الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن محمد الهرفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أُذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت, فقرَّتْ أعينُهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته, فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته..
الخطبة الأولى :
الحمدُ لله بمَجامِع مَحامِده التي لا يُبْلَغُ مُنتَهاها، والشُّكْرُ له على آلائِهِ وإن لم يَكُن أحدٌ أحصاها، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهادَةَ مُحَقِّقٍ لأِصُولِهَا مُحيطٍ بِمَعْنَاهَا، وَأَشْهَدُ أنَّ محمَّدًا رَسُولٌ حَلَّ مِنْ رُبَا النبوَّةِ أَعْلاَهَا فَعَلاَهَا، وَحَمَلَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَة إِدَّهَا فَاضْطلَعَ بِهَا وَأَدَّاهَا، فجلا اللهُ بِهِ عن البصائرِ رَيْنَهَا، وعن الأبصارِ عَشَاهَا، صَلَّى اللهُ عليه من الصلواتِ أفضَلَهَا وأزكَاهَا، وأبلَغَهُ عنَّا من التحياتِ أكمَلَهَا وأَوْلاَهَا، ورَضِيَ اللهُ عن عِتْرَتِهِ وأزواجِهِ وصحابتِهِ ما سَفَرَتْ شمسٌ عن ضُحَاهَا، وبعدُ:
فيا عبادَ الله: إن من الأدعية التي نكررها في كل صلاة التحيات، ولعل الكثير منّا لم يقفْ على المعاني الجليلة التي تحملها هذه الكلمات العظيمة، فنحاول أن نقفَ باختصار مع هذا الدعاء العظيم والذكر الجليل، فتعالوا بنا نؤمن ساعة.
وأول ما نبدأ به هو أن للتحيات صِيَغٌ كثيرةٌ قالها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "وكل ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشهدات، فإنه يصحُّ الصلاةُ به، حكى طائفةٌ الإجماع على ذلك، لكن اختلفوا في أفضل التشهدات"، فاختار الإمام أحمدُ وغيرُه لفظ ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ, السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ, السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ, أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
هذا هو التشهد الأول، وسبب اختيار ألفاظ ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمور:
أولاً: ضبطُ ابن مسعود لألفاظها وقد أكد هذا بقوله: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ".
ثانياً: اتفاقُ الإمام البخاري والإمام مسلم على إخراجها في الصحيحين.
ثالثاً: إنَّ كلَّ من روى التشهدَ من الصحابة ذكر ألفاظَ ابن مسعود وزاد عليها, فألفاظها محفوظةٌ متفقٌ عليها بين الرواة.
رابعاً: عنايةُ الصحابة ومّنْ بعدهم بصيغة ابن مسعود, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فذهب الأكثرون إلى ترجيح تشهُّدِ ابن مسعود وتفضيلِه، والأخذ به وقد روى ابن عمر، أنَّ أبا بكر الصديق كان يعلمهم على المنبر كما يُعلم الصبيان في الكُتَّاب، ثم ذكره بمثل تشهد ابن مسعود".
وقال أبو إسحاق، عن الأسود: "رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله، كما يتعلم السورة من القرآن". وذكر الترمذي أن العمل على تشهد ابن مسعود عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأنه قولُ الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وأهل الرأي وكثير من أهل المشرق وحكاه ابن البر عن أكثر أهل الحديث.
نقف الآن مع بعض معاني التشهد: فالتحيات جمع التحية وهي الملك و قيل: السلام و قيل: العظمة و قيل: البقاء.وقال الخطابي والبغوي: "المراد بالتحيات لله أنواع التعظيم له". وقيل:"التحيات لله"هي أسماء الله سبحانه وتعالى: السلام، المؤمن،المهيمن، الحي، القيوم، الأحد، الصمد، يريد التحية بهذه الأسماء لله عز وجل.
وفسرت بالرحمة، وفسرت بالصلوات الشرعية، فيكون ختام الصلاة بهده الكلمة كاستفتاحها بقول: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162], قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فلما أكمل المصلي ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها وتكبيرها, شرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشِّع المتذلِّل المستكين جاثيا على ركبتيه, ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها عوضاً عن تحية المخلوق للمخلوق إذا واجهه أو دخل عليه, فإن الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يحيون بها قلوبهم، فبعضُهم يقول: "انعم صباحا"، وبعضهم يقول: "لك البقاءُ والنعمة" وبعضهم يقول: "أطال الله بقاءك"، وبعضهم يقول: "تعيش ألف عام"، وبعضهم يسجد للملوك، وبعضهم يسلم، فتحياتهم بينهم تتضمن ما يحبه المُحيى من الأقوال والأفعال, والمشركون يحيون أصنامهم، قال الحسن: كان أهلُ الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون لك الحياة الدائمة فلما جاء الإسلام أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله, فالتحية هي تحيةٌ من العبد للحي الذي لا يموت وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام ولا يستحق أحدٌ هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه".ا.هـ
وقوله:"لله"في هذا الموضع تنبيه على الإخلاص في العبادات؛ أي: ذلك كلُّه من الصلوات والأعمال -لا تُفعل- إلا لله. ويجوز أن يراد به الاعتراف بأن مَلْكَ ذلك كله لله تعالى.
أما معنى الصلوات فقد قيل المراد الخمس أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة, وقيل العبادات كلها وقيل المراد الرحمة, وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية والطيبات الصدقات المالية.
وقال الشيخ تقي الدين الدجوي: "والصلوات يُحتمل أن يُرادَ بها الصلوات المعهودة، ويكون التقدير إنها واجبة لله، ولا يجوز أن يُقصدَ بها غيرُه, أو يكون ذلك إخبارا عن قصد إخلاصنا الصلوات له, أي: صلاتنا مخلصة له لا لغيره؛ ويجور أن يراد بالصلوات الرحمة، ويكون مبنى قوله "للّه" أي: المتفضِّل بها والمُعْطي هو الله؛ لأن الرحمة التامة لله تعالى لا لغيره".
(والطيبات) أي ما طاب من الكلام وحسُنَ أن يُثنى به على الله تعالى, دون ما لا يليقُ بصفاته مما كان الملوك يحيون به ,وقيل الطيبات ذكرُ الله وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم، وقال الشيخ تقي الدين الدجوي: "الطيبات من الأفعال والأقوال والأوصاف؛ وطيب الأوصاف كونها صفة الكمال وخلوصها عن شوائب النقص".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "أما الطيبات: فتعني الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده, فهو طيب وأفعاله طيبة وصفاته أطيب شيء وأسماؤه أطيب الأسماء واسمه الطيب, ولا يصدر عنه إلا طيبٌ ولا يصعد إليه إلا طيبٌ ولا يقرب منه إلا طيب, وإليه يصعد الكلم الطيب, وفعلُه طيبٌ والعمل الطيب يعرج إليه, فالطيبات كلُّها له ومضافةٌ إليه وصادرةٌ عنه ومنتهيةٌ إليه قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله طيّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيّباً" أخرجه مسلم، وأخرج أبو داود وغيره: " أنت ربُّ الطَّيِّبين" ولا يجاوره من عباده إلا الطيبون كما يقال لأهل الجنة (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73], وقد حكم سبحانه شرعه وقدره أن الطيبات للطيبين, فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق فالكلمات الطيبات والأفعال الطيبات والصفات الطيبات والأسماء الطيبات كلُّها له سبحانه لا يستحقها أحدٌ سواه, بل ما طاب شيءٌ قط إلا بطيبته سبحانه فطيب كل ما سواه من آثار طيبته ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له".
قوله:"السلامُ عليك أيها النبيّ"، قيل: معناه: التعوذ باسم الله الذي هو السلام كما تقول: الله معك أي: الله متوليك وكفيل بك، وقيل: معناه: السلامة والنجاة لك كما في قوله تعالى (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [الواقعة: 91]. وذكر الفخْر الفارسي: "معنى السلَام على النبَي عَليه السلام أي: اسم الله عليك، وتأويله: لا خلوت من الخيرات والبركات، وسَلِمْتَ من المكاره والمذامّ والآفات، فإذا قلنا: اللهم صلي على محمد إنما نُريدُ: اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته، وذكره السلامةَ من كل نقص". وقال ابن الأثير: "سلامٌ عظيمٌ لا يُدرك كُنهه، ولا يعرف قدره". وقيل:"السلام عليك" أي: الانقياد لك، والتسليم لك".
قوله: "وبركاته" البركات: جمع بركة؛ وهي: الخير الكثير من كل شيء؛ واشتقاقُه من البَرَك وهو الإبل الكثير. فإن قيل: لماذا استعملنا لفظ الحاضر فقلنا عليك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس معنا وقد مات؟ أجاب الطيبي بما محصله: "نحن نتَّبِعُ لفظَ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة. ويحتمل أن يقال: "إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أُذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت, فقرَّتْ أعينُهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته, فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
وقال الإمام ابن القيم كلاما بديعا في هذا المعنى: "يظهر مما تقدم أن الصلاة عليه طلبٌ وسؤالٌ من الله أن يصلي عليه, فلا يمكن فيها إلا لفظُ الغيبة إذ لا يقال: اللهم صل عليك, وأما السلامُ عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلا له منزلة المواجه لحكمةٍ بديعة جدا؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان أحبَّ إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه وأولى به منها وأقرب, وكانت حقيقتُه الذهنيةُ ومثالُه العلمي موجودا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا شخصُه "كما قال القائل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي | ومثواك في قلبي فأين تغيب |
ومن كان بهذه الحال فهو الحاضر حقاً, وغيره وإن كان حاضراً للعيان فهو غائبٌ عن الجِنان, فكان خطابُه خطابَ المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة تنزيلا له منزلة المواجه المعاين, لقربه من القلب وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزءٌ إلا ومحبتُه وذكرُه فيه".
قوله: "السلام علينا" أراد به الحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة عليهم السلام.
قوله: "وعلى عباد الله الصالحين" قال صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"، قال الزجاج وغيره: الصالح: "القائم بحقوق الله وحقوق عباده". ولفظ "الصالح" خلاف الفاسد؛ فإذا أُطلق فهو الذي أصلح جميع أمره فلم يكن فيه شيءٌ من الفساد, فاستوت سريرتُه وعلانيتُه وأقوالُه وأعمالُه على ما يرضي ربه؛ وهذا يتناول النبيين ومن دونهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله القائل (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18], وصلى الله عليه وسلم على عبده القائل: " لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا وُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ" أما بعد:
فنكمل تعليقاتٍ يسيرة على ما بقي من التشهد الأول: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" قال أهل اللغة: يُقال: رجلٌ محمد ومحمودٌ إذا كثرت خصالُه المحمودة. وقال ابن الفارس: "وبذلك سمى نبينا محمداً يعني: لعلم الله تعالى بكثرة خصاله المحمودة". قال العينى رحمه الله: "الفرق بين محمد وأحمد أن محمداً مُفعّل للتكثير، وأحمدُ أفعل للتفضيل، والمعنى: إذا حمدني أحد فأنت أحمدُ منهم، وإذا حمدتُ أحدا فأنت محمد".
عباد الله:
هذه كانت وقفات يسيرة مع كلمات نكررها في كل صلاة وقصدنا التنبيه والتذكير، ولعلنا أن نقفَ مع باقي التشهد في خطب قادمة بإذن الله تعالى.