البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

عند الفتنة الزم الكتاب والسنة

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. التعوذ بالله من الفتن .
  2. كثرة الفتن وتنوعها في آخر الزمان .
  3. السبيل للنجاة من الفتن .
  4. الكتاب والسنة أساسا الثبات عند الفتن .
  5. حال المفتونين آخر الزمان .
  6. العبرة من تكرار النبي لأحاديث الفتن .
  7. طريق النجاة ما عليه النبي وأصحابه .

اقتباس

إننا نعيش في زمن طغت فيه ظلمات الفتن على معالم السنن، وغطى فيه دخان الحرائق على الحقائق، واشتبهت فيه طرق السير على السائرين، واختلت فيه الموازين. زمن ازدحمت فيه المتغيرات، وتتابعت فيه الأزمات، واختلطت فيه الأصوات، والتبس فيه الحق بالباطل...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أدى الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده, فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه وأرضاه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ من الْفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، قالوا نَعُوذُ بِاللَّهِ من الْفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ" [ مسلم (2867)] وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات, وترك المنكرات, وحب المساكين, وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي, وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" [رواه الترمذي 3233 )  صحيح الترغيب والترهيب (408)].

عباد الله: إن الناظر بعين البصر والبصيرة في عالمنا اليوم، يجد أننا نمر بفتن عظيمة، تنوعت أسبابها، وتعددت أشكالها، وكثرت صورها، فتعاظم خطرها، وتتطاير شررها، فتنٌ تحسن القبيح، وتقبّح الحسن، وتجعل الصادق كاذباً، والكاذب صادقاً، والخائن أميناً، والأمين خائناً، أهواء تعبث، ومصالح تحكم، ودين يُقصى، ويقين يضعُف، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "سَيَأْتِي على الناس سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فيها الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فيها الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فيها الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ وما الرُّوَيْبِضَةُ قال الرَّجُلُ التَّافِهُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ"  [ابن ماجة(4036)].

لقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون في هذه الأمة من تفرق واختلاف، ونزاع وشقاق، وفتن ومحن تلتبس على الكبار فضلاً عن الصغار، ويحتار فيها ذوو العقول والأبصار، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له" [أبو داود(4264)]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فيها خَيْرٌ من الْقَائِمِ, وَالْقَائِمُ فيها خَيْرٌ من الْمَاشِي, وَالْمَاشِي فيها خَيْرٌ من السَّاعِي, وَمَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ, وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أو مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ"  [البخاري(3601)].

يقول الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الفتن: "تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف له قصمته، ومن سعى فيها حطمته، تغيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتثلِم منارَ الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتدبّرها الأرجاس، مرعادٌ مبراق، كاشفة عن ساق، تقطَّع فيها الأرحام، ويفارَق عليها الإسلام". فيجب علينا -عباد الله- أن نجتنب الفتن، وأن نبتعد عن مواطنها، وأن نحذر من الخوض فيها حتى يعصمنا الله من الخلل، ويصوننا من الأخطار والزلل.

يجب على كل فرد منا أن يقبل على خاصة نفسه، وأن يهتم بصلاح قلبه، وألا يعرض نفسه لفتن سوداء مظلمة، التبس فيها الحق بالباطل، واختلط فيها الصحيح بالسقيم، وتمشي الأمور فيها بلا زمام ولا خطام، يقول المقداد بن الأسود -رضي الله عنه-: أيم الله، لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن السعيد لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر" [أبو داود(3719)]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا وشبّك بين أصابعه"، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك؟ جعلني الله فداك، قال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع عنك ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة" [أحمد(6508)].

أيها المسلمون: إننا نعيش في زمن طغت فيه ظلمات الفتن على معالم السنن، وغطى فيه دخان الحرائق على الحقائق، واشتبهت فيه طرق السير على السائرين، واختلت فيه الموازين. زمن ازدحمت فيه المتغيرات، وتتابعت فيه الأزمات، واختلطت فيه الأصوات، والتبس فيه الحق بالباطل.

إننا نعيش في زمن أطلت فيه الشبهات، وعصفت بالقلوب رياح الشهوات، وانبعثت سيول المغريات، واستهان الخلق بالثوابت واستخفوا بالمحكمات. زمن السياسة  العرجاء، وعصر المصطلحات العوراء، زمن التحديات الجسام، والأخطار العظام .

زمن ضاعت فيه معالم الدين واندرست آثاره، وبدأت الشبهات تغشى الإسلام وشعاره، فأصبحت الطرق مبهمة، والسماء غائمة، ابتعد الناس عن المصطلحات الشرعية، واستبدلوها بالمصطلحات الغربية، فوجدت الآراء السقيمة، وولدت الاجتهادات العقيمة.

زمن تلاطمت فيه الأفكار، وتغيرت فيه المفاهيم، وكثرت فيه التحديات، وازدادت فيه التساؤلات. عالم تسوده الأوضاع  المضطربة، وتعصف به الأحوال الملتهبة، قد عظمت فيه الغربة، واشتدت فيه الكربة.

أيها المسلمون: إن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى أن تمعن النظر في كتاب ربها، وتدقق الفكر في سنة رسولها -صلى الله عليه وسلم-، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم شيئين: لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي" [صحيح الجامع(2937 )].

فالقرآن هو الحياة، وهو النجاة في زمن أفلست فيه النظم، ووهنت فيه القيم، وانكشفت فيه عورة العولمة المزعومة.

إن القرآن الكريم هو مصدر التثبيت، لأنه يزرع الإيمان، ويزكي النفوس، ويقوي الصلة بالله، فإن الآيات إذا سكنت قلب المؤمن اطمئن قلبه، وازداد يقينه، وعظم إيمانه، يقول الله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

القرآن الكريم يزود المسلم بالتصورات السليمة، والقيم الصحيحة التي يستطيع المسلم من خلالها أن يقوّم الأوضاع من حوله، وينظر بنور الله إلى ما يدور في واقعه، حتى لا يقع في الاضطراب أو التناقض (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].

إن القرآن الكريم هو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هداه الله، فلابد أن نرجع إلى الكتاب والسنة في قضايانا المعاصرة، ومشكلاتنا الحاضرة، حتى نفهم جذور المشكلات، وأسباب النكبات والويلات، ونقرأ المتغيرات، ونفهم التحليلات، ونتوقع المستجدات، يقول الله في كتابه العظيم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) [الإسراء: 9], يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في العقيدة، يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في السلوك، يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في الأخلاق، يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في السياسة، يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في الاقتصاد، يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في كل شيء، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].

فعلى الأمة اليوم أن تتجه إلى الله، وأن تلجأ إليه، وأن تلوذ بجنابه، وتحتمي بحماه، فإنه من آوى إلى الله فقد آوى إلى ركن شديد، واحتمى برب مجيد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. من التجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- واحتكم إلى منهجه فإن الله -سبحانه وتعالى- ينّور له الطريق دون غبش، ويبصّره بالأمور دون عمش، ويهديه إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

والله الذي لا إله إلا هو لا رسوخ لقدم، ولا بقاء لمجد، ولا دوام لعز إلا بالتمسك الصادق بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهما الميزان الحق، والمقياس الصدق، وهما الجلاء عند الشبهة، والمورد عند اللهفة، والأنيس عند الوحشة، والضياء عند الظلمة، من رام هدى في غيرهما ضل، ومن رام إصلاحاً بغيرهما زل، ومن رام عزاً في غيرهما ذل، ومن أراد أمناً بغير الإسلام ضاع أمنه واختل، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله .

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله الذي له الجلال والجمال والكمال، له الأسماء الحسنى والصفات العلا وهو الكبير المتعال، أنعم على خلقه بشرعه، وجعل القلوب مخاطبات بوحيه، فمنها ما اطمأنت، ومنها التي ولت فولَّاها - سبحانه - ما تولت، ومنها التي دلت ثم زلت فمنه - سبحانه - يُرجى الثباتُ في الحياة، وعند النزع وفي القبر بعد الممات.

أحمده - سبحانه - وهو للحمد أهلٌ، وأسأله العفو والصفح وهو ذو المنة والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الناس: اتقو الله في السر والعلن، وسيروا إليه على خير منهاج وسنَن، واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن، فإننا نعيش في آخر الزمن، وبداية النهاية لهذه الحياة الدنيا.

لقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يبقَ في هذه الحياة إلا البلاء والفتن، والمصائب والمحن، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ثم يمسي كافراً، يبيع قوم خلاقهم بعرض من الدنيا يسير" [أحمد(15791)]، يقول الحسن رحمه الله: "والله لقد رأيناهم صوراً ولا عقول، أجساماً ولا أحلام، فراش نار وذبان طمع، يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز" [أحمد(4/272)].

وعن سهل بن سعد مرفوعاً، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا تدركني زماناً ولا تدركوا زماناً، لا يتبع فيه العليم، ولا يستحى فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب" [أحمد(21809)]، وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تكون فتنة تعوج فيها عقول الرجال حتى ما تكاد ترى فيها رجلاً عاقلاً" [كنز العمال(31126)]، وفي رواية قال -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تظهر فتنة لا يخلص من شرها إلا من أخلص الدعاء كدعاء الغريق في البحر"  [مصنف ابن أبي شيبة(7/24)].

وفي الصحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-ما قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه -أي المكان الذي يختبئ فيه-، ومنا من ينتظل -أي يرمي بالنبل-، ومنا من هو في جشره -في المكان الذي ترعى فيه الخيول والدواب-، إذ نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، فتنة يرقق بعضها بعضاً، تجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجئ الأخرى فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر..." [مسلم(1844)].

وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه: "لن تقوم الساعة حتى يأتي الرجل إلى قبر الرجل فيتمرغ عنده، ويقول: ياليتني مكان صاحب هذا القبر، ومابه إلا البلاء والفتن" [ابن ماجة (4035)].

عباد الله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل هذه الأحاديث عبثاً، ولم يكثر من تكرار ذكر الفتن سدى، وإنما قال هذه الأحاديث الغيبية لنفقهها، ونعمل بالوصايا التي تضمنتها، فهي جزء من رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلينا، تظهر لنا صدق نبوته -صلى الله عليه وسلم-، وتظهر محبته لأمته، ورحمته بهم، وشفقته عليهم، وإرشادهم إلى طريق النجاة، وسبيل الخلاص من فتن آخر الزمان.

إن المتأمل في حال أمتنا اليوم، يجدها أمة مغيبة، مكسورة الجناح، تميل بها الرياح، وتتقاذفها الأمواج، تتخبط يمنة ويسرة، فتركن إلى الغرب تارة وإلى الشرق تارة أخرى، قد اشتدت بها المحن، وكثرت فيها الفتن، وتكالبت عليها الأمم، تفرقت في دينها، واختلفت في عقيدتها، وتقسمت إلى فرق وأحزاب وطوائف، كل فرقة تزعم أنها على الحق، وأن الحق حليفها، كل حزب بما لديهم فرحون (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53].

الأمة اليوم تشهد أحداثاً متسارعة، وأخباراً متتابعة، ربما تكون مقدمة لأهوال عظام، وملاحم جسام، وفتن كبار، تغيرات خطيرة كانت تحدث في سنوات طويلة، أصبحت اليوم تحدث في أيام قليلة، قتل وهرج ومرج، فلا يدري القاتل لم قَتل ولا يدري المقتول فيما قُتل.

أنباء تتلاحق، وأخبار تتوارد، وعالم يتحرك ويضطرب، وأيام ملبدة بغيوم سوداء مظلمة، لا يدري الناس فيها إلى أين هم سائرون؟! وعلى أي عصرٍ هم مقبلون؟! وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "فتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى"  [أحمد(3/489)].

لقد أمرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأيام العصيبة أن ننطرح بين يدي الله، وأن نقبل على الله، وأن نكثر من عبادة الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" [مسلم(2948)]، كما أمرنا بالابتعاد عن مواطن الفتن، وأن ننئ بأنفسنا عنها، ونقبض ألسنتنا من الخوض فيها، وأن نكثر من سؤال الله الثبات على الدين حتى الممات، ونشغل أنفسنا بكثرة قراءة القرآن فإنه النور المبين، والدليل القويم، يقول الله -سبحانه وتعالى-، (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ  وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [الروم 1-2].

إن المأمن الأمين، والحصن الحصين، هو في التمسك بكتاب الله، وما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالاقتداء به مخرج من كل فتنة، ونجاة من كل محنة، فتمسكوا بهديه تمسكاً صادقاً، واعرضوا أعمالكم، وأقوالكم، وأفعالكم، ومعاملاتكم، وجميع شئون حياتكم على منهجه وطريقته، تعيشوا سعداء، وتموتوا أوفياء.

عباد الله: إن مجتمعنا اليوم تتجاذبه موجات وحملات، وبدع وضلالات، ومحاولات وتدخلات، وفتن عاتيات، لا مخرج منها إلا بالتمسك الشديد بوحي الله الذي أوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".

إن علينا في زحمة الأحداث، وتسارع المتغيرات، وفي خضم التداعيات، وكثرة النوازل والمستجدات، وتنوع الأطروحات والتحليلات، أن نلتفت إلى الرؤية الشرعية التي جاء بها نبينا -صلى الله عليه وسلم- بيضاء نقية، وأن ندقق النظر في فقه السنن الكونية، وأن نقرأ الأحوال التاريخية والحضارية، فقد زلت أقدام، وظلت أفهام، وأخطأت أقلام، واحتار كثير من المفكرين والمثقفين وأرباب الإعلام، لأنهم لم ينطلقوا من المنطلق الذي انطلق منه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71]

إن كل الطرق مسدودة، وكل الأبواب مغلقة، وكل الخطوط مفصولة غير موصولة، إلا الخط الذي مشى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم مشى عليه أصحابه من بعده، ثم مشى عليه التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعين في النار قيل يا رسول الله من هم؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".  يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا وقال : "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن يساره، وقال: "هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه" ثم قرأ : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153] [أحمد(1/435)].

إن بين أيدينا كنزاً لا ينفد، ومنهلاً عذباً لا ينضب، كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأين نحن من العمل بهما، والمطالبة بتطبيقهما، والانقياد لهما، والامتثال لأمرهما، والاستجابة لنهيهما، يقول الله -جل جلاله- في كتابه العظيم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36] ويقول -سبحانه وتعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك" [ابن ماجة(43)].