العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبدالرحمن بن علي الشهري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحياة الآخرة |
إنه بكاء المعذبين في النار، إنه بكاء من جفت أعينهم في الدنيا، فلم يزرفوا لله دمعة..، نعم طال البكاء هناك على مَن لم يبكِ هنا، طال البكاء في النار على من عصى الجبار، طال البكاء في السعير على من نسي وتناسى المصير، طال البكاء في سقر على عصاة بني البشر. وهل ينفع البكاء هناك؟ لا والله.. لا يُرحَم باكيهم، ولا يُجاب داعيهم، قد فاتهم مرادُهم، وأحاطت بهم ذنوبهم، أين هذا البكاء وهم ينامون عن الصلوات؟! أين هذا البكاء وهم يقلبون في القنوات؟! أين هذا البكاء وهم يستمعون الأغاني والملهيات؟! أين هذا البكاء وهم ينتهكون المحرمات؟! أين هذا البكاء وهم يوعظون فلا تنفع العظات؟!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: إنها رؤيا رآها في منامه نقلته -بإذن الله- من حياة المعاصي إلى حياة الاستقامة هو شاب في مقتبل عمره كان غارقًا في بحار الشهوات بعيدًا عن فاطر الأرض والسماوات، فلما أراد الله به خيرًا أراه في المنام رؤيا كانت هذه الرؤيا سببًا في تغيير مجرى حياته وترتيب أوراقه ومحاسبة نفسه.
لقد بعث هذه الورقة مع أحد أقاربه كتب فيها قصة رجوعه وسبب هدايته، إنها رؤيا فماذا رأى يا ترى؟
أتعلمون ماذا رأى ذالكم الشاب؟ وما هو الشيء الذي أفزعه وأخافه فتغير بسببه مجرى حياته؟
لقد رأى النار، نعم لقد رأى النار فقام فزعًا مزعورًا خائفًا مرعوبًا.
لا إله إلا الله، اللهم إنا نستجير بك من النار.
لقد غير مرأى النار في المنام حياته فكيف لو رآها على الحقيقة فوالله ليرنها ولنرينها على الحقيقة (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر: 7].
هذه هي الرؤيا كما وصلتني بخط يده، ملخصها أنه كان هناك حفرة مشتعلة بالنار وكان أخوه الكبير في زاوية من هذه الحفرة، وأخوه الآخر في زاوية أخرى، وكان بينه وبين النار حاجز، وكلما أراد أن ينظر إلى النار خرج شرر إلى النار، فكان أخوه الكبير ينظر إليه ويضحك وبعد ذلك وقعت سيارتهم في تلك الحفرة المشتعلة بالنار، وكان أخوه الأكبر يقود السيارة وليس بجانبه أحد، أما هو فقد كان في المقعد الخلفي، وبدأت النار تشتعل في مقدمة السيارة، وهو في المقعد الخلفي خائف مرعوب، وبدأت تحترق وهو يقول لأخيه: اخرج أريد أن أصلي، اخرج أريد أن أصلي.
أي اخرج من النار، ثم قال بعدها وكأنه يريد النجاة : أروني الجنة، أروني الجنة، فظهرت له أرض خضراء وشمس وطبيعة جميلة.
فيا سبحان الله! رأى النار تشتعل في المقدمة وهو في المقعد الخلفي، فأيقظه ذلك من ثباته ونبّهه من غفلته، وأعاده إلى ربه وهو الآن من الصالحين، نسأل الله أن يمن علينا وعليه بالثبات حتى نلقاه.
رؤيا غيرت حياته فهل ستغير الآيات والأحاديث عن النار حياتنا ونستعد للقاء ربنا؟! آمل ذلك.
حديثي إليكم بعنوان "طال البكاء" فأي بكاء هذا؟ إنه بكاء المعذبين في النار، إنه بكاء من جفت أعينهم في الدنيا، فلم يزرفوا لله دمعة بينما تراهم يزرفون الدموع على المحبوب؛ إما من حرقة الفراق أو لوعة الاشتياق، أما الدموع لله فغالية على الأعين..
تراه باكيًا في كل حين | مخافة فرقة أو اشتياق |
فتسخن عينه عند التلاقي | وتسخن عينه عند الفراق |
أما أن تكون الدموع لربه وخالقه فذلك هو المحال وما لم يخطر عنده على بال.
طال البكاء، نعم طال البكاء هناك على مَن لم يبكِ هنا، طال البكاء في النار على من عصى الجبار، طال البكاء في السعير على من نسي وتناسى المصير، طال البكاء في سقر على عصاة بني البشر.
وهل ينفع البكاء هناك؟ لا والله..
عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُلقى البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود ولو أُرسلت فيه السفن لجرت". (أخرجه ابن ماجه).
قال صالح المري: "بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم، فلا يبقى مِنْهُمْ إِلا كهيئة الأنين من المدنف".
يبكون على ضياع الحياة بلا زاد، وكلما جاءهم البكاء زاد، فيا حسرتهم لغضب الخالق، ويا فضيحتهم بين الخلائق، وينادون ويصطرخون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر: 37]، (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12]، (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:106، 107]، ينادون إلهاً طالما خالفوا أمره، وانتهكوا حدوده، وعادَوا أولياءَه، ينادون إلهًا حقَّ عليهم في الآجلة حكمه، ونزل بهم سخطه وعذابه، (قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ) [المؤمنون:108].
لا يُرحَم باكيهم، ولا يُجاب داعيهم، قد فاتهم مرادُهم، وأحاطت بهم ذنوبهم، أين هذا البكاء وهم ينامون عن الصلوات؟! أين هذا البكاء وهم يقلبون في القنوات؟! أين هذا البكاء وهم يستمعون الأغاني والملهيات؟! أين هذا البكاء وهم ينتهكون المحرمات؟! أين هذا البكاء وهم يوعظون فلا تنفع العظات؟!
طال البكاء فلم ينفع تضرعهم، لا رقة تغني ولا جزع، إن البكاء هنا أمان من النار هناك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لن يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"، وقال: "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
فلنبكِ على ذنوبنا هنا قبل يوم البكاء، نسأل الله أن يرزقنا أن يرزقنا أعين هطالة تبكي الدموع من خشيته قبل أن تعود الدموع دمًا والأضراس جمرًا..
استمع لحال الصالحين ولا تقنع بغير هممهم ولا ترضى بغير زادهم.
كان داود -عليه السلام- يُعاتَب في كثرة البكاء فيقول: "دعوني أبكي قبل يوم البكاء قبل تحريق العظام واشتعال اللحى".
وقال يونس بن ميسرة عن أبي إدريس الخولاني قال: "إن داود -عليه السلام- قال أبكي نفسي قبل يوم البكاء، أبكي نفسي قبل أن لا ينفع البكاء، ثم دعا بجمر فوضع يده عليه حتى إذا حره رفعها، وقال أوه لعذاب الله، أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه".
هذا حال داود -عليه السلام- وهو نبي من أنبياء الله فكيف بحالنا نحن الخطاءين!! لماذا لا نبكي؟! يا هؤلاء لقد أخبرنا أننا واردون على النار ولم نخبر أننا صادرون عنها، فلماذا لا نبكي (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) [مريم:71].
أما حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- فقد وقف على المنبر فقال "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار" حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
أنذرتكم النار، عبارة تهتز لها القلوب وترتجف لها الأبدان وتقشعر لها الجلود، القلوب التي لطالما غفلت عن الله، الأبدان التي أعرضت لما ذُكرت بالله، الجلود التي تفننت في معصية الله موعدها هناك عندما يجاء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها لو تركت لأتت على كل بر وفاجر.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن العبد ليُجَرّ إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف" (رواه ابن أبي حاتم).
قال الله: (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُك الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]، هذا هو الموعد الذي غفلت عنه، وهذا هو الموقف الذي لم تحسب له حسابًا، وهذه هي النهاية التي كنت لا تتوقعها ولا تهتم لها، وتستهين بها في الدنيا فالآن تنظر فبصرك اليوم حديد.
إخواني: انجوا بأنفسكم من النار فهي دار قد اشتد غيظها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمي سعيرها، سوداء مظلمة، شعثاء موحشة، دهماء محرقة، (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر: 28 - 30]، لا يُطفأ لهبها، ولا يخمد جمرها.
دارٌ خُصَّ أهلها بالبعاد، وحُرموا لذَّة المُنى والإسعاد: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ) [ص: 56].
والله لو كانت القلوب حية لاضطربت خوفًا من النار! لماذا يتقحم الكثير بها ويتجرؤون على المعاصي، ألا يعلم هؤلاء أن النار تقول: هل من مزيد، لا تقول قط قط حتى يضع الجبار قدمه فيها، يقول الحسن -رحمه الله-: "والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق -اسمع- وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم في درجها".
والله ما أنذر العباد بشيء أدهى منها (فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى. لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الأشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل:14-16].
أما الصالحون فلهم مع النار شأن آخر قال الحسن: "إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى وهم والله أصحاب القلوب، ألا تراه سبحانه يقول: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر: 34].
والله لقد كابدوا في الدنيا حزنًا شديدًا، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار.
يقول موسى بن سعد: "كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه".
قال أسد بن وداعة: "كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، يقول: "اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام فيقوم إلى مصلاه"، اسمع يا من تنام عن الفجر يا من تؤخر الصلاة "كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلة، ثم يثب ويستقبل القبلة، ويصلي حتى الصباح ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين".
وقالت ابنة الربيع بن خثيم لأبيها يا أبتِ ما لك لا تنام والناس ينامون؟ قال: "إن النار لا تدع أباكِ ينام".
وقال ابن مهدي: "ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النار، النارَ، شغل ذكر النار عن النوم والشهوات".
إذَا مَا الَّليلُ أظلَمَ كَابَدُوه | فيسفرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ |
أطَارَ الخَوفُ نومَهُم فَقَامُوا | وَأهلُ الأمنِ فِي الدُنَيا هُجُوعُ |
كان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي وينادي بأعلى صوته: "عجبت من الجنة كيف نام طالبها، وعجبت من النار كيف نام هاربها ثم يقول: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ) [الأعراف:97].
وقال أبو الجوزاء: "لو وليت من أمر الناس شيئًا اتخذت منارًا على الطريق وأقمت رجالاً ينادون النار النارَ".
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تُخلَق إلا لهما".
فلا إله إلا الله! هذا حالهم وخوفهم مع صلاحهم وتقواهم، فما بالنا نحن نضحك ملء أفواهنا ومعاصينا قد أحاطت بنا، ألا فيا أيتها القلوب لتعي، ويا أيتها العيون لتبصري، ويا أيتها الأذان لتصغي.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة".
وروي عن يزيد بن مرثد: أنه كان لا تنقطع دموع عينيه، ولا يزال باكياً، فسُئل عن ذلك فقال: "لو أن اللَّه أوعدني بأني لو أذنبت ذنباً لحبسني في الحمام أبداً لكان حقاً عليّ أن لا تنقطع دموعي، فكيف وقد أوعدني أن يحبسني في نار قد أوقد عليها ثلاثة آلاف سنة".
قال قتادة: "يا قوم هل لكم من هذا بدّ؟! أم هل لكم على هذا صبر؟! يا قوم طاعة اللَّه أهون عليكم فأطيعوه".
قال ميمون بن مهران لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)[الحجر: 43]، وضع سلمان يده على رأسه و خرج هارباً ثلاثة أيام، لا يُقدر عليه حتى جيء به.
ذاك سلمان؛ أما في هذا الزمان فقد وضع الناس أيديهم على رؤوسهم عندما نزلت الأسهم، ووضع الناس أيديهم على رؤوسهم عند خسارة فرقهم، والنار كأنما خُلقت لغيرهم (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر:4].
فما ظنك أيها المفرّط بسكان هذه الدار ضيّقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك يتحفون عند دخولها بالأكل من شجرة الزقوم، والشراب من الحميم، وهم إنما يُساقون إليها عطاشا.
عن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ، حَتَّى يَعْدِلَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالطَّعَامِ، فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالطَّعَامِ، فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ –أي شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج- فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانَ يُجِيزُونَ الْغُصَصَ فِي الدُّنْيَا بِالشَّرَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالشَّرَابِ، فَيُرْفَعُ إِلَيْهِمُ الْحَمِيمُ بِكَلالِيبِ الْحَدِيدِ، فَإِذَا دَنَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ شَوَتْ وُجُوهَهُمْ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي بُطُونِهِمْ قَطَّعَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ".
لا إله إلا الله! هذا هو طعام أهل النار، أجارنا الله من النار.
أما شرابهم فإليك قائمة بشرابهم:
الحميم وهو الذي قد انتهى حره.
الغساق: وهو القيح الغليظ لو أن قطرة منه تهرق في المغرب لأنتنت المشرق، ولو أريقت في المشرق لأنتنت المغرب.
المهل: وهو كعكر الزيت، إذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه.
طينة الخبال : وهي عصارة أهل النار.
نهر الغوطة: وهو نهر يخرج من فروج المومسات يشرب منه أهل النار.
هذه قائمة بمشروبات أهل النار.
أما حالهم في النار فيلعنون فيها ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، فتأمل حال أولئك التعساء الذين كان بعضهم يملي لبعض في الظلام، هذا يلحن، وذاك يغني وثالث يستمع، ذاك يُخرِج، وذاك يمثل، وثالث يشاهد، تأمل كيف تناكروا وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع العذاب، يعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال، وما يفتت ذِكْره الأكباد يقتحمون إليها اقتحاما يتجلجلون في مضائقها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها يطوفون بينها وبين حميم آنٍ.
ولا تسل عما يعانون من ثقل السلاسل والأغلال؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، قيود لا تحل أبداً، قال الحسن -رحمه الله-: "أما وعزته ما قيَّدهم مخافة أن يعجزوه، ولكن قيدهم لترسي في النار"، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 32]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تُسلسل في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقدر أن يقوم على رجليه".
يستقبل العذاب بوجهه (أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الزمر: 24]، قال عطاء -رحمه الله-: "يرمى به في النار منكوسًا، فأول شيء تمسه النار وجهه، وقد أجرى الله العادة أن الإنسان يقي وجهه بيديه، أما في النار فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه فيدفعها بوجهه، تصوّر يدفع النار بوجهه!!
وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التوبيخ والتأنيب، وتدفع إليه حصيلة حياته، ويا لها من حصيلة تسود الوجه قنوات خليعة، وأغاني ماجنة، إضاعة للصلاة ومنع للزكاة، وإعراض عن الله (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)[الزمر: 24].
إنها النار يا من يخاف النار، إنها النار لتحرق كل شيء يلقى فيها فإذا ما ألقوا فيها سمعوا لها (سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)[الملك: 7- 8].
أبوابها سبعة يسير الراكب بين كل بابين منها سبعين عامًا، عن هشام بن حسان قال "خرجنا حجاجًا فنزلنا منزلاً في بعض الطريق، فقرأ رجل معنا هذه الآية (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) [الحجر: 44]، فسمعته امرأة فقالت: أَعِدْ -رحمك الله-، فأعادها، فقالت: خلفت في البيت سبعة أعبد أشهدكم أنهم أحرار لكل باب من أبواب النار واحد منهم.
ونحن ماذا قدمنا لننجو من النار؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إني ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: قال الجنيد -رحمه الله-: "إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد، وبكل شيطان مريد، فأوثقوا بالحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم التي لا تبيد، ثم أوصدها عليهم ملائكة رب العبيد، فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدًا، ولا والله لا ينظرون إلى أديم سماء أبدًا، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدًا، ولا والله لا يذيقون فيها بارد شرابا أبدًا".
أما مقامهم فيها فأبد الآباد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم يُذبَح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون في الجنة عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد، فهم باقون فيها يتقلبون في أنواع العذب لا راحة، ولا نوم ولا قرار، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد منهم عذاب معلوم على قدر عصيانه وذنبه، إلا أن أقلهم لو عُرضت عليهم الدنيا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هو فيه وهذا هو أقلهم"، نسأل الله العافية والسلام في الدنيا والآخرة.
هذه هي النار فإنها المصيبة الجامعة والعقوبة الواقعة، يا لها دار انقطع من الرجَاءَ انحلالها، وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البُكَاء والعويل، وسرابيل الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية وبئس المقيل، يقطع مِنْهُمْ الحميم أمعاءً طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع مِنْهُمْ الجحيم أعينًا طالما نظرت إلى الحرام، ويفتت الرصاص المزاب آذانًا طالما استمعت إلى الحرام ويصب العذاب على أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قَدْ كثر مِنْهُمْ الأنين، وحلت بِهُمْ المثلات، فجلودهم كُلَّما نضجت بدلت جلودًا غيرها، وكرر عَلَيْهمْ الْعَذَاب، ووجوههم مسودة ليوم الحساب الزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، ينادون (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)[الزخرف: 77]، فحينئذٍ ينقطع عندها تأميل المذنبين ويجتمَعَ التنكيل على المذنبين، ويرتفع في جهنم عويل المجرمين (فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 24]، فيا لها من ندامة لا تشبهها ندامة، ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15].
هذا وإن أعظم عذاب في النار حجابهم عن الله -عز وجل-، وإبعادهم عنه وإعراضهم عنهم وسخطه عليهم (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15]، فذكر -سبحانه- ثلاثة أنواع من العذاب؛ منها حجابهم عنه، وصليهم الجحيم، ثم توبيخهم بتكذيبهم في الدنيا، ووصمهم بالران على قلوبهم، وهو صدأ الذنوب، نعم صدأ الذنوب الذي اسودت به قلوبهم فلم يصل إليها في الدنيا شيء من معرفة الله ولا من جلاله ولا من مهابته فكما حجبت قلوبهم في الدنيا عن الله حجبوا في الآخرة عن رؤيته جل وعلا.
فانظر لنفسك أيّ الدار تختار، واعلم أنك في زمن المهلة، فحاسب نفسك قبل وقت النقلة وحينها لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا..
اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.. اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى، ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تَغْفِرِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.