الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | حمود الصايغ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن هذا البرد الذي نعاني منه ويتمنى البعض سرعة ذهابه إنما هو نَفَس من أنفاس النار وزمهريرها، فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد "الزمهرير"، كما يعذبهم بالحر، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فَأَذِنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف؛ فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشد ما تجدون من الزمهرير". والمراد بالزمهرير شدة البرد، يعذبون بها -والعياذ بالله-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أمر بالتذكير فقال: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف النعم وتتابع الفصول: صيف، وشتاء، وخريف، وربيع. واعلموا أن هذه الفصول هي معاول هدم لأعمارنا، فكم فصل شتاء مر علينا ونحن نتقلب بنعم الله!! فهل اعتبرنا وتذكرنا أن كل فصل شتاء يدني من القبر ويبعد عن الدنيا؟!
إخواني: نعيش الآن فصل الشتاء، وللشتاء أحكام وحِكَم أذكر بعضها:
أولاً: فمن أحكام الشتاء: النار التي تتفكهون بها وتتلذذون بالتحلق حولها، وتطيب القصص والسوالف بقربها، نضع حطبها ونشعلها ونستدفئ بها. فهل تفكرنا فيها؟! من خلقها وأوجدها ومن الذي أنشأ شجرها؟! تحمل أعواد ثقابها في جيبك ومع أمتعتك خامدًا، ومتى احتجتها أشعلتها، وإذا انتهيت أخمدتها.
اقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام، ولم يجعلها الله -عز وجل- كالماء والهواء منتشرة في كل مكان، فسبحان من سخرها لنا وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع، أما سمعتم قول الله –عز وجل- داعيًا لنا للتأمل فيها: (أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، فسبحان ربنا العظيم!!
ثانيًا: في فصل الشتاء يتحدث الناس عن درجة البرودة، فبماذا يذكرنا اشتداد البرد؟! اعلموا أنه يذكر بنار الآخرة أجارنا الله ووالدينا!!
فكيف يكون البرد مذكرًا بالنار الحارة؟!
إن هذا البرد الذي نعاني منه ويتمنى البعض سرعة ذهابه إنما هو نَفَس من أنفاس النار وزمهريرها، فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد "الزمهرير"، كما يعذبهم بالحر، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فَأَذِنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف؛ فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشد ما تجدون من الزمهرير". والمراد بالزمهرير شدة البرد، يعذبون بها -والعياذ بالله-. نسأل الله العافية. قال ابن رجب: "فإنّ شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم".
إذا كانت النار اشتكت إلى خالقها، أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها؟!! وكيف بمن يعذب فيها؟! وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها؟! فأشد ما نجد من البرد ما هو إلاّ نَفَس من أنفاس جهنم، فاعملوا للنجاة من النار والوقاية منها بفعل الأوامر واجتناب المناهي، وتلمسوا أسباب الوقاية من النار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
ثالثًا: إذا أشعلتم النار فتذكروا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا". رواه البخاري ومسلم.
وفيه بيان ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة كما قال تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
رابعًا: حوادثُ مأساويةٌ كثيرةٌ تقع كل شتاء؛ تحترق بيوت ويختنق رجال وأطفال، بسبب التساهل في نهي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ضحيتها الأطفال والمستخدمون والعمالة غالبًا، وهم في الذمة، فتنبهوا ونبهوا غيركم؛ احذروا ترك النار في البيت عند النوم مشتعلة ولو كانت فحمًا، فإن له غازًا سامًا يقتل ويخنق بغازه السام؛ عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ". رواه البخاري ومسلم.
خامسًا: تذكر محقرات الذنوب: "إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، كرجل كان بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم فجعل الرجل يجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا من ذلك سوادًا وأججوا نارًا، فأنضجوا ما فيها، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". رواه أحمد بسند صحيح.
وعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- من الْمُوبِقَاتِ".
قال العلماء: الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة؛ فلا تنظر لصغر الذنب وانظر لمن عصيت.
سادسًا: تذكر بشدة حرارة النار قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرّها". حرمنا الله ووالدينا ومن له حق علينا على النار.
سابعًا: طول الليل في الشتاء وقصر النهار يذكرنا بقول النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة". وهو حديث صحيح. وهو غنيمة باردة لحصول المؤمن على الثواب بلا تعب كثير، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار، فحقاً إنها لغنيمة باردة، فأين أصحابها؟!
وأنصح كل من كان عليه صيام قضاء أو كفارة أن يصوم هذه الأيام ولا يؤخر فهي فرصة ثمينة.
والشتاء -إخواني- غنيمة باردة في اغتنام ليله بالقيام لطوله، فهو يسير يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة.
روي عن ابن مسعود: "مرحبًا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وعن الحسن قال: "ونعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه".
ثامنًا: ومما ينبه عليه إسباغ الوضوء على المكاره، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". رواه مسلم. قال القاضي عياض: "وإسباغ الوضوء تمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحوه".
قال شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-: "بعض المصلين: لا يحسرون -أي يرفعون- أكمامهم عند غسل اليدين حسرًا كاملاً، وهذا يؤدي إلى أن يتركوا شيئًا من الذراع بلا غسل وهو محرم، والوضوء معه غير صحيح، فالواجب أن يحسر كمه إلى ما وراء المرفق مع اليد؛ لأنّه من فروض الوضوء". اهـ.
ولا بأس بتسخين الماء للوضوء، ليتقوى على العبادة، وهو لا يمنع من حصول الثواب المذكور. والشرع لم يتعبدنا بالمشاق.
إخواني: موجة البرد القارس التي أصابت كثيرًا من الدول، وأضرت بكثير من البشر هي من دلائل قدرة الله تعالى على عباده، أثبتت لنا ضعف البشر، وافتقارهم إلى عفو الله تعالى عنهم، ورحمته بهم، وإنعامه عليهم، ولو شاء سبحانه لجمَّد الأرض ومن عليها، فلا إله غيره ولا رب سواه، مالك الملك ومدبر الكون ومصرف الأمور.
إن هذه الموجة الباردة تذكرنا نعم الله تعالى علينا؛ فإننا طوال العام نرفل في النعم، ونتمتع برزق الله تعالى؛ فلا نجد حرّاً يؤذينا، ولا نحس بردًا يضرنا، بما خفف الله تعالى عنا، ورزقنا من الغذاء والكساء والمراكب والمتاع، حتى نسي كثير منا أنهم في نعمة الله تعالى، أو أنهم محتاجون إليها، فبطروا وطغوا، فإذا لسعتنا موجةٌ كهذه ذكَّرتنا نعم الله تعالى علينا، فحقيقٌ بنا أن نبالغ في شكر ربنا بأقوالنا وأفعالنا.
عباد الله: تذكروا في هذا البرد القارس أحوال الفقراء والمعدمين من إخوانكم؛ فلا يجدون كساءً يحمي أجسادهم، ولا فراشًا يقيهم صقيع الأرض، ولا طعاما يُقوِّي عودهم على البرد، ولا يملكون وسائل للتدفئة، ومنهم مَنْ بيوتهم مداخلُ ومخارج للهواء البارد من قلة ذات اليد، ومنهم من يسكنون صفيحًا يجمدهم وأسرهم وأولادهم.
فارحموهم يرحمكم الله تعالى؛ فإنهم محتاجون إلى عونكم، تلمسوا حاجاتهم، وأعينوهم في نوائبهم، دفئوههم وأسرهم وأولادهم، وبُلُّوا بالطعام أكبادهم، تلمسوهم بأنفسكم أو وكلاء عنكم فإن ذلك من شكر نعمة الله تعالى عليكم.
تذكروا -يا عباد الله- وأنتم تتنعمون وأسركم وأولادكم بالدفء والشبع والاستقرار، تذكروا إخوانًا لكم شردتهم القوى الظالمة الغاشمة فهم ونساؤهم وأطفالهم في ملاجئ ومخيمات لا تقيهم من الهواء، ولا تحميهم من الصقيع، في سوريا وفلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين المغتصبة.
تذكروا إخوانكم في غزة وقد حاصرهم اليهود، وخذلهم العالم كله؛ فمنعوا عنهم الطعام والكساء والوقود؛ ست سنوات ليوهنوا عزيمتهم، ويكسروا إرادتهم، وقد طال حصارهم حتى نفد ما عندهم أو يكاد، فمن لهم بعد الله تعالى إلا إخوانهم.
والشام وقد هجمت عليهم الثلوج وتجمد أطفالهم بين أيديهم، ترتعد أجسادهم في جنح الليالي من شدة البرد ونحن نأخذ بالاستعداد لتهيئة بيوتنا بالمدافئ والملابس الشتوية وأجود أنواع الفرش، فإن إخواننا يخترق البرد عظامهم، أين الأخوة والمودة والرحمة؟! قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشد بعضه بعضًا". وشبك -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه.
واعلموا أن للصدقة في أيام الحاجة وأيام الشتاء شأنًا كبيرًا، فإن الصدقة كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجرًا، حتى جاز تقديم الزكاة قبل وقتها لدفع حاجتهم، فتفقدوا إخوانكم الفقراء، وجودوا عليهم مما جاد الله به عليكم: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:110].