الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- ولازموا الاستغفار، ذلك أن الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العابد لله، والعارف بالله، في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة، يزداد علما بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه، وشرابه، ونومه، ويقظته، وقوله، وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، فهو يحتاج...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: يقول الله -تعالى- في كتابه العزيز: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
ويقول: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ)[الحجر: 49-50].
وقال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) [الكهف: 58].
وقال: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: 14].
وقال: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) [غافر: 3].
وقال: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [ص: 66].
الغفور، الغفار، غافر الذنب، يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، قابل التوب، الغفور الرحيم، ذو الرحمة، أسماء حسنى وصفات كمال، ونعوت جلال وأفعال، حكمة وإحسان وجود، كلها للكبير المتعال.
وها هو ينادينا بأشرف مقامٍ نبلغه وهو مقام عبوديته؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ -تبارك وتعالى- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ" [رواه الترمذي].
ولفظ أحمد: "يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي بِقُدْرَتِي، غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي.." [قال أحمد شاكر حديث صحيح].
وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ -تبارك وتعالى-: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"[رواه الترمذي وصححه الألباني].
أيها الإخوة: إن الله -تعالى- خلق الكائنات بكن فيكون، إلا أشياءَ لشرفها وكرامتها على الله خلقها بيده، وكتب أشياءَ لكرامتها عليه بيده، فخلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب كتاب الرحمة بيده -وهي متضمنة للغفران-، فما أعظم كرم الرحمن؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"[رواه بن ماجة وقال الألباني حسن صحيح].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي"[رواه البخاري ومسلم].
أيها الإخوة: دعا الله إلى المسابقة والمسارعة إلى الجنة، ودعا قبلها إلى المغفرة، فيا لعظم المغفرة حين يساوي الله بين الدعوة إلى الجنة والدعوة إليها، وهي المقدمة للجنة، قال الله -عز وجل-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
ويقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
نعم أحبتي: أفقٌ وضئ أفقُ المغفرة، وغايةٌ سامية تستحقُ المسارعة والسباق، وأسباب المغفرة كثيرة لا يمكن حصرها في مثل هذا المقام.
وأهمُ هذه الأسباب وأيسرُها: الاستغفار.
ومعناه: طلب الغفران، والغفران تغطية الذنوب والعفو عنها.
وقد أمرنا الله -تعالى- به، وحث عليه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، فقال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) [فصلت: 6].
وأمر الله نبيه بالاستغفار، فقال: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 106].
وقال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ"[رواه أحمد وقال أحمد شاكر صحيح].
وعَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"[رواه مسلم].
قال شيخنا محمد بن عثيمين: "لَيُغَانُ" أي يحدث له شيء من الكتمة والغم، وما أشبه ذلك.
أيها الإخوة: والاستغفار دعا إليه الرسل أجمعون، وبشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المكثرين من الاستغفار بالسرور والجنة؛ فعَنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ" [رواه البيهقي في الشعب والطبراني وحسنه الألباني].
وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:"طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا"[رواه ابن ماجة وصححه الألباني].
ولعظيم فضله داوم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعانا للمداومة عليه، ولنا في رسول الله قدوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ"[رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة، قال الألباني صحيح].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"[رواه مسلم].
وعن زيد مولى رسول الله: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ"[رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه الألباني].
أيها الأحبة: هذا هو الاستغفار فاحرصوا وداوموا عليه، وما أحوجنا إلى الإكثار منه، وما أسهله على من وفقه الله إليه، فهل نعمُر به الأوقات، والخلوات؟
أسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا من المستغفرين، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- ولازموا الاستغفار، ذلك أن الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العابد لله، والعارف بالله، في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة، يزداد علما بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه، وشرابه، ونومه، ويقظته، وقوله، وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ"[رواه أبو داود وأحمد، قال ابن حجر في الأمالي المطلقة: هذا حديث حسن غريب، وضعف الألباني سنده، وحسن آخرون معناه].
أيها الإخوة: ولقد ذكر أهل العلم فوائد كثرة للاستغفار؛ منها: أن الاستغفار يجلب الغيث المدرار للمستغفرين، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم انهارا، ويكون سببًا في إنعام الله -عز وجل- على المستغفرين بالرزق من الأموال والبنين، قال الله على لسان نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10- 12].
كثرة الاستغفار تسهل على العبد الطاعات، وتيسر الرزق، وتزيل الوحشة التي بين الإنسان وبين الله، وتصغر الدنيا في عينه.
ومن فوائده: أن الإنسان يجد حلاوة الإيمان والطاعة، وتحصل له محبة الله، والاستغفار سبب في زيادة العقل والإيمان، وتيسر الرزق وذهاب الهم والغم والحزن، وفيها تحقيق طهارة الفرد والمجتمع من الأفعال السيئة، ومنها: إقبال الله على المستغفر وفرحه بتوبته، ومنها: دعاء حملة عرش الرحمن له.
من فوائد الاستغفار إغاظة الشيطان: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"[رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر، ورواه الحاكم والبيهقي في الأسماء وصححه الألباني].
أحبتي: من أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعات وفرادى: أنه سبب لدفع البلاء والنقم عن العباد والبلاد، ورفع الفتن والمحن عن الأمم والأفراد، لاسيما إذا صدر ذلك عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة؛ قال الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً)[النساء: 110].
وما أحوجنا لهذا في كل وقت، وخصوصاً هذا الوقت لما تمر به الأمن من فتن ومحن، نسأل الله أن يجليها.
أسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من المستغفرين، وأن يلهمنا الاستغفار كما نلهم النفس، وأن يرزقنا التوبة النصوح، إنه جواد كريم.