البحث

عبارات مقترحة:

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

المصور

كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...

أين نحن من صنيع الأنصار؟!!

العربية

المؤلف محمد جمعة الحلبوسي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. موقف الأنصار المشرف في الهجرة .
  2. المثل الأعلى في الإيثار والتضحية .
  3. مواقف مشرقة من التضحية والإيثار .

اقتباس

لقد ضرب الأنصار المثل الأعلى في الحب والإيثار لإخوانهم المهاجرين حين قدموا عليهم مهاجرين بدينهم، لا يملكون شيئًا، فقدم لهم الأنصار كل شيء. لقد كان إيثارهم شيئًا خياليًا لا يصدق، عندما خرج المهاجرون من مكة لا يملكون شيئًا، كل واحد بما يلبسه فقط، وقد كانوا أغنياء، وكانوا تجارًا، أما أهل المدينة فهم زُرّاع، وكان المهاجرون لا يستطيعون العمل بالزراعة، وأتى المهاجرون، منهم من أتى على قدمه، لكن ما حصل كان فوق الخيال...

الخطبة الأولى:

ها نحن نعيش في شهر محرم، ولا زلنا نتذكر أحداث الهجرة النبوية، التي يقف عندها المسلم كل عام يستخلص منها العبر والعظات، فيزيده ذلك إيمانًا ويقينًا بعظمة هذا الدين، فهي حدث ضخم تغيّر به وجه الأرض.

وأنا أحببت أن أقف اليوم عند موقف الأنصار -رضي الله عنهم- في الهجرة، هذا الموقف المشرف والنادر والعجيب، الموقف الذي يشع ضياءً ونورًا وصدقًا وأخوة وإيثارًا وتضحيةً ووفاءً.

فعندما دخل الإسلام بشاشة قلوب الأنصار -رضي الله عنهم- كانت منهم المواقف المشرفة الرائعة، التي كان لها الأثر الكبير في نصرة الإسلام والمسلمين.

حتى إن الله -تعالى- مدح مواقفهم العظيمة في سورة الحشر فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

ولفضلهم ومكانتهم أورد الإمام البخاري -رحمه الله- بابًا خاصًا بهم سماه باب مناقب الأنصار، ذكر فيه مجموعة من الأحاديث الشريفة في فضائلهم -رضي الله عنهم-، منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ"، وقال أيضًا: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ".

لقد ضرب الأنصار المثل الأعلى في الحب والإيثار لإخوانهم المهاجرين حين قدموا عليهم مهاجرين بدينهم، لا يملكون شيئًا، فقدم لهم الأنصار كل شيء. لقد كان إيثارهم شيئًا خياليًا لا يصدق، عندما خرج المهاجرون من مكة لا يملكون شيئًا، كل واحد بما يلبسه فقط، وقد كانوا أغنياء، وكانوا تجارًا، أما أهل المدينة فهم زُرّاع، وكان المهاجرون لا يستطيعون العمل بالزراعة.

قدم المهاجرون؛ منهم من أتى على قدمه، لكن ما حصل كان فوق الخيال؛ يقول الصحابة: إن ما مِن مهاجر دخل المدينة، إلا بالقرعة من كثرة تكالب الأنصار على من يأتي من المهاجرين، كل منهم يريد أن يضيفه هو، فكانوا يدخلون بالقرعة.

بل انظروا إلى هذا الإيثار إلى أي درجة وصل عند الأنصار؟! هذا سيدنا سعد بن الربيع -أنصاري- نزل عليه سيدنا عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين، قال له: يا أخي: هذه أموالي أجمعها لك -جمعها كلها من السوق-، أقسمها بيني وبينك، هذا نصفي وهذا نصفك، وهذه هي الأراضي التي أمتلكها أقسمها بيني وبينك، وهذا هو بيتي، وإني متزوج بامرأتين، آتي لك بهما حتى ترى أيهما تحب لأطلقها لك وتتزوجها بعد أن تفي عدتها.. الله أكبر.

بالله عليكم -يا مسلمون- هل سمعتم بمثل هذه الأخلاق؟! هل شاهدتم مثل هذا الإيثار؟! هل سمعتم بمثله في دنيا اليوم بمثل استقبال الأنصار للمهاجرين؟!

تخيّل معي كل أنصاري كان يقاسم أخاه المهاجر في كل ما يملك؛ من بيت ومال وملابس وغيرها، حتى زوجة الأنصاري كانت تقاسم زوجة المهاجر بكل ما تملك من ملابس وغيرها!!

والله أنا أتعجب من ذلك!! الرجل يقاسم بيته، كيف فعل ذلك ولم يخف من لوم زوجته؟! أو كيف أن زوجته لم تعترض عليه؟! أو كيف أن أولاده الكبار لم يعترضوا عليه؟!

إنه الإيمان والحب والأخوة الصادقة. إنه الإيثار.. خلق الإيثار الذي اندثر في زماننا، كم من زوجة وقفت بوجه زوجها ومنعته من الإنفاق في سبيل الله؟! وكم من أولاد منعوا أباهم من أن يجعل له صدقة جارية خوفًا من الإقلال؟! وكم من أب شتم ولده؛ لأنه تصدق في سبيل الله؟! أين هؤلاء من صنيع الأنصار؟!

بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر وصحابته إلى المدينة ذهب إلى الأنصار وقال لهم عن المهاجرين: "إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وجاؤوكم، لا يعرفون الزراعة، فهلا قاسمتموهم؟!". فقالوا: نعم -يا رسول الله-، نقسم الأموال بيننا وبينهم بالسوية -والرسول كان يقصد مساعدتهم فقط-، فقال لهم النبي: "أو غير ذلك؟!"، فقالوا له: وماذا بعد يا رسول الله؟! قال: "تقاسمونهم الثمر". لأنهم لن يستطيعوا التصرف بالأموال أو الخروج من المدينة؛ لأنها محاصرة، فقالوا: نعم يا رسول الله، بمَ يا رسول الله؟! فقال: "بأن لكم الجنة".

أرأيتم ثواب الإيثار!! فكان الأنصاري يعمل طوال العام وعندما يثمر الزرع يأخذ التمر ويذهب به إلى المهاجر قبل أن يذهب إلى بيته.

لم يجلس ليختار الأفضل له ثم يذهب للآخَر بالباقي، الله أكبر!! أين هذه مثل هذه الأخلاق؟! أين الإيثار في زماننا؟!

يذهب بالتمر كله لأخيه ويقول له: اختر ما تشاء، وإني سأتركك ساعة حتى تتخير ما شئت -حتى لا يحرجه- ثم يعود فيكون المهاجر قد اختار الثمر غير الجيد، ويظلون يتشاجرون، كل منهما لا يوافق أن يأخذ الآخر غير الجيد.

فلما فتحت خيبر وكثر المال قال النبي للأنصار: "جزاكم الله خيرًا، قد وفيتم بالشروط"، فقالوا للنبي: يا رسول الله: اشترطت شرطًا واشترطنا شرطًا، وها نحن قد وفينا، وإن لنا عندك الجنة، قال: "لكم بما وفيتم".

بل اسمعوا إلى صنيع الأنصار:

كان الأنصاري يستضيف أخاه من المهاجرين وليس في بيته من الزاد إلا قوت صبيانه، فيؤثره على نفسه وعياله قائلًا لزوجه: نوِّمي صبيانك وأطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف، ونجلس معه إلى المائدة نوهمه أننا نأكل معه ولا نأكل، ويجلسون إلى المائدة، ويأكل الضيف وحده، ويبيت الزوجان طاويين، ويغدو الأنصاري على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: "لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة".

فأنزل الله -تبارك وتعالى- قوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9]. خصاصة؛ أي تعب، جوع، فقر، احتياج، لا تجد شيئًا وتؤثر أخاك!!

واللهِ سيبقى صنيع الأنصار منار هداية وإشعاعا للإنسانية في تيه المطامع والأثرة والشحّ والإمساك ما أقبل ليل وأدبر نهار، ودُعي الناس للبذل والسخاء والإيثار.

ولا تتصور أن الإيثار لا يكون إلا في الأموال فقط، لا ولكن في الأرواح أيضًا؛ هذا عكرمة بن أبي جهل حارب النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنتين وعشرين سنة ثم أسلم وحسن إسلامه ومات شهيدًا، ابن أبي جهل مات شهيدًا وبسبب الإيثار، عكرمة كان من ضمن الجرحى في معركة اليرموك، وقد وضع الجرحى جميعهم في مكان ما، حتى تنتهي المعركة، كلما جرح جندي وضعوه هناك، وكان ابن عم عكرمة ممن يسقون الجرحى، فيقول: بحثت عن عكرمة فوجدته في الجرحى يئن، يكاد يموت وبجواره عشرة من المسلمين، فأخذت أجري نحوه لأسقيه وإذا هو يتناول القربة ليشرب سمع صوت أخيه يقول: أنا عطشان، فقال: لا والله لا أشرب حتى يشرب أخي، فذهبت إلى الثاني، وهو يشرب سمع صوت أخيه يقول: آه، فقال: لا والله لا أشرب، وذهبت إلى الرابع والخامس... حتى وصلت إلى العاشر فقال: لا والله لا أشرب حتى يشرب عكرمة، فعدت إلى عكرمة، فإذا به مات شهيدًا، وإلى الثاني وإذا به قد مات، والثالث والرابع كلهم ماتوا ولم يشربوا من هذا الماء!!

بل اسمعوا إلى الإيثار العجيب: عبد الله بن عمر كانت تعجبه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، فكان يخرج الصدقة مما يحب، وذات مرة تنبّه إلى أن ناقته تعجبه فنزل عنها ووقف إلى جوارها في عرض الطريق حتى وجد شيخًا فقيرًا، فقال: اركب يا رجل فهي لك. وأتته مرة سمكة هدية، وكان يحب السمك حبًا شديدًا، فأتت إليه امرأته بسمكة مشوية، ففرح بها ثم طرق الباب مسكين، فقال لها: أعطيه السمكة، فقالت: عندنا في البيت خبز وشعير ولحم.

قال: وماذا أفعل بقول الله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]؟! أعطيه السمكة. وبعد أن أعطتها للرجل قالت له: أتبيعني السمكة بدرهم؟! فقال الفقير: نعم. فأعطته الدرهم وأخذت السمكة ثم وضعتها أمام ابن عمر، ففرح وعندما هم بأكلها طرق الباب نفس الرجل وقال: أعطوني شيئًا، فقال لها ابن عمر: أعطيه السمكة. فقالت: يا ابن عمر: فعلتها مرة. قال: إن الله قالها مرات ولم يقلها مرة: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، فخرجت للرجل بالسمكة وقالت له: أبتاع منك السمكة؟! فوافق، فقالت له: أقسمت عليك ألا تعود مرة ثالثة، وأخذت السمكة وأعطتها لابن عمر.

يا مسلمون: أخرجوا الشح من بيوتكم، ومن جيوبكم، ترزقوا سخاء النفس وتذوقوا حلاوة الإيثار؛ لذة غريبة كلما أعطيت كأنك أنت الذي أخذت.

وهذا سيدنا جعفر بن أبي طالب مات يوم مؤتة وترك ثلاثة أطفال، والصحابة ضعفاء فقراء، ووقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يكفل أولاد جعفر؟!". يقول الراوي: فخرج ثلاثة من الصحابة يتشاجرون: أنا يا رسول الله، بل أنا يا رسول الله...

يقول الراوي: والثلاثة أفقر من بعض، ويريدون أن يأخذوا ثلاثة أيتام، ونحن الآن إذا مات لأحد أخ أراد أن يتخلص من ابنه اليتيم، ويلقي به على الأخ الآخر، ويضيع الولد.

لكن جعفر بن أبي طالب كان لديه خلق الإيثار، ولذلك أراد الله أن يبارك له في أولاده ويتربوا جيدًا، حتى إن النبي سماه: أبا المساكين.

فعلى المسلم أن يعلم أن الإيثار رأس كل سعادة، وقوام كل خلق طيب، والله لن يستشعر المجتمع الطمأنينة ولا الأمان ولا الاستقرار إلا إذا اتبع خلق الإيثار، وبدونه لن نستطيع أن نسلك إلى الله سبيلاً، ولا نجد من الله عونًا وتثبيتًا.

ولو دققنا النظر لوجدنا أن عدم وجود الإيثار وحده كفيل بأن يكون سببًا في هدم البيوت وتشريد الأسر وضياع الأمم وعداوة الخلق لبعضهم البعض.

وأختم كلامي بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

ليكن هذا هو شعار كل مسلم ينتمي إلى قافلة يقودها سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى نكون من الفائزين في الدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.