البحث

عبارات مقترحة:

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

الرحمن

هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

سيرة المسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- (1)

العربية

المؤلف خالد بن عبدالله الشايع
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. الإيمان بأنبياء الله من جملة الإيمان بالله .
  2. فضائل الإيمان برسل الله تعالى .
  3. التعريف بعيسى ابن مريم -عليه السلام- .
  4. ولادته ونشأته ومعجزات صباه .

اقتباس

اسمه عيسى، سمّاه بذلك ربه -جل وعلا-، كما قال سبحانه: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، وأنجبته أمه مريم بنت عمران من غير زوج، فليس له أب، فهو ينسب إلى أمه مريمَ بنتِ عمران، وعمران من نسل نبي الله سليمان بن داود -عليهما السلام-، ولقد سمى القرآن الكريم سورة برأسها باسم مريم -عليها السلام-، وضمَّنها حيزاً واسعاً من قصة حملها وولادتها لعيسى -عليه السلام-، كما جاء الحديث عن مريم -عليها السلام- في سور: آل عمران، والأنبياء، والتحريم.

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فيا أيها الناس: فإن من جملة الإيمان بالله الإيمان بأنبيائه ورسله، جملة وتفصيلاً، فمن آمن برسل الله وكفر بواحد منهم فليس بمؤمن، بل من كفر بواحد منهم كفر بجميع الرسل وكفر بمن أرسلهم، وإن من لوازم الإيمان بالرسل، معرفةَ سيرهم وأسمائهم، فكيف تؤمن بمن لا تعرفه؟!

لذا صار لزامًا على كل عاقل التعرفُ على سير أنبياء الله ورسله، على حسب ورودها لنا، فمن ذكر لنا اسمه فقط آمنا به جملة، وما ذكر لنا من تفاصيل علمناها وآمنا بها، ويقصد بالإيمان التصديق بأنهم رسل الله، بعثهم الله ليبلغوا رسالته للناس كما قال سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ...).

فالإيمان برسل الله من صفات المؤمنين، والكفر بهم أو التفريق بينهم من صفات الكافرين كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً).

عباد الله: من هذا المنطلق سنمر على سيرة نبي من الأنبياء، الكل يعرفه، ولكنها معرفة سطحية جدًا، بل البعض يفهم عنه سيرةً مغلوطة، مع أنها ذكرت في القرآن مرارًا وتكرارًا، وهو من خير رسل الله، بل من أولي العزم من الرسل.

إنه عيسى ابن مريم -عليهما السلام-، جعل الله في سيرته عبرًا وحكمًا، لكل البشرية.

اسمه عيسى، سمّاه بذلك ربه -جل وعلا-، كما قال سبحانه: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، وأنجبته أمه مريم بنت عمران من غير زوج، فليس له أب، فهو ينسب إلى أمه مريمَ بنتِ عمران، وعمران من نسل نبي الله سليمان بن داود -عليهما السلام-، ولقد سمى القرآن الكريم سورة برأسها باسم مريم -عليها السلام-، وضمَّنها حيزاً واسعاً من قصة حملها وولادتها لعيسى -عليه السلام-، كما جاء الحديث عن مريم -عليها السلام- في سور: آل عمران، والأنبياء، والتحريم.

ومن فضل هذه العائلة ما حكاه الله في سورة آل عمران حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ).

ولقد استجاب الله دعوة امرأة عمران لما دعت لمريم وذريتها؛ حيث قال سبحانه: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا).

وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران:36].

أرسل عيسى -عليه السلام- لبني إسرائيل وكانوا في فلسطين، وكانوا قد حرّفوا التوراة وبدّلوا الدين الذي جاء به موسى -عليه السلام-.

أما ولادة عيسى -عليه السلام- فهي كما حدّث بها القرآن حيث كانت مريم -عليها السلام- خادمة لبيت المقدس متنسّكة فيه، ولما أراد الله أن تحمل بعيسى -عليه السلام- نأت بنفسها عن أهلها في مكان بعيد، وكأن الله أراد تهيئتها لأمر غير معتاد: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً) [مريم:16]، ثم تمضي القصة لتخبرنا أنه سبحانه أرسل إليها جبريل -عليه السلام- متمثلاً بصورة رجل كامل الرجولة: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) [مريم:17]، وكان رد فعل الفتاة العذراء على هذا الموقف المفاجئ أن استعاذت بالله ممن فجأها على غير ميعاد، فخاطبته بقولها: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً) [مريم:18]، وكان جواب المَلك لها مطمئناً لقلبها، ومهدئاً من روعها: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً) [مريم:19]، فأجابته مريم -عليها السلام- جواباً فطرياً ناظراً إلى الأسباب، فقالت: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً) [مريم:20]، غير أن المَلك أخبرها بأن خالق الأسباب والمسببات لا يعجزه شيء، وأن الأمر بيده قد يُجري الأمر من غير سبب، وأن الغرض من خرق الأسباب أن يبيّن للناس قدرته سبحانه على كل شيء، وأن يجعل للناس آية يعتبرون بها؛ ليعظموا هذا الخالق الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وليقدروه حق قدره، فقال مخاطباً إياها: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) [مريم:21].

 وقد ذكر ابن كثير أن غير واحد من علماء السلف ذكروا أن المَلَك نفخ في جيب درعها، فنـزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، وقال الله لعيسى: كن؛ فحملت به -بإذن الله تعالى-. وهذا معنى قوله في الحديث: "وكلمته الله ألقاها إلى مريم وروح منه"، فعيسى كان بكلمة الله، ولم يكن هو كلمة الله، فعيسى مخلوق وليس بخالق، وفي هذا الموقف زلت النصارى فادعوا الألوهية لعيسى، وقالوا: إنه ابن الله؛ تعالى الله عن قولهم، وزلت اليهود فقالوا: ابن زنى؛ قاتلهم الله، فلمّا حملت به ضاقت به ذرعاً، حتى إذا دنت ولادتها، فرّت من قومها مكانًا قصيًا عن البلد، وهي تتمنى لو أنها كانت قد ماتت قبل أن يحصل لها الذي حصل، وتكون نسياً منسياً: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) [مريم:23]، وفي حدِّة الألم وصعوبة الموقف تقع المفاجأة الكبرى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) [مريم:24]، طفل وُلِدَ اللحظة يناديها من تحتها، يطمئن قلبها، ويصلها بربها، ثمّ ها هو ذا يرشدها إلى طعامها وشرابها! فيقول لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) [مريم:25]، ليس هذا فحسب، بل ويدلها على حجتها وبرهانها! فيقول لها: (فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) [مريم:25].

اللهم وفقنا لهداك...

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولاً عن نبي الله عيسى ابن مريم -عليه السلام-، فبعد الوضع، ومجاذبة الحديث العذب بين الأم وجنينها، الذي أنساها كل هم، قامت بكل ثقة وحزم، فأتت به قومها تحمله.

إنه مشهد عظيم محير للعقول، طفل بلا أب، من فتاة حسنة السمعة بينهم، شريفة النسب، لم تُعرف إلا بالعبادة والتأله: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) [مريم:27-28]، (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) [مريم:29].

ثم يصوّر لنا المشهد القرآني الطفل وهو ينطق بحقيقة ما حدث، وواقع أمره وما جاء به: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) [مريم:30-33]، فهو أولاً وقبل كل شيء عبد لله، ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله، بل قال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً)، إلى أن قال: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [مريم:36]، فقد أنطق الله الطفل؛ ليبين حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، والغاية من هذا الخلق الإنساني العجيب.

العبرة الكبرى في خلق عيسى بلا أب كما ذكر الله في كتابه: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا).

ولقد بيّن الله سبحانه بخلق عيسى بلا أب أنه -جل في علاه- قادر على كل شيء، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وبيّن سبحانه للناس أن خلق عيسى ليس بأعجب من خلق آدم، حيث خلقه بلا أب ولا أم، فقال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وفي قوله سبحانه: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ...)، والصدّيق هو الذي بلغ الغاية في التصديق والإيمان.

قال ابن كثير: دلَّ قوله تعالى: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة:75]، على أن مريم -عليها السلام- ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى؛ استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص:7].

فلمّا جاءتهم مريم -عليها السلام- افترق الناس فيها بين مصدّق ومكذب، وعاشت مريم -عليها السلام- مع ابنها النبي الذي أخذ يدعو الناس منذ ولادته، حيث قال الله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)، ومعنى يكلم يعني يدعو، فأخذ الصبي يكبر حتى بلغ مبلغ الرجال، وهو يدعو إلى الله حتى تبعه ناس كثير من بني إسرائيل، وأصبح له حواريون، وأخذ اليهود يكيدون له ويحيكون له المكائد، حتى قضى الله -جل وعلا- برفعه إليه كما قال سبحانه: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).

وعلى هذا نقف، ونكمل -بإذن الله- في الخطبة القادمة قصة رفع عيسى -عليه السلام-، ونزوله قبل يوم القيامة ثم موته.

اللهم اغفر للمسلمين...

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى...

اللهم أعزنا بطاعتك...