكانت بعض الصالحات توصي زوجها، وتقول: يا هذا اتق الله في رزقنا، فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.
أولئك هم الصالحون يُخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم، ويحذرونه على أنفسهم وأهليهم، وقد دخل عليهم من غير علمهم، وخَلَفَت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملأوا به بطونهم وبطون أهليهم.
وعن مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ رحمه الله أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ: " مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبِيتَ حِينَ تَبِيتَ وَأَنْتَ نَقِيَّ الْكَفِّ مِنَ الدَّمِ الْحَرَامِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ الْحَرَامِ، خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ فَافْعَلْ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْكَ: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الشورى: 42] وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ ".
قال الغزالي رحمه الله: "رأس المعاصي أكل الحرام ".
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ أمن الحلال أم من الحرام".
ولقد وصلنا والله إلى هذا الزمان ووجد - ممن لا يخاف الله - مَن لا يبالي من أين اكتسب المال، بل لا يكون همه إلا الحصول على المال ولو كان سحتا وحراما، من سرقة أو رشوة أو غصب أو تزوير، أو بيع محرم أو مراباة، أو أكل مال يتيم، أو أجرة على عمل محرم ككهانة وفاحشة وغناء أو اعتداء على بيت مال المسلمين، أو تلصص على المال العام، أو غش في البيع والشراء أو البيع والشراء بالحلف الكاذبة أو الصادقة، أو أخذ مال الغير بالإحراج، أو الدَّين أو سؤال الناس أموالهم بغير حاجة، ونحو ذلك، ثم هو يأكل منه ويلبس ويركب ويبني بغير تحرج ولا مبالاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به" [رواه الطبراني وصححه الألباني].
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع ألّا يأكل إلّا طيّبا فليفعل" [رواه الطبراني وصححه الألباني].
وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه" [رواه البيهقي وحسنه الألباني].
قال بعض العلماء: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة ولا يتم بعضها إلا ببعض: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى في الأعمال، وطيب المطعم.
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس، فقال: " لا واللّه! ما أخشى عليكم، أيّها النّاس إلّا ما يخرج اللّه لكم من زهرة الدّنيا".
وفيه أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: " فمن يأخذ مالا بحقّه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالا بغير حقّه فمثله كمثل الّذي يأكل ولا يشبع" [متفق عليه].
وَفِي النَّاسِ مَن ظُلمُ الوَرَى عَادةٌ لهُ | وَيَنْشُرُ أَعَذارًا بها يَتَأوَّلُ |
جَرِيءٌ على أَكِل الحرامِ ويدَّعِي | بأنَّ لهُ في حِلَّ ذلك مَحمَلُ |
فَيَا آكِلَ المَالِ الحرامَ أَبِنْ لَنَا | بأي كتابٍ حِلُّ ما أَنتَ تَأكلُ |
ألمْ تَدْرِ أن اللهَ يَدْرِي بما جَرَى | وبين البَرايَا في القِيامةِ يَفصلُ |
حَنَانِيْكَ لا تَظلِمْ فإنَّكَ ميتٌ | وبالموتِ عَمَّا قدْ تَوليتَ تُسألُ |
وَتَوقَفُ لِلْمظلُومِ يَأخذٌ حقَّهُ | فَيَأخُذُ يومَ العرضِ ما كُنت تَعملُ |
وَيأخذُ من وزرِ لمنْ قَد ظَلمتهُ | فيأخذُ يومَ العرضِ ما كُنت تَعمَلُ |
فَيأخذُ منك اللهُ مَظْلمةَ الذِي | ظَلمتَ سريعًا عاجلاً لا يُؤجَّلُ |
تَفرُّ من الخَصمِ الذِي قَدْ ظَلَمْتَهُ | فَيأخُذُ يَومَ العَرْضِ ما كُنتَ تَعْمَلُ |
تَفِرُّ فَلا يُغْنِي الفِرَارُ من القَضَا | وَأن تَتوجَّلْ لا يُفيدُ التَّوجلُ |
فَيقتصُ مِنكَ الحقَّ من قَد ظَلمتَهُ | بلا رأفةٍ كلاَّ ولا منك يَخجلُ |
الخطبة الثانية
معاشر الناس: يقول ابن الجوزي -رحمه الله -: " فالحرام من القوت نار تذيب شحمة الفِكْر، وتذهب لذة حلاوة الذكر، وتحرّق ثياب إخلاص النيّات، ومن الحرام يتولد عمى البصيرة وظلام السريرة، وروي في حديث: أن ملَكا على بيت المقدس ينادي كل يوم وكل ليلة: من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "، الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة.
نعم أيها الكرام: فللمال الحرام عقوبات تصيب آكله، ولو لم يكن منها إلا أن الله لا يقبل من آكل الحرام عملا صالحا ولا صدقة؛ كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جمع مالا حراما، ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه "[رواه ابن خزيمة وحسنه الألباني].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " بل من أنفق من الحرام فإن الله تعالى يذمه، ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة ".
وعن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: "لا يقبل اللّه صلاة امرئ في جوفه حرام".
قال سفيان الثوري: "من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، كيف يقبل من آكل الحرام عمل، أو يرفع له دعاء، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
وقال وهب بن الورد: " لو قمتَ قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يقبل الله صلاة امرئ وفي جوفه حرام حتى يتوب إلى الله تعالى منه ".
وروي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء، قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن جهاده مع أكل الحرام لا ينفعه.
وروي عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول: خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة، أجعلُ كسبه من غير حِلٍّ، إن تزوج تزوج من حرام، وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام ا. هـ.
إذا حججتَ بمالٍ أصلهُ دنسٌ | فما حججتَ ولكنْ حَجَّتِ العِيرُ |
لا يقبلُ الله إلاّ كلَّ طَيِّبَة | ٍ ما كلُّ مَنْ حَجَّ بيتَ الله مَبْرُورُ |
قال الغزالي: العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وإن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها، وقال: العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار.
قال ابن كثير عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]: "والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدّعاء والعبادة، كما أنّ الأكل من الحرام يمنع قبول الدّعاء والعبادة".
وقال ابن رجب - عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51]: "المراد بهذا أنّ الرّسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطّيّبات الّتي هي الحلال، وبالعمل الصّالح، فمتى كان الأكل حلالا فالعمل الصّالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا؟".
فاتقوا الله -يا معاشر الناس-: وطهروا مكاسبكم من الحرام، ومن المشتبه بالحرام، حتى يبارك الهّ لكم مكاسبكم، ويصلح عملكم، ويتقبل طاعتكم فإنه تعالى لا يتقبل إلا من المتقين.