المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | محمد بن حمد الخميس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
منا من باع نفسه لله، وانتصر على شيطانه وهواه، ونال رضا الله وهُداه، فاجتهد بأعماله ليفوز مع الفائزين، وينجو مع الناجين، فصلّى لربه وصام، وتصدّق بماله، وابتعد عن فعل الحرام، ووصل رحمه، وواسى الفقراء والأيتام!. ومنّا غلبه شيطانه، واتّبع هواه، وغرته نفسه، وعمّت مصائبه وبلواه، وما تذكّر أن الله –سيحاسبه- على ما آتاه، فوقع في...
الخطبة الأولى:
ثم أما بعد:
عباد الله: إن الشمس التي تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها، تحمل أعظم مشاهد الاعتبار، فطلوعها ثم غيابها إيذان بأن الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي إلى زوال وفناء وبوار.
هلال الشهر يظهر صغيرًا، ثم ينمو حتى يكتمل، وليس بعد التمام إلا النقصان، ثم الزوال، وهكذا عمر الإنسان، بل والحياة كلها.
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان | فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسانُ |
هذي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ | من سرّه زمنٌ ساءته أزمانٌ |
أحبتي في الله: رحل عام ومضى، وطوى بساطه وانقضى، فليت شعري، ماذا أودعنا فيه؟! وماذا حفظ من أعمالنا؟!
إن المؤمن لا بد وأن يعتبر بما مرّ في أيام عمره من أعمال، وبما انطوى عليه مرُّ السنين، وذهابُ الآجال، على أي حال سيلقى ربه الكريم المتعال؟! قال: "كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمُوبقُها أو معتقُها"[رواه مسلم].
فمنا من باع نفسه لله، وانتصر على شيطانه وهواه، ونال رضا الله وهُداه، فاجتهد بأعماله ليفوز مع الفائزين، وينجو مع الناجين، فصلّى لربه وصام، وتصدّق بماله، وابتعد عن فعل الحرام، ووصل رحمه، وواسى الفقراء والأيتام!.
ومنّا غلبه شيطانه، واتّبع هواه، وغرته نفسه، وعمّت مصائبه وبلواه، وما تذكّر أن الله –سيحاسبه- على ما آتاه، فوقع في وحل المعاصي، وولج لجج الآثام.
لذلك -أحبتي في الله-: ينبغي للمسلم أن يقف مع نفسه، ويحاسبها محاسبة جادة قبل أن تحاسب، قال عمر بن الخطاب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا".
ومعنى المحاسبة؛ كما قال الماوردي: "أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله" ا. هـ.
أحبتي في الله: وللمحاسبة فوائد متعدّدة، ومنافع متكاثرة؛ منها:
الاطلاع على عيوب النفس ومثالبها ونقائصها؛ فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منزلها، وبادر في إصلاحها.
ومن هذه الفوائد: أن يتعرف العبد على عظيم فضل الله ومنته عندما يقارن عظيم فضل الله إلى عظيم التفريط، والتقصير في جنب الله، فيكون ذلك معينًا لنفسه على ردعها، فيزكيها ويطهرها من كل عمل يهلكها، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40 -41].
قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه كل ليلة: ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله وكان لها قائدًا" ا. هـ.
ومن هذه الفوائد: أن المحاسبة تربي عند الإنسان الضمير الحيّ داخل النفس، وتنمي الشعور بالمسؤولية، ووزن الأعمال بميزان دقيق، هو ميزان الشرع، قال ابن القيم -رحمه الله-: "أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب" ا. هـ.
أيها الأحبة في الله: إذا كان أرباب الأعمال في الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم أسباب نجاحهم، وربحهم في الدنيا، فما بالنا لا نجعل المحاسبة أهم أسباب ربحنا في الآخرة، والله -تبارك وتعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18- 19].
فكلنا في حاجة إلى محاسبة أنفسنا في الدنيا، حتى ننظر ما قدمناه لغد.
ولقد كان السلف -رحمهم الله- يحاسبون أنفسهم كثيرًا، وضربوا لنا أروع الأمثلة في محاسبتهم لأنفسهم، ولو حاولنا استقصاء ذلك لطال بنا المقام، وذلك لأنهم كانوا يربطون قلوبهم بالله، وكأن أجسادهم في الأرض وقلوبهم في السماء، فلجموا أنفسهم عن التقصير وعاتبوها، وإن وقعت في اليسير.
فعن أنس -رضي الله عنه- يقول: "سمعت عمر بن الخطاب يومًا في حائط يكلم نفسه قائلا: "عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ، والله يا بُنيَّ الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك".
وكان الأحنف بن قيس قد كبر سنه، فلاموه على الصوم؛ لأنه يضعفه، فقال: "إني أعده لسفر طويل".
وكان يقول لنفسه: "لم صنعتَ كذا يوم كذا؟!" ثم يؤلمها بأنواع ألم.
قال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا، حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه".
وقال حاتم الأصم: "تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك".
قال بلال بن سعد: "لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوَّه في السر".
أحبتي في الله: ها نحن قد ودعنا عامًا من عمرنا، رحل بلا عودة، وفني بلا بقاء، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما جمع وحوى، فكم من حبيب فارقنا، وكم من سيئات فيه قد اجترحنا، وكم من عزيز أضحى ذليلاً، وكم غني أضحى فقيرًا، وكم من سليم أضحى سقيمًا، وكم من حوادث عظام وبلايا جسام مرت بنا، ولكن أين المعتبرون؟! وأين المستبصرون؟!
أيها الأحبة: إن الأيام واللّيالي خزائن للأعمال، ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد.
إنا لنفرح بالآجال نقطعها | وكل يوم مضى يدني من الأجل |
فاعمل لنفسك قبل الْموت مجتهدًا | فإنما الربح والْخسران في العمل |
وصدق القائل:
نسيرُ إلى الآجال فِي كل لحظة | وأعمالنا تطوى وهن مراحل |
ترحل من الدنيا بزاد من التقى | فعمرك أيـام وهن قلائل |
فانظر -أيها الأخ الحبيب-: في صحائف أيامك التي خلت: ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟! واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان؟! وماذا رأت العين؟! وماذا سمعت هذه الأذن؟! وأين مشت هذه القدم؟! وبماذا بطشت هذه اليد؟! فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، تحثّ بنا السير إلى الآخرة.
سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرت، فسأل: "من هذا؟" فقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "هذا أنت" يعني: أن الجميع إلى هذا المصير صائر، فاستعدّ لذلك.
ولما سئل أبو حازم: "كيف القدوم على الله؟" قال: "أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده".
الخطبة الثانية:
اعلموا -رحمني الله وإياكم-: أن الليل والنهار مطيتان، يباعدانك من الدنيا، ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره.
وسبحان الله! تتجدّد الأعوام، فنقول: إنّ أمامنا عامًا جديدًا، نراه طويلاً، لكن سرعان ما ينقضي، فطوبى لعبد انتفع بعمره، فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى، وتاب إلى الله -عز وجل-، وعزم على أن لا يضيع ساعات عمره إلا في خير، متذكرا قول نبيه: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"[حديث صحيح].
لا هجا بدعاء النبي-صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر"[حديث صحيح].
فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، إنه بر رؤوف رحيم.
وصلى الله على محمّد وآله وأصحابه أجمعين.