الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده، أن يكون مقصرًا في عمله، وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق، كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله لتسرّهم، والله يحب من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه ظاهراً وباطناً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الحق المبين الذي أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين وهداية للمهتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أيها الإخوة الكرام: لا شك أن أشرف المنازل وأفضلها أن يَمُنّ الله على العبد فيرفعه إلى درجات الصالحين، والعباد الربانين، فيهديه لأقوم سبيل، وأفضل الأعمال، وأحسن الأخلاق، ويحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإسلام فأي نعمة أعظم من هذه، وأي سعادة أعظم من هذه السعادة.
عباد الله: وأولياء الله المقربون هم من تقربوا إلى الله تعالى بعد أداء الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين، لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والابتعاد عن المكروهات وتورعوا عن الشبهات، وذلك يوجب للعبد محبة الله، كما قال تعالى في الحديث القدسي: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" [أخرجه البخاري برقم: 6502].
فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والحظوة عنده. والنوافل المتقرب بها إلى الله تعالى أنواع، وهي الزيادات على أنواع الفرائض كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، وكثرة الذكر والإحسان إلى الخلق، وغيرها من أبواب الخير والنفع.
عباد الله: وإذا تدبر العبد الرباني في صفات ربه -سبحانه-، حتى صارت أسماء ربه وصفاته مشهدًا لقلبه؛ أَنْسَتْه ذكر غيره، وشغلته عن حب من سواه، وجذبت دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب -سبحانه- سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، ربه يمشي.
فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه، فيا له من قلب من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه، أو يطمئن بغير مولاه.
فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في فرشهم، تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها. فإذا استيقظ هذا القلب من أوكاره، صعد إلى الله بهمته وحبه، مشتاقاً إليه، طالباً له، محتاجاً إليه، عاكفاً عليه.
فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، فهو آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، فإذا استيقظ أحدهم وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه، والتوجه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها، فيكله إلى ضعة وعجز، وذنب وخطيئة، بل يحميه حماية الوليد الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
عباد الله: ومن صفات العبد الرباني التي ذكرها ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين وباب السعادتين)، "أنه منفرد في طريق طلبه لا تقيده الرسوم، ولا تملكه العوائد، ولا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود، من جالسه قرت عينه به، ومن رآه ذكرته رؤيته بالله، قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته، وسبل لهم عرضه ونفسه، لا لمعاوضة، ولا لذلة، ولا لعجز".
فالرباني يحتمل أذى الخلق، ويكف أذاه عنهم، ويبذل لهم النصيحة وسبل العرض والنفس، لا لمعاوضة أي مقابل ليبادلوه نفس المعاملة، ولا لذلة ولا لعجز، بل هو يقدر على الرد، ولكنه فعل ذلك لله لا يدخل فيما ينقصه.
وصفه الصدق، والعفة، والإيثار، والتواضع، والحلم، والوقار، والاحتمال، لا يعاتب، ولا يخاصم، ولا يطالب، ولا يرى له على أحد حق ولا فضل، يسامح كل الناس دومًا، فترك العتاب من أخلاق المؤمنين.
وهو مع ذلك مقبل على شأنه لا يشتغل بما لا يعنيه، مكرم لإخوانه، حافظ للسانه لا يتكلم كثيرًا، مسافر في ليلته ونهاره ويقظته ومنامه، لا يضع عصى السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه، رفع له علم الحب فشمر إليه وناداه داعي الاشتياق، فاقبل بكليته عليه، أجاب داعي المحبة إذ ناداه حي على الفلاح، وواصل الثرى في بيداء الطلب، فحمد عند الوصول ثراه وإنما بحمد القوم الثرى عند الصباح.
لا يستغني بالدنيا تكثرًا، ولا يستكثر منها تملكًا، وإن كان مالكًا لها بهذا الشرط لن تضره، بل هو فقيرًا غناه في فقره، وغني فقره في غناه. فلا يفعل شيئاً إلا في مرضاة ربه، من دعوة إلى الله، وتعليم لعباده، أو نفع وخدمة للمسلمين، أو اشتغال بنوافل العبادات، وإن كان من الأفعال الطبيعية قلبه عبادة بالنية، وقَصَدَ الاستعانة به على مرضاة ربه، فتكون عاداته عبادات.
ويقدم في كل وقت ما نفعه أعم على غيره، فيقدم الدعوة والتعليم على النوافل، ويؤخر العمل الانفرادي من أجل العمل الاجتماعي كما قال سبحانه وتعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
أحبابنا في الله: ومن سمات العبد الرباني أنه دائم الشكر لله على نعمائه، وهذا خُلق عظيم ومقام كريم يصدر عن الأرواح الخيّرة التي تشبعت بحب الله، وعن القلوب الطاهرة التي مُلئت بالإيمان واليقين.
فيظهر هذا الشكر على اللسان، وعلى الجوارح، وحقيقة الشكر أن تكون حركات العبد المؤمن وسكناته وخواطره ومشاعره ناطقة بالحمد والثناء على ما أولاه الله من المنن والآلاء، وصدق مولانا (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، والشكر لله سبحانه خُلق الأنبياء والمرسلين وسمة عباده الأبرار المقربين، وبالشكر تدوم النعم وتُزَاد، وبضده تزول النعم وتباد.
فيا من قرَّب من شاء من عباده! قرِّبنا إليك، اللهم إنا بحاجة ماسة إلى رحمتك، وعفوك، وبرك، وكرمك، اللهم احشرنا في زمرة المقربين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العليا رب السماوات ورب الأرض ورب الآخرة والأولى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أيها الإخوة: من صفات العبد الرباني أنه متوازن في العبادة معتدل في المواقف، بصيرًا بما ينفعه في الدنيا والآخرة، واسمع معي إلى دُرَّة من درر الإمام الذهبي في كلامه في ترجمة السيد العابد الرباني عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان شديد العبادة، يوجه فيها الإمام الذهبي العبد إلى التوازن في العبادة وعدم الغلو ولا التفريط، فقال: "وَلَوْ تَلاَ وَرَتَّلَ فِي أُسْبُوْعٍ، وَلاَزَمَ ذَلِكَ، لَكَانَ عَمَلاً فَاضِلاً، فَالدِّيْنُ يُسْرٌ، فَوَاللهِ إِنَّ تَرْتِيْلَ سُبُعِ القُرْآنِ فِي تَهَجُّدِ قِيَامِ اللَّيْلِ مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، وَالضُّحَى، وَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ، مَعَ الأَذْكَارِ المَأْثُوْرَةِ الثَّابِتَةِ، وَالقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ، وَدُبُرَ المَكْتُوبَةِ وَالسَّحَرِ، مَعَ النَّظَرِ فِي العِلْمِ النَّافِعِ وَالاشْتِغَالِ بِهِ مُخْلَصاً للهِ، مَعَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَإِرْشَادِ الجَاهِلِ وَتَفْهِيْمِهِ، وَزَجْرِ الفَاسِقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ أَدَاءِ الفَرَائِضِ فِي جَمَاعَةٍ بِخُشُوْعٍ وَطُمَأْنِيْنَةٍ وَانْكِسَارٍ وَإِيْمَانٍ، مَعَ أَدَاءِ الوَاجِبِ، وَاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ، وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَالإِخْلاَصِ فِي جَمِيْعِ ذَلِكَ، لَشُغْلٌ عَظِيْمٌ جَسِيْمٌ، وَلَمَقَامُ أَصْحَابِ اليَمِيْنِ وَأَوْلِيَاءِ اللهِ المُتَّقِيْنَ، فَإِنَّ سَائِرَ ذَلِكَ مَطْلُوْبٌ". [سير أعلام النبلاء: 5/ 80].
أيها الإخوة: أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده، أن يكون مقصرًا في عمله، وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق، كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله لتسرّهم، والله يحب من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه ظاهراً وباطناً.
ومن أنصف نفسه، وعرف أعماله، استحى من الله أن يواجهه بعمله، أو يرضاه لربه، وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه، ولم يدع من أجل حُسْنه شيئاً إلا فعله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف: 7].
فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله؛ يجمع بين إحسان للعمل، والاستغفار بعد العمل؛ لأنه يعلم أنه لا يوفّي هذا المقام حقه، فهو دائماً يستغفر الله عقيب كل عمل صالح؛ قال الله تعالى: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 18]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً. وفي الحج: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 199].
فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار في جميع أحواله، فلا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته، كثرت توبته واستغفاره، وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقة لربه في محبة ما يحب، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما يكره، وبذل الجهد في تركه.
أيها الإخوة: ومن تأمل صورا من حياة الربانيين وقف على عجب عجاب، فهذا أبو بكر رجل أسيف لا يسمع الناس صوته في القرآن من كثرة بكائه عند تلاوته من خشية الله. وعمر يجري في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء من خشية الله، قيل ألا تنام يا عمر، قال: "ومتى أنام، إن نمت بالنهار أضعت رعيتي، وإن نمت بالليل أضعت نفسي". وهذا عثمان يقرأ القرآن كل ليلة في ركعة واحدة ، ويقول: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
أما أمنا عائشة -رضي الله عنها- فتأتيها سبعون ألف درهم تنفقها في جلسة واحدة، فتقول لها جارتها : لو تركتِ لنا درهمين نشتري بهما لحم تفطري عليه، وهي صائمة ، فتقول : "لو ذكرتيني لفعلت"، يا الله تنسى نفسها. وهذا عبادة بن بشر يخرج من جسده أثناء صلاته وهو يحرس المسلمين ثلاثة أسهم بلحمها ودمائها ، لأنه كان يصلي بسورة يحبها ولا يريد أن يقطعها. وهذا عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- يقطعون قدمه في الصلاة ولا يشعر بقطعها، لأنه يناجي ربه ومحبوبه، وخاشع في صلاته.
وهذا سعيد بن المسيب يقول: "أربعين سنة ما قال المؤذن حي على الصلاة إلا وأنا بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم –"، انتبه ماذا يقول، أربعين سنة، وليس أربعين يوم ، ولا أربعين أسبوع ، ولا أربعين شهر، ولكن أربعين سنة. هل حدث هذا معي ومعك أربعين صلاة ، أو أربعين يوم؟!.
وهذا البخاري يختم في رمضان أربع ختمات يوميا، مائة وعشرين ختمه في شهر رمضان. وهذا رجل من السلف يقول: "عشرين سنة لم أنظر في قفا مصلٍ"، أي يصلي في الصف الأول. أما الشافعي فله ختمة من القرآن كل يوم في غير رمضان، وفي رمضان ختمتين واحدة بالليل وواحدة بالنهار. والإمام أحمد بن حنبل يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة يومياً غير الفريضة ، وهذا دأبه. والشيخ بن باز لم تفته تكبيرة الإحرام طوال عمره الذي بلغ تسعين سنة إلا مرة واحدة.
فأين نحن من هؤلاء؟! مَنَّ الله عليَّ وعليكم بهذه الصفات الجميلة، وحفظنا من كل خصلة رذيلة، إنه جواد كريم رءوف رحيم.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.