الابتلاء سنة كونية لا يخلو منها بشر فضلاً عن أهل الإيمان وأولهم الرسل _ عليهم الصلاة والسلام _ فهذا الكتيب يحتوي على قصص بعض المبتلين.
التفاصيل
بعد الضيق يأتي الفرج المقدمة ابتلاء سيد الخلق: وللفرج أسباب كثيرة منها: 1- ترك المعاصي: 2- التوكل على الله: 3- الصبر والتفكر: 4- إقامة الصلاة: 5- ذكر الله تعالى: ومن أنواع الذكر: وجاء الفرج من الله حادثة الإفك أمن يجيب المضطر إذا دعاه هكذا العلماء أدرك الحسن بن سفيان اصبر ... فالفرج قريب اللهم عجَّل فَرَجه الباحث عن الحقيقة قصة النفر الثلاثة اللهم خذ لي بقلب الحجاج ثبات امرأة! تلمسوا أسباب الفرج مرحبًا بالموت شعرة معاوية إذا سألت فاسأل الله لا تيأس من روح الله لا ترجُ غير الله حين ينتصر الإيمان! وأخيرًا ...جاء الفرج عون الله لأحبابه ربي قادرٌ على رد بصري الواثق وخلق القرآن الله يجيرني منك مجاهدة في قعر بيتها بعد الضيق يأتي الفرجخالد أبو صالحبسم الله الرحمن الرحيم المقدمةالحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:الدنيا محل اختبار وابتلاء، ودار امتحان واصطفاء، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1-3].فهذا يبتلى في دينه, وهذا يبتلى في أهله وأبنائه, وهذا يبتلى في جسده وصحته, وهذا يبتلى في ماله, وهذا يبتلى في وظيفته, وهذا يبتلى في جاهه وسلطانه, وهذا الابتلاء هو الذي يبين معادن الناس، فيثبت على الحق أهل الإيمان والتقوى، ويزل عن الطريق أهل العصيان والنفاق.فالابتلاء إذًا سنة كونية لا يخلو منها بشر فضلاً عن أهل الإيمان وأولهم الرسل عليهم الصلاة والسلام... فكم لاقوا من شدائد؟ وكم جابهوا من محن؟ وكم صبروا على البلاء؟ وكم ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، فما يئسوا ولا جزعوا ولا استكانوا لعدوهم؛ بل جاهدوا في الله حق جهاده، وصدقوا في ميدان الصدق، وثبتوا في ميدان الثبات، حتى جاءهم نصر الله، وأدركتهم رحمته، فقطع دابر الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين. ابتلاء سيد الخلق: وقد ابتلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم ابتلاء، وأوذي أشد الأذى وهو راضٍ صابر محتسب، متوكل على ربه، راغب في مرضاته.قال ابن الجوزي: «من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا؛ فليتفكر في أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه، رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه. ورآه حكيمًا لا يصنع شيئًا عبثًا، فسلّم تسليم مملوكٍ لحكيم، فكانت العجائب تجري عليه، ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف، ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا! بل يثبت للأقدار ثبوت الجبال لعواصف الرياح.هذا سيد الرسل - صلى الله عليه وسلم -، بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ الآفاق، فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الأرقم، وهم يضربونه إذا خرج، ويدمون عقبه، وأُلقي السَّلاَ على ظهره، وهو ساكت ساكن.ويخرج كل موسم فيقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟». ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا في جوار كافرٍ.ولم يوجد من الطبع تأفف، ولا من الباطن اعتراض، إذ لو كان غيره لقال: يا رب أنت مالك الخلق، وأقدرُ على النصر، فلم أُذلّ؟. كم قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق؟ فلم نعطي الدنيةَ في ديننا؟ ولما قال هذا قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إني عبد الله، ولن يضيعني» [متفق عليه].فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما: فقوله: «إني عبد الله» إقرار بالملك، وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء. وقوله: «لن يضيعني» بيان حكمته وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا.ثم يُبتلى بالجوع فيشد الحجر، ولله خزائن السموات والأرض.ويقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتكسر رباعيته، ويُمثّل بعمه، وهو ساكت.ثم يرزق ابنًا ويسلب منه، فيتعلل بالحسن والحسين، فيخبر بما سيجري عليهما.ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها، فينغص عيشه بقذفها.ويبالغ في إظهار المعجزات، فيقام في وجهه مسيلمة والعنسي وابن صياد.ويقيم ناموس الأمانة والصدق فيقال: كذاب ساحر.ثم يعلقه المرض، فيوعك كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت.ثم يشدد عليه الموت، فيُسلب روحه الشريفة، وهو مضطجعٌ في كساء ملبد وإزار غليظ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح لَيْلَتَئِذٍ!هذا شيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قبله، ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت([1])»!.ولكن ماذا بعد هذا الضيق والشدائد؟ماذا بعد هذه المحن والمصائب؟ماذا بعد هذا الصبر والثبات العظيم؟ماذا بعد هذا التوكل والرضا؟جاءه الفرج من الله... جاءه النصر المبين... جاءه المدد من السماء... ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51].﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123].﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55]. وهكذا عاقبة الصبر والثبات والتوكل والرضا؛ ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 13]. وللفرج أسباب كثيرة منها: 1- ترك المعاصي:فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16]. فمن أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال. قال أبو سليمان الداراني: من صفَّى صُفّي له، ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كُفي في نهاره، ومن أحسن في نهاره كُفي في ليله.وكان شيخ يدور في المجالس فيقول: من سره أن تدوم له العافية فليتق الله عز وجل.وكان الفضيل بن عياض يقول: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي.واعلم – وفقك الله – أنه لا يحس بضربة مبنج، وإنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه.ومتى رأيت تكديرًا في حال، فاذكر نعمة ما شكرت، أو زلة قد فعلت.واحذر من نفار النعم ومفاجأة النقم، ولا تغتر بسعة بساط الحلم، فربما عجل انقباضه.وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]([2]). 2- التوكل على الله:وهو من أعظم أسباب الفرج وذهاب الهموم والغموم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].أي كافيه من كل مكروه، ومن كان الله حسبه فقد أدرك الأمن التام والنجاة الكاملة.وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173، 174]. 3- الصبر والتفكر: فبالصبر يتحمل الإنسان مرارة الألم، وبالتفكر يدرك سرعة انقضاء الآلام، ويدرك كذلك ما وراءها من الأجر.قال ابن الجوزي: «لا ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موتٍ، وإن كان الطبع لا يُملك، إلا أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن؛ إما لطلب الأجر بما يعاني، أو لبيان أثر الرضا بالقضاء، وما هي إلا لحظات ثم تنقضي.وليتفكر المعافى من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها، أين هي في زمان العافية؟ذهب البلاء وحصل الثواب، كما تذهب حلاوة اللذات المحرمة ويبقى الوزر، ويمضي زمان التسخط بالأقدار ويبقى العتاب.وهل الموت إلا آلامٌ تزيد، فتعجز النفس عن حملها فتذهب؟!فليتصور المريض وجود الراحة بعد رحيل النفس، وقد هان من يُلقى، كما يتصور العافية بعد شرب الشربة المرّة([3]). 4- إقامة الصلاة:فللصلاة تأثير عجيب في علاج الهموم والغموم وتفريج الكرب، ولذلك فقد أمر الله تعالى بالاستعانة بها في كل الأمور فقال تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97-99].وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة.وقال عليه الصلاة والسلام: «يا بلال أرحنا بالصلاة». 5- ذكر الله تعالى:وذكر الله تعالى من أسباب التغلب على الشدائد والكربات والهموم والغموم. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152].فإذا ذكر المريض ربه ذكره الله بالصحة والعافية وإذا ذكر المهموم ربه، ذكره الله بشرح الصدر وتفريج الهموم.وإذا ذكر الخائف ربه، ذكره الله بالأمن والسكينة والطمأنينة. ومن أنواع الذكر:الدعاء:قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ﴾ [النمل: 62].ومن الذكر تلاوة القرآن: قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82].ومن الذكر: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -:فقد قال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: «إذن يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك» [رواه أحمد].ومن الذكر: ما يُقال عند الكرب:ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله إلا إله إلا أنت» [رواه أبو داود وحسنه الألباني].وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم».أخي الكريم...هذه المقدمة جعلناها بين يدي مجموعة من القصص والأخبار التي فيها الفرج بعد الشدة، والأمن بعد الخوف، واليسر بعد العسر، حتى لا ييأس من رحمة الله يائس، ولا يزهد في فرج الله وأسباب نجاته زاهد...وقد جاء في بعض الآثار عن الله عز وجل:أيؤمّل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم؟!أيرجى غيري، ويطرق بابه بالبركات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟!من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به؟أو من ذا الذي رجاني لعظيم فخيبت رجاءه؟أو من ذا الذي طرق بابي، فلم أفتحه له؟أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟أبخيلٌ أنا فيبخلني عبدي؟أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ لو جمعت أهل السموات والأرض، ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة.كيف ينقص ملك أنا قَيِّمه؟!فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي!ويا بؤسًا لمن عصاني وتوثب على محارمي.فأين عني تهرب الخلائق؟وأين عن بابي يتنحى العاصون؟خالد مصطفى سالمأبو صالحالرياض غرة ربيع الأول – 1425هـ وجاء الفرج من الله حادثة الإفكروى البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدٌ لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه.قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه – وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يَهْبُلْنَ ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلقة([4]) من الطعام – فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب. فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين([5]) في نحر الظهيرة وهم نزول. قالت: فهلك من هلك.وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.قال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه.وقال عروة أيضًا: لم يسم من أهل الإفك أيضًا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبةٌ – كما قال الله تعالى – وإن كَبِرَ ذلك يقال عبد الله بن أبي بن سلول.قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال:فإن أبى ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت نقهت، فخرجت مع أم مسطح – قبل المناصع([6]) – وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل – وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، قالت: وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنيف أن نتخذها عند بيوتنا.قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح – وهي: ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، أمها: بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب – فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت؛ أتسبين رجلاً شهد بدرًا؟ فقالت: أي هنتا، ولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك.قالت: فازددت مرضًا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت له: أتذان لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. قالت: فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك. فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.قالت: ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلْبثَ([7]) الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا. وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك.قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قال له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرًا قط أغمصه، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهليها فتأتي الداجن فتأكله.قالت: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبي – وهو على المنبر – فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي.قالت: فقام سعد بن معاذ – أخو بني عبد الأشهل – فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: قام رجل من الخزرج – وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج.قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحمية – فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد – فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج – حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر. قالت: فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم.قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى أني لأظن أن البكاء فالق كبدي. فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي.قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس. قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، ولقد لبث شهرًا لا يُوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف ثم تاب؛ تاب الله عليه.قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قَلَصَ دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني في ما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ما قال: قالت أمي والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.فقلت – وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرًا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة – لا تصدقونني، ولئن اعترفت لكم بأمر – والله يعمل أني منه بريئة – لتصدِّقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18]. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن الله تعالى منزل في شأني وحيًا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج أحدٌ من أهل البيت حتى أُنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاء، حتى أنه ليتحدر منه العرق مثل الجمعان – وهو في يوم شات – من ثقل القول الذي أنزل عليه.قالت: فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة، أما الله فقد برأك. قالت: فقال لي أمي: قومي إليه، فقلت: لا والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل.قالت: وأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11]. العشر الآيات. ثم أنزل الله تعالى هذا في براءتي.قال أبو بكر الصديق- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22].قال أبو بكر الصديق: بلى. والله، إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا.قالت عائشة: وهي التي كانت تُساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعصمها الله بالورع. قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك، قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط. ثم قال عروة: «قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أثنى قط. قالت: ثم قُتل بعد ذلك في سبيل الله». أمن يجيب المضطر إذا دعاهيغتر بعض الناس بالمظاهر التي يتلبس بها من لا خلاق له، ونحن لا نعلم ببواطن الشر، ولكن الله تعالى يظهر تلك البواطن على فلتات اللسان، وقسمات الوجه، ويخرج ما يكتمون، وقد روي عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أنه قال: من أسرَّ سريرة كساه الله جلبابها، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره عند قول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]. أن الحافظ ابن عساكر ذكر في ترجمة أبي بكر محمد بن داود الدينوري أنه قال: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزيداني، فركب معي ذات مرة رجل فمررنا في بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ مع هذه الطريق فإنها أقرب، فقلت: لا خيرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب فسلكناها حتى انتهينا إلى مكان وعر، وواد عميق وفيه قتلى كثير، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكينًا معه وقصدني ففرت منه فتبعني فناشدته الله تعالى وقلت له: خذ البغل وما عليه فقال: هو لي وفي يدي ولا أشاورك فيه.فقلت له: فماذا تريد؟ قال: أريد قتلك، فخوفته الله وذكرته العقوبة فلم يقبل مني فاستسلمت بين يديه وقلت له: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين؟ قال: نعم، جل فيهما... وهكذا يعرف الصالحون يتعاملون مع الرب ويحسنون الاتصال به ويقدمون العمل الصالح ويلجؤون إليه ويوقنون أن الاتصال البشري لا يجدي فهم في مناجاة مع الرب، وصاحب هذا العمل لا يخسر؛ بل إن قتل فيكون قد ودع الدنيا بأفضل الأعمال، وإن بقي فيكون قد تسلح بسلاح قوي وزادت علاقته وصلته بربه ولو عرف الناس هذا الخير ما تركوه، ولقضيت حاجاتهم في كل وقت، وفي كل حين، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا.قال اللص للدينوري عجّل عليَّ فقام المركوب يصلي فأرتج عليه القرآن ونسيه كله من هول الموقف، إذ السيف على رأسه واللص يقول عجل قبل أن يكبر وعند التكبير وبعد التكبير وفي كل لحظة فما تذكر من القرآن شيئًا حتى الفاتحة يقول: فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول: هيه أفرغ، فبينما أنا فيه همّ وضيق ألقى الله على لساني: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾. فقرأتها فإذا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل، فما أخطأت فؤاده فخر صريعًا فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ قال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمار ورجعت سالمًا([8]).وما أشبه هذه القصة بقصة أبي معلق الصحابي الجليل الذي كان يتجر بماله وكان ناسكًا ورعًا فخرج مرة بتجارته فلقيه لص مقنع في السلاح فقال: ضع ما معك فإني قاتلك، قال: خذ المال، قال: سآخذه ولكني أريد روحك، قال: إذن اتركني أصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، فتوضأ أبو معلق وأحسن وضوءه ثم استقبل القبلة وصلى أربع ركعات من أحسن ما صلى خشوعًا وخضوعًا فلما سجد السجدة الأخيرة من الركعة الرابعة دعا وقال: يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، فإذا بذاك الفارس قد أقبل وبيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه الفارس فقتله, ثم أقبل إليه فقال: قم فقام وأتم صلاته ثم سلم وقال: من أنت فقد أغاثني الله بك اليوم؟ قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوة بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله([9]). هكذا العلماءقال الأوزاعي: لما قدم عبد الله بن علي الشام وفرغ من قتل بني أمية، جلس يومًا على سريره، ودعا أصحابه أربعة أصناف: معهم السيوف مسللة صنف، ومعهم الجزرة([10]) صنف، ومعهم الأعمدة([11]) صنف، ومعهم الكافركوب([12]) صنف، ثم بعث إليَّ، فلما صرت بالباب أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضدي ثم أدخلوني بين الصفوف وأنا أتخطى القتلى – وكان يومئذ قتل نيفًا وسبعين بالكفاركوبات – حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فسلمت عليه، فلم يرد، وأخذ ينكت بخيزرانة كانت في يده، ثم أشار بيده فأجلست على كرسي.فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير.قال: يا أوزاعي، ما ترى في ما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادًا ورباطًا هو؟ فقلت: أصلح الله الأمير قد كان بيني وبين داود بن علي مودة.قال: لتخبرني.ففكرت ثم استسلمت للموت.فقلت: أيها الأمير سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».فنكت بالخيزرانة أكثر مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم.ثم قال: فما تقول في أموالهم؟قلت: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرامٌ عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل عليك إلا بطريق شرعي.فنكت أشد مما ينكت من قبل.ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية؟فسألني مسألة رجل يريد أن يقتل رجلاً، فحرت.فقال: قد علمت من حيث حدث، أجب إلى ما سألتك عنه.قلت: قد كان لهم عليك عهد، وإن كان ينبغي لك أن تفي لهم بالعهد الذي جعلته.قال: ويحك اجعلني وإياهم لا عهد بيننا.فأجهشت نفسي وكرهت القتل فذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها.فقلت: دماؤهم عليك حرامٌ.فغضب؛ وانتفخت أَوْداجُه واحمرت عيناه.فقال: ويحك ولم؟فقلت: حدثني أخوك داود بن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بواحدة من ثلاث: الدم بالدم، والثيب الزاني، والمرتد عن الإسلام».قال: إنك لتقول هذا؟!ونكت بالخيزرانة أشد من ذلك.قلت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله.قال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟قلت: كيف ذاك؟قال: أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى لعلي؟قلت: لو أوصى إليه لما حكم الحكمين.فسكت وقد اجتمع غضبًا، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي.ثم قال: ألا نوليك القضاء؟فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون عليَّ في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤوني به من الإحسان.فقال: كأنك تحب الانصراف.فقلت: إن ورائي حرمًا وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببي.ونكس ونكست أنتظر، فأطلت ثم قلت: البول.فأشار بيده هكذا – أي اذهب – فقمت فجعلت لا أخطو خطوة إلا ظننت أن رأسي تقع عندها.فخرجت فركبت وسرت غير بعيد فإذا برسوله ورائي, فنزلت.وقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين. فكبرت فجاء وأنا قائم أصلي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: استنفق هذه.قال: ففرقتها قبل أن أدخل بيتي؛ وإنما أخذتها خوفًا.ويُقال: إن الأمير عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده([13]). أدرك الحسن بن سفيانمن غريب ما اتفق له: أن الحسن بن سفيان كان هو وجماعة من أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الحديث، فضاق عليهم الحال حتى مكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون فيها شيئًا، ولا يجدون ما يبيعونه للقوت، فاضطرهم الحال إلى تجشم السؤال، وأنفت أنفسهم من ذلك، وعزت عليهم وامتنعت كل الامتناع، والحاجة تضطرهم إلى تعاطي ذلك، فاقترعوا في ما بينهم: أيهم يقوم بأعباء هذا الأمر، فوقعت القرعة على الحسين بن سفيان هذا.فقام عنهم، فاختلى في زاوية المسجد الذي هم فيه، فصلى ركعتين أطال فيهما، واستغاث بالله عز وجل، وسأله بأسمائه العظام، فما انصرف من الصلاة حتى دخل المسجد شابٌ حسن الهيئة مليحُ الوجه فقال: - أين الحسنُ بن سفيان؟فقلت: أنا.فقال: الأمير طولون يقرأ عليكم السلام ويعتذر إليكم في تقصيره عنكم، وهذه مائة دينار لكل واحد منكم.فقلنا له: ما الحامل له على ذلك؟فقال: إنه أحب أن يختلي اليوم بنفسه، فبينما هو الآن نائمٌ إذ جاءه فارسٌ في الهواء بيده رمحٌ فدخل عليه منزله، ووضع عقب الرمح في خاصرته فوكزه، وقال: قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه، قم فأدركهم، قم فأدركهم، فإنهم منذ ثلاث جياع في المسجد الفلاني.فقال له: من أنت؟فقال: أنا رضوان خازن الجنة.فاستيقظ الأمير وخاصرته تؤلمه ألمًا شديدًا.فبعث بالنفقة في الحال إليكم.ثم جاء لزيارتهم واشترى ما حول ذلك المسجد ووقفه على الواردين عليه من أهل الحديث. جزاه الله خيرًا([14]). اصبر ... فالفرج قريبعن بعض تجار الكرخ ببغداد، قال: كنت أعامل رجلاً من الخراسانية، أبيع له في كل موسم متاعًا، فأنتفع من سمسرته بألوف دراهم.فلما كان سنة من السنين تأخر عني، فأثر ذلك في حالي، وتواترت عليَّ محن، فأغلقت دكاني وجلست في بيتي، مستترًا من دَيْنٍ لحقني، أربع سنين.فلما كان في وقت الحاج، تتبعت نفسي خبر الخراساني، طمعًا في إصلاح أمري به، فمضيت إلى سوق يحيى فلم أعط له خبرًا، فرجعت، فنزلت الجزيرة وأنا تعب مغموم.وكان يومًا حارًا، فنزلت إلى دجلة، فتغسلت، وصعدت، فابتل موضع قدمي، فقلعت رجلي قطعة من الرمل، انكشفت عن سيرٍ([15]).فلبست ثيابي، وجلست مفكرًا أولع بالسير، فلم أزل أجره حتى ظهر لي هميان([16]) موصول به، فأخذته، فإذا هو مملوء دنانير، فأخفيته تحت ثيابي، ووافيت منزلي، فإذا فيه ألف دينار.فقويت نفسي قوة شديدة، وعاهدت الله عز وجل، أنه متى صلحت حالي، وعادت، أن أعرف الهميان، فمن أعطاني صفته، رددته عليه([17]).واحتفظت بالهميان، وأصلحت أمري مع غرماني، وفتحت دكاني، وعدت إلى رسمي من التجارة والسمسرة، فما مضت إلا ثلاث سنين حتى حصل في ملكي ألوف دنانير.وجاء الحُجَّاج، فتتبعتهم لأعرف الهميان، فلم أجد من يعطيني صفته، فعدت إلى دكاني.فبينما أنا جالس، إذا رجل قائم حيال دكاني، أشعث، أغبر، وافي السبال([18])، في خلقه سؤال([19]) الخراسانية وزيهم، فظننته سائلاً، فأومأت إلى دريهمات لأعطيه، فأسرع الانصراف، فارتبت به، فقمت، ولحقته، وتأملته، فإذا هو صاحبي الذي كنت أنتفع بسمسرته في السنة بألوف دراهم.فقلت له: يا هذا، ما الذي أصابك؟ وبكيت رحمة له.فبكى، وقال: حديثي طويل.فقلت:البيت، وحملته إلى منزلي، فأدخلته الحمام، وألبسته ثيابًا نظافًا، وأطعمته، وسألته عن خبره.فقال: أنت تعرف حالي ونعمتي، وإني أردت الخروج إلى الحج في آخر سنة جئت إلى بغداد، فقال لي أمير البلد: عندي قطعة ياقوت أحمر كالكف، لا قيمة لها عظمًا وجلالة، ولا تصلح إلا للخليفة، فخذها معك، فبعها لي ببغداد، واشتر لي من ثمنها متاعًا طلبه، من عطر، وطرف، بكذا وكذا، وأحمل الباقي مالاً.فأخذت القطعة الياقوت، وهي كما قال، فجعلتها في هميان جلد، من صفته كيت وكيت، ووصف الهميان الذي وجدته، وجعلت في الهميان ألف دينار عينًا من مالي، وحملته في وسطي.فلما جئت إلى بغداد، نزلت أسبح عشيًا في الجزيرة التي بسوق يحيى، وتركت الهميان وثيابي بحث ألاحظها.فلما صعدت من دجلة، لبست ثيابي عند غروب الشمس، وأنسيت الهميان، فلم أذكره إلى أن أصبحت. فعدت أطلبه، فكأن الأرض ابتلعته.فهونت على نفسي المصيبة، وقلت: لعل قيمة الحجر ثلاثة آلاف دينار، أغرمها له.فخرجت إلى الحج، فلما رجعت، حاسبتك على ثمن متاعي، واشتريت للأمير ما أراده، ورجعت إلى بلدي، فأنفذت إلى الأمير ما اشتريته، وأتيته، فأخبرته بخبري.وقلت له: خذ مني تمام ثلاثة آلاف دينار، عوضًا عن الحجر.فطمع في، وقال: قيمته خمسون ألف دينار، وقبض عليَّ، وعلى جميع ما أملكه من مال ومتاع، وأنزل بي صنوف المكاره، حتى أشهد عليَّ في جميع أملاكي([20])، وحبسني سبع سنين، كنت يردد علي فيها العذاب.فلما كان في هذه السنة، سأله الناس في أمري، فأطلقني.فلم يمكنني المقام ببلدي، وتحمل شماتة الأعداء، فخرجت على وجهي، أعالج الفقر، بحيث لا أعرف، وجئت مع الحج الخراساني، أمشي أكثر الطريق، ولا أدري ما أعمل، فجئت إليك لأشاورك في معاش أتعلق به.فقلت: قد رد الله عليك بعض ضالتك، هذا الهميان الذي وصفته، عندي وكان فيه ألف دينار أخذتها، وعاهدت الله تعالى، أنني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني أنت صفته، وعلمت أنه لك، وقمت، فجئته بكيس فيه ألف دينار.وقلت له: تعيش بهذا في بغداد، فإنك لا تعدم خيرًا إن شاء الله.فقال لي: يا سيدي الهميان بعينه عندك، لم يخرج عن يدك؟قلت: نعم.فشهق شهقة، ظننت أنه قد مات معها، وغُشِيَ عليه، فلما أفاق بعد ساعة، قال لي: أين الهميان؟فجئته به، فطلب سكينًا، فأتيته بها، فخرج أسفل الهميان، وأخرج منه حجر ياقوت أحمر، أشرق منه البيت، وكان يأخذ بصري شعاعه، وأقبل يشكرني، ويدعو لي.فقلت له: خذ دنانيرك.فحلف بكل يمين، لا يأخذها منها إلا ثمن ناقة، ومحمل، ونفقة تبلغه، فبعد كل جهد أخذ ثلاثمائة دينار، وأحلني من الباقي، وأقام عندي، إلى أن عاد الحاج، فخرج معهم.فلما كان العام المقبل، جاءني بقريب مما كان يجيئني به سابقًا من المتاع.فقلت له: أخبرني خبرك.فقال: مضيت، فشرحت لأهل البلد خبري، وأريتهم الحجر، فجاء معي وجوههم إلى الأمير، وأعلموه القصة، وخاطبوه في إنصافي.فأخذ الحجر، ورد عليَّ جميع ما كان أخذه مني، من متاع، وعقار، وغير ذلك، ووهب لي من عنده مالاً.وقال: اجعلني في حل مما عذبتك وآذيتك، فأحللته.وعادت نعمتي إلى ما كانت عليه، وعدت إلى تجارتي ومعاشي، وكل هذا بفضل الله تعالى وبركتك، ودعا لي.وكان يجيئني بعد ذلك، حتى مات([21]). اللهم عجَّل فَرَجهعن عبد العزيز بن موسى قال:ما رأيت أحدًا قط أعبد لله عز وجل، ولا أشد خوفًا من بزيع بن زريع، أخي يزيد بن زريع، وكان قد دبرت مواضع السجود من جسده ووجهه، ولما مات زريع أبوه خلف مالاً كبيرًا، ورباعًا ودَيْنًا عريضة، فلم يأخذ بزيع ولا يزيد أخوه من ميراثه شيئًا، وتركا ذلك، فأخذه أقاربهما وهما حاضران قد سلما لهم ذلك. وكان بزيع هذا مُجاب الدعوة من وقته وساعته، ولقد أتاه يومًا رجل من جيرانه، كان بزيع يعرفه بالعفاف والخير والستر. ثم ظهرت عليه الفاقة، فأتى إلى بزيع فوجده يصلي فجلس إلى جانبه الأيمن، فعلم بزيع أن له إليه حاجة، فأوجز وسلم، وأقبل بوجهه عليه فقال له الرجل:ما جئتك حتى أجهدني الضر، وأجهد عيالي، ولم آتك إلا ملتمسًا لبركة دعائك، وإني لواثق بالله عز وجل في رزقي، متوكل عليه، لكني أريد أن تدعو الله لي في تعجيله وتيسيره.فقال بزيع: اللهم عجل فرجه، والطف له من سعة فضلك.ثم رجع إلى صلاته، فما كان إلا نحو ساعتين، وذلك الرجل قاعد على يمين بزيع، ولم يبرح، حتى أقبل رجل له جدة وثروة فجلس إلى جانب بزيع الأيسر، فعلم بزيع أن له إليه حاجة، فأوجز وسلم وأقبل عليه فقال له الرجل: إن عندي مائة دينار من وجه طيب، أمرني صاحبها أن أدفعها إلى مستحق، فأنا مهموم بها منذ مدة كذا وكذا، فلما أردت دفعها إلى إنسان، عارضني فيه شك في أن يكون مستحقًا أم لا، فإني في ساعتي هذه لنائم إذ أتاني آتٍ في منامي فقال لي: «امض بالدنانير التي عندك إلى بزيع فأنفذ فيها أمره» وهي هذه قد أتيتك بها. ثم أخرجها من كمّه في صرة. فقال له بزيع: ادفعها إلى هذا الرجل.والرجل لم يكن زال بعد من موضعه، فدفعها إليه، ونهضا جميعًا. ومضى كل واحد منهما إلى منزله، وقام بزيع إلى صلاته، فأقبل عليها كما كان قبل ذلك([22]). الباحث عن الحقيقةعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان» [رواه الترمذي وحسنه الألباني].وقصة إسلام سلمان الفارسي وتحريه وطلبه للحق، آفاقٌ ومنارةٌ لا يُدرك شأوها، لسان حاله يقول: تركنا البحار الزاخرات وراءنا فمن أين يدري الناس أنى توجهنا عن ابن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلاً فارسيًا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يُقال لها: «جيّ»([23])، وكان أبي دهقانها، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل بي حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فَشُغِلَ في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها. وأمرني ببعض ما يريد، فخرجت، ثم قال: لا تحتبس عليَّ، فإنك إن احتبست عليَّ، كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت إليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلواتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خيرٌ من الدين الذي نحن عليه. فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصْلُ هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا والله! إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته. قال: وبعثت إلى النصارى فقلت: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم. فقدم عليهم ركب من الشام. قال: فأخبروني بهم، فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة، فأخبروني. قال: ففعلوا. فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك. قال: فادخل. فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئًا اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضًا شديدًا؛ لما رأيته يصنع. ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا رجل سوء، يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فإذا جئتم بها، كنزها لنفسه، ولم يُعط المساكين. وأريتهم موضع كنزه سبع قلال مملوءة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا. فصلبوه ثم رموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل جعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً – يعني لا يصلي الخمس – أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا، ما أعلمني أحببت شيئًا قط قبله حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان، قد حضرك ما ترى من أمر الله، وإني والله ما أحببت شيئًا قط حبك، فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟ قال لي: يا بني والله ما أعلمه إلا رجلاً بالموصل، فأته، فإنك ستجده على مثل حالي. فلما مات وَغُيِّب، لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد، فقلت له: إن فلانًا أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك. قال: فأقم أي بني. فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة، فقلت له: إن فلانًا أوصى بي إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني به؟ قال: والله ما أعلم، أي بني، إلا رجلاً بنصيبين. فلما دفناه، لحقت بالآخر، فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره الموت، فأوصى بي إلى رجل من أهل عمورية بالروم، فأتيته فوجدته على مثل حالهم، ,اكتسبت حتى كان لي غنيمة وبقيرات. ثم احتضر، فكلمته؛ إلى من يوصي بي؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه. فلما واريناه، أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم غنيمتي وبقراتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا جاؤوا بي وادي القرى، ظلموني، فباعوني عبدًا من رجل يهودي بوادي القرى، فوالله لقد رأيت النخل، وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي. وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة وادي القرى، فابتاعني من صاحبي، فخرج بي حتى قدمنا المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفت نعتها. فأقمت في رقي، وبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكة، لا يُذكر لي شيء من أمره مع ما أنا فيه من الرق، حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له، فوالله إني لفيها إذ جاءه ابن عم له، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لفي قباء، مجتمعون على رجل جاء من مكة، يزعمون أنه نبي. فوالله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذتني العرواء – يقول: الرعدة – حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك. فقلت: لا شيء، إنما سمعت خبرًا، فأحببت أن أعلمه. فلما أمسيت، وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء، فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحابًا لك غرباء، وقد كان عندي شيء من الصدقة فرأيتكم أحق مَنْ بهذه البلاد، فهاك هذا، فكل منه. قال: فأمسك، وقال لأصحابه: «كلوا». فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي. ثم رجعت، وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فجمعت شيئًا كان عندي ثم جئته به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية. فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل أصحابه، فقلت: هذه خلتان. ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو في أصحابه، فاستدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف، فلما رآني استدبرته، عرف أني أتثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي: «تحول». فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه.ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كاتب يا سلمان» فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أعينوا أخاكم». فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية([24])، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، حتى اجتمعت ثلاثمائة ودية، فقال: «اذهب يا سلمان، ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي». ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها، جئته وأخبرته، فخرج معي إليها نقرب له الوادي، ويضعه بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي عليَّ المال. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» فدعيت له، فقال: «خذها فأد بها ما عليك». قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟ قال: «خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك». فأخذتها فوزنت لهم منها أربعين أوقية، وأوفيتهم حقهم وعتقت، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق حرًا، ثم لم يفتني معه مشهدٌ([25]). قصة النفر الثلاثةأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها؛ لعله يفرجها فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحليب فقمت عند رأسيهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج لهم فرجة، وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار فسعيت حتى جمعت مائة دينار فلقيتها بها فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله، اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة، وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا لم أعرفه، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عين حقه، فتركه، ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرًا وراعيها، فجاءني وقال: اتق الله ولا تظلمني، وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى تلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك فخذ تلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي، ففرج الله عنهم». اللهم خذ لي بقلب الحجاجذكر التنوخي في «الفرج بعد الشدة» عن أبي سعد البقال أنه قال: كنت محبوسًا في ديماس الحجاج، ومعنا إبراهيم التيمي، فبات في السجن، فأتى رجل، فقال له: يا أبا إسحاق، في أي شيء حُبِست؟فقال: جاء العريف، فتبرأ مني وقال: هذا كثير الصوم والصلاة، وأخاف أن يرى رأي الخوارج.فإنا لنتحدث مع مغيب الشمس، ومعنا إبراهيم التيمي، إذ دخل علينا رجل السجن، فقلنا: يا عبد الله، ما قصتك وأمرك؟فقال: ما أدري ولكني أخذت في رأي الخوارج، ووالله، إنه لرأي ما رأيته قط، ولا أحببته، ولا أحببت أهله، يا هؤلاء، ادعوا لي بوَضوء([26])، فدعونا له به، ثم قام فصلى أربع ركعات، ثم قال: اللهم إنك تعلم إني كنت على إساءتي وظلمي، وإسرافي على نفسي لم أجعل لك ولدًا، ولا شريكًا، ولا ندًا، ولا كفؤًا، فإن تعذب فعدل، وإن تعف فإنك أنت العزيز الحكيم، اللهم إني أسألك يا من لا تغلطه المسائل، ولا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، أن تجعل لي في ساعتي هذه فرجًا ومخرجًا مما أنا فيه، من حيث أرجو ومن حيث لا أرجو، وخذ لي بقلب عبدك الحَجَّاج، وسمعه وبصره ويده ورجله حتى تخرجني في ساعتي هذه فإن قلبه وناصيته بيدك يا رب يا رب.قال: وأكثر، فوالذي لا إله غيره، ما انقطع دعاؤه حتى ضرب باب السجن، وقيل: أين فلان؟ فقام صاحبنا، فقال: يا هؤلاء، إن تكن العافية، فوالله لا أدع الدعاء لكم، وإن تكن الأخرى فجمع الله بيننا وبينكم في مستقر رحمته.قال: فبلغنا من الغد أنه خُلِّيَ سبيله([27]). ثبات امرأة!عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام فأسلمت وهي بمكة، وهي إحدى نساء قريش ثم إحدى بني عامر بن لؤي، وكانت تحت أبي العسكر الدوسي فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًا فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكن سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني ولا يسقوني، قالت: فما أتت على ثلاث حتى ما في الأرض شيء أسمعه، قالت: فنزلوا منزلاً، وكانوا إذا نزلوا منزلاً أوثقوني في الشمس واستظلوا هم منها، وحبسوا عني الطعام والشراب، فلا تزال تلك حالي حتى يرتحلوا، قالت: فبينما هم قد نزلوا منزلاً وأوثقوني في الشمس، واستظلوا منها إذ أنا بأبرد شيء على صدري، فتناولته فإذا هو دلو من ماء، فشربت منه قليلاً، ثم نُزع فرفع، ثم عاد فتناولته فشربت منه، ثم رفع، ثم عاد أيضًا فتناولته فشربت منه قليلاً، ثم رفع، قالت: فصنع بي مرارًا، ثم ركعت فشربت حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، قالوا لي: أتحللت، فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ قلت: لا والله ما صنعت، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، قالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا أسقيتهم وجدوها كما تركوها، فأسلموا عند ذلك، وأقبلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوهبت نفسها له بغير مهر، فقبلها ودخل عليها([28]). تلمسوا أسباب الفرجفي غرفة ذات ثلاثة أَسِرَّة بيضاء، كان يرقد على السرير الأوسط رجل في غيبوبة تامة، لا يعي ما حوله من أجهزة مراقبة التنفس والنبض وأنابيب المحاليل الطبية.وفي كل يوم منذ أكثر من عام ودون انقطاع كانت تزور ذلك الرجل امرأة ومعها صبي في الرابعة عشرة من عمره ينظران إليه بحنان وشفقة ويغيران ملابسه ويتفقدان أحواله ويسألان الجهاز الطبي عنه ولا جديد في الأمر. الحالة كما هي لا تقدم ولا تأخر في صحته. غيبوبة تامة وأمل مفقود من شفائه وقبل أن تغادر المرأة والصبي يرفعان أكف الضراعة إلى الله، ثم يغادران المستشفى ويعودان مرة أخرى للزيارة الثانية في نفس اليوم وهكذا دواليك.المرضى وهيئة التمريض والأطباء في استغراب تام من زيارة المرأة والصبي رغم أنه لا جديد في حياة المريض، ما هذا الإصرار العجيب على تكرار الزيارة مرتين في اليوم رغم أنه لا يعي أي شيء حوله، وفي غيبوبة تامة... كلموها بعدم جدوى زيارتها له ودعوها للزيارة مرة في الأسبوع. وكانت المرأة لا ترد إلا بكلمة «الله المستعان»... «الله المستعان»... وهكذا. وذات يوم، وقبل موعد زيارة المرأة والصبي بوقت قصير، تحرك الرجل في سريره وتقلب من جنب إلى جنب آخر ثم فتح عينيه وأبعد جهاز الأوكسجين واعتدل في جلسته ثم نادى الممرضة وسط ذهول الحضور وطلب منها إبعاد الأجهزة الطبية المساعدة، فرفضت واستدعت الطبيب الذي كان في حالة ذهول تام، وأجرى فحوصًا سريعة له، فوجد الرجل في منتهى الصحة والعافية وطلب إبعاد الأجهزة وتنظيف مكانها في جسده.وكان موعد الزيارة قد بدأ. ودخلت المرأة والصبي وما أن رأياه حتى اختلطت الدموع بالابتسامات، والبكاء بالدعاء والحمد والثناء لله الذي أتم نعمة العافية على زوجها. وهنا قال الطبيب للمرأة: هل توقعت أن تجديه يومًا ما بهذه الحالة؟ فقالت: نعم والله كنت أتوقع أن أدخل عليه يومًا وأجده جالسًا بانتظارنا... فقال لها: إن هناك شيئًا ما حصل، ليس للمستشفى أو الأطباء دورٌ فيه. فبالله عليك أخبريني لماذا تأتين يوميًا مرتين، وماذا تفعلين؟ قالت: بما أنك سألتني بالله فأقول لك: كنت أزور زوجي الزيارة الأولى للاطمئنان عليه والدعاء له، ثم أذهب أنا وابني إلى الفقراء والمساكين في الأحياء الشعبية ونقدم لهم الصدقات بغية التقرب إلى الله لشفائه. فلم يخيب الله رجاءنا ودعاءنا، فخرجت في آخر زيارة وزوجها معها إلى البيت الذي طال انتظاره لعودة صاحبه إليه، لتعود البسمة والنور والفرحة له وإلى أفراد أسرته. وأنا بدوري أكرر لكم ما أقوله: لا تيأسوا ولكن تلمسوا الأسباب واجتهدوا في الدعاء والصبر والصلاة والله المستعان([29]). مرحبًا بالموتهذه إحدى الفتيات الصالحات، سلكت درب الهداية والخير، وراقبت الله تعالى في أقوالها وأفعالها، ثم يسر الله لها شابًا صالحًا مستقيمًا، فتزوجها، وعاشا معًا حياة هادئة طيبة، في ظل طاعة الله تعالى، والتزام أوامره.ويقدر الله تعالى أن ينتقل عمل الزوج إلى مدينة صغيرة، فانتقلت الزوجة مع زوجها إلى تلك المدينة الصغيرة، وأقاما سويًا هناك، وحملت تلك المرأة الصالحة في تلك المدينة بمولودها الأول، ومرت عليها شهور الحمل بطيئة مملة، مصحوبة بعناء الحمل ومشاقه العسيرة، وحانت ساعة الولادة، واشتدت آلام المخاض على تلك الفتاة الصالحة، وتعسرت ولادتها كولادة طبيعية، فأسرع بها زوجها إلى المستشفى الوحيد في المدينة، لتتم ولادتها تحت إشراف طبيبة النساء والولادة في ذلك المستشفى المتواضع، ولكن المفاجأة كانت, أن طبيبة النساء تلك، كانت في إجازة اضطرارية ولن تعود إلى عملها إلا بعد أربعة أيام، ولا يوجد أحد يقوم بعمليات التوليد إلا طبيب رجل!ووسط الآلام الرهيبة التي تعاني منها زوجته، رق قلبه لها، فوافق على أن يجري لها الطبيب الرجل عملية الولادة القيصرية، على اعتبار أن هذا من باب الضرورات، ثم عاد إلى زوجته التي تئن وتصرخ وتتلوى من شدة الألم، وأخبرها بهذا النبأ المؤلم، فما كان من الزوجة إلا أن صرخت بأعلى صوتها قائلة: والله لا يكون هذا أبدًا! رجل يولدني!، ليت أمي لم تلدني! فبادرها زوجها قائلاً: زوجتي العزيزة: أرجوك افهميني! أنا لست ممن نزعت الغيرة من قلوبهم، فأصبحوا يرضون بأن تتكشف نساؤهم ومحارمهم أمام الرجال الأجانب – حتى ولو كانوا أطباء -، ولكن مراعاة مني لحالتك الصحية، وافقت على ذلك، وأنا أخشى إن لم يقم الطبيب بإجراء عملية الولادة أن تموتي!فقالت له والابتسامة تعلو محياها: مرحبًا بالموت! كلنا سنموت! ثم أنسيت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المرأة تموت في نفاسها شهيد»، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه!حاول الزوج أن يقنعها، ولكنها رفضت بكل إصرار، وبالفعل عاد بها إلى بيته!، وما كادت تمضي ساعة على وصولها إلى البيت، حتى فرج الله عنها كربتها، وتمت ولادتها، وخرج المولود على خير حال، فالحمد لله أولاً وأخرًا.فكانت بعد ذلك، تداعب زوجها وتقول له: ألم أقل لك: «من ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه»([30]). شعرة معاويةتزوجت إلهام قريبها بِنَاءً على رغبة أبداها لأهلها، فلم تمانع لأنه رفيق الطفولة. وعاشا في سعادة بضعة أشهر، ثم بدأت تطفو على السطح خلافات يمكن تجاوزها بالمرونة قليلاً، والتفاضل أحيانًا كثيرة، ولكن حبهما للأطفال جعلهما أكثر حساسية وأعمق تأويلاً لكل حركة، أو كلمة، وخاصة بعد مضي سنتين دون إنجاب، مع أن الأطباء أخبروهما بسلامتهما من كل عيب أو مانع للإنجاب، لكن إرادة الله فوق كل علم.بدأت الخلافات تتجاوز غرفتهما لتصل إلى أسماع أهل الزوج الذين يسكنان معهم، وكثيرًا ما يُستدعى الوالدان للإصلاح أو للتحاكم وتقاربت فترات الخلافات والشجار حتى أصبحت الشغل الشاغل لأهل البيت، ووصلت إلى أهل الزوجة فأُسندت إليهم مهمة الإصلاح التي قبلوها متفائلين تفاؤلاً مريضًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومما يؤسف أنها خلافات كخلافات الأطفال، يثورون لأتفه سبب ويرضون بأسرع وقت، ولكن هذه الخلافات المتكررة على مدى سبع سنوات تركت آثارًا وترَّات كما تترك المعصية نقطة سوداء في قلب المؤمن، وضاق الأهل ذرعًا فوجد أهل الطرفين أن العلاقة الزوجية بينهما صارت مرضًا عضالاً لا برء منه إلا بمشرط يعيد الصحة لكليهما، فكان الطلاق.خطب كثيرًا من الفتيات لكنه كان يحجم في آخر لحظة خوفًا من المجهول، فهو يعرف قريبته ولم يستطع التفاهم معها، ومضى على ذلك سبع سنوات كانت هي أيضًا تُخْطَب ولكنها ترفض أن تعيد التجربة. وما زالت مرارة الفشل في فمها، وعاث بعض المتطفلين في إفساد العلاقة خوفًا أن تعود لغايات في نفس يعقوب، ولكن كَلَّا لا يصدق عن الآخر شيئًا، فأرادوا شيئًا وأراد الله شيئًا آخر.عندما وجد أهل الزوجين أن المدة طالت دون زواج منهما، اقترحوا عليهما أن يعودا إلى بعضهما عسى أن تكون التجربة قد أفادتهما، ورغم تخوف الأهل وتخوف الزوجين لكنهما عادا بعد سبع سنوات بروح وعزم على تخطي العقبات وتجاوز الهفوات وتحكيم العقل والحفاظ على شعرة معاوية بأن يشد أحدهما عندما يرخي الآخر، ولتكن المرونة والحوار الهادئ المثمر علاجًا لمشاكلها، وهذا أفضل من الخوض في مجهول جديد ومخاطر قد لا تحمد عقباها.بدأ الأمر صعبًا لكن نفوسهما كانت أكثر تكيفًا وقلوبهما أكثر تجاوبًا وعقولهما أوسع إدراكًا فاجتازا الصعوبات. وتشاء قدرة الله أن تمنحهما طفلاً بعد تسعة شهور، وعندما سألوا الطبيب قال: قد تكون حالة نفسية؛ لأن كلاً منهما كان يرفض الآخر في عقله الباطن، أو أن كثرة الخلافات وعدم الأمن النفسي كان سببًا في ذلك وأولها إرادة الله وحكمته.وبعد الطفل أعقبه سبعة أطفال بنين وبنات، وعندما تزوجت أول ابنة لهما وهما في الخمسين من العمر كانا ينصحانها بالصبر والتعقل، ويحكيان لأولادهما تجربتهما ويضحكان لأنها صارت ذكرى، وأن قدرة الله تجعل المستحيل ممكنًا والحزن سهلاً.﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21]([31]). إذا سألت فاسأل اللهكان إبراهيم بن أدهم إذا أراد الغزو اشترط على أصحابه الأذان والخدمة ألا يكون خادمهم ومؤذنهم غيره. فجاء أصحابه يومًا فقالوا له: يا أبا إسحاق، عزمنا على الغزو ولو نعلم أنك تأكل مما عندنا لسرنا ذلك وقد تناهدنا.قال: وكم تناهدتم؟قالوا: دينارًا دينارًا.قال: أرجو بصنع الله.ثم تنحى ناحية فقال: «من أي أخ أستقرض دينارًا، فلان ما أظنه يخف عليه بل فلان ما أظنه يخف عليه» ثم استفاق فبكى وجرت دموعه وقال: «واسوأتاه أطلب من العبيد وأنزل مولاهم، فأيسر ما يقول لي العبد إنما دفع إلي مولاي شيئًا، فإن أمرني أن أدفع إليك منه شيئًا دفعته، فبعد بذل وجهي إلى العبد أرجع إلى المولى، أفليس يقول لي المولى: (من كان أحق أن تطلب إليه أنا أو عبدي) فيا سوأتاه». ثم انحدر إلى الشط فتوضأ. ثم صلى وخر ساجدًا وقال: «يا رب، قد علمت ما كان مني، وذلك لجهلي وخطئي، فإن عاقبتني عليه فأنا أهل لذلك، وإن عفوت عني فأنت أهل لذلك، وقد عرفت حاجتي فاقضها برحمتك».فوقع بنفسه أن ينظر عن يمينه، فإذا هو بنحو أربعمائة دينار، فتناول منها دينارًا واحدًا، وأمسك عن سائرها، وقيدت عنه، ثم جاء إلى أصحابه، فدفع إليهم الدينار، وأنكروا حاله فسألوه فكتمهم ذلك، وسكت فلم يخبرهم بشيء من أمره([32]). لا تيأس من روح اللهكان ينزل بباب الشام من الجانب الغربي من بغداد رجلٌ مشهورٌ بالزهد والعبادة يقال له: لبيب العابد، لا يعرف إلا بهذا، وكان الناس ينتابونه، وكان صديقًا لأبي، فحدثني لبيب وقال: كنت مملوكًا روميًا لبعض الجند، فرباني، وعلمني العمل بالسلاح حتى صرت رجلاً، ومات مولاي بعد أن أعتقني، فتوصلت إلى أن حصلت رزقة لي، وتزوجت بامرأته، وقد علم الله أنني لم أرد بذلك إلا صيانتها، فأقمت معها مدة، ثم اتفق أنني رأيت يومًا حية داخلة في جحرها، فأمسكت ذنبها، فانثنت علي فنهشت يدي فشلت ومضى على ذلك زمان طويل، فشلت يدي الأخرى لغير سبب أعرفه، ثم جفت رجلاي ثم عميت ثم خرست.وكنت على تلك الحال ملقى سنة كاملة، لم تبق لي جارحة صحيحة إلا سمعي أسمع به ما أكره، وأنا طريح على ظهري لا أقدر على الكلام ولا على الحركة.وكنت أسقى وأنا ريان، وأترك وأنا عطشان، وأهمل وأنا جائع، وأطعم وأنا شبعان، فلما كان بعد سنة دخلت امرأة على زوجتي، فقالت: كيف أبو علي؟ فقالت لها زوجتي: لا حي فيرجى ولا ميت فيسلى.فأقلقني ذلك وآلمني ألمًا شديدًا.وبكيت ورغبت إلى الله عز وجل في سري بالدعاء، وكنت في جميع تلك العلل لا أجد ألمًا في جسمي، فلما كان في بقية ذلك اليوم ضرب على جسمي ضربانًا عظيمًا، كاد يتلفني، ولم أزل على تلك الحال إلى أن دخل الليل، وانتصف، فسكن الألم قليلاً فنمت.فما أحسست إلا وقد انتبهت وقت السحر، وإحدى يدي على صدري، وقد كانت طوال هذه السنة مطروحة على الفراش لا تنشال ولا تشال، ثم وقع في قلبي أن أتعاطي تحريكها، فحركتها، فتحركت، فقبضت إحدى رجلي، فانقبضت، فرددتها فرجعت، ففعلت مثل ذلك مرارًا، ثم رمت الانقلاب من غير أن يقبلني أحد كما كان يفعل بي أولاً فانقلبت بنفسي، وجلست، ورمت القيام فأمكنني، فقمت، ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحًا عليه وكان في بيت الدار، فمشيت ألتمس الحائط في الظلمة؛ لأنه لم يكن هناك سراج إلى أن وقعت على الباب وأنا لا أطمع في بصري، فخرجت من البيت إلى صحن الدار، فرأيت السماء والكواكب، تزهر، فكدت أموت فرحًا.وانطلق لساني بأن قلت: يا قديم الإحسان لك الحمد. ثم صحت زوجتي فقالت: أبو علي؟فقلت: الساعة صرت أبا علي؟ أسرجي فأسرجت، فقلت: جيئيني بمقراض، فجاءت به، فقصصت شاربًا لي كان بزي الجند، فقالت زوجتي: ما تصنع الساعة يعيبك رفقاؤك؟.فقلت: بعد هذا لا أخدم أحدًا غير ربي.فانقطعت إلى الله عز وجل، وخرجت من الدار، وطلقت الزوجة، ولزمت عبادة ربي، سبحانك يا رب ما أعظم لطفك وأرأفك بعبادك([33]). لا ترجُ غير اللهعن أبي حسان الزيادي قال: لحقني ما يلحق الرجال من الشدائد، واقتضاني جماعة كنت أعاملهم فيما أحتاج إليه لمنزلي ما لهم عليَّ، وألحت رقاعهم فيه، فشكوت ذلك إلى زوجتي فقالت:نشدتك الله ألا ما اقتصرت على الله تبارك وتعالى ولا ترجُ أحدًا من خلقه.ففعلت ذلك، وكان لي دهليز واسع ينوب عن مجلس في الدار، كنت أجتمع فيه مع الفقهاء، ونتناظر في دقائق الفقه، فإني لجالس فيه تلك العشية، وهو خالٍ ممن كان يغشاه، إذ دخل إليَّ رجل من الخراسانية يريد الحج، وكان الوقت قريبًا من وقت المسير إلى الحج. فقال لي: أصلحك الله إن رأيت أن تقبل مني هذه البدرة من الدراهم وديعة إلى رجوعي من الموسم.قلت: أفعل.فأخذتها منه مضمونة، فعمدت إليها ففضضت عنها خاتمها وقسمتها في معاملتي، وفي سائر مهماتي حتى استنفدتها وقضيت كل دين كان عليَّ. فلما أصبحت ركبت وأطلت. ثم رجعت ووجدت الخراساني على الباب ينظرني، وهو قد بدا له عمَّا عزم عليه من الخروج إلى مكة، فلما رأيته ضاقت بي الأرض وقال لي: احتجت إلى تلك الوديعة.قلت له: ليس أصل إليها الساعة، فعد إليَّ غدًا نقبضها إن شاء الله. فانصرف ودخلت إلى زوجتي فأعلمتها بذلك فقالت لي:ارجع إلى الله عز وجل في أمرك، فليس يملك كشف هذا الكرب عنا غيره.فرجعت أتضرع إلى الله عز وجل في تلك الليلة، في إسدال ستره، وتعجيل فرجه، وفزعت إليه بهمي وكربي. ثم ركبت بغلتي في الغلس، وأنا لا أدري أين أتوجه، فعبرت الجسر وأخذت نحو المخرم، وما في نفسي أحد أقصده واستقبلني رجل راكب فقال لي: إليك بعثت.قلت: ومن بعثك؟قال: دينار بن عبد الله.فأتيته فدخلت عليه وهو جالس فسألني عن خبري وشأني فقلت له:ما الذي أوجب إرسالك إليَّ وسؤالك عن شأني؟قال: ما نمت هذه الليلة إلا أتاني آتٍ يقول: «أبو سفيان الزيادي تعرف خبره واكفه ما أهمه».فحدثته حديثي، فدعا بعشرين ألف درهم، فدفعها إليَّ، فرجعت فصليت في مسجدي صلاة الصبح، وجاء الخراساني فوفيته بدرته بتمامها وكمالها، وأنفقت باقي المال في حوائجي، وتوسعت. والحمد لله كشاف الكرب([34]). حين ينتصر الإيمان!«راوية» فتاةٌ متدينة، ابتلاها الله تعالى بأب فاجر، لا يقيم لأوامر الله وزنًا، ولا يبالي بشرائع الإسلام، فأخذ يتحلل من أوامر الله ويخالفها، باسم التحرر والتحضر والتيسير وعدم التشدد في الدين، وما درى أن هذا في الحقيقة ليس بتحضر ولكنه تخلف ورجعية وهمجية، وكان هذا الأب الفاجر، يحارب ابنته الملتزمة، بشتى الوسائل، وبمختلف الطرق؛ لتتراجع عن درب الهداية والاستقامة الذي سلكته، ووجدت فيه ما كانت تبحث عنه من سعادة قلبية وانشراح صدرٍ!فكان يأخذ كتبها وأشرطتها الدينية، ثم يجمعها ثم يَحْرِقُهَا أمام عينيها، وهو يضحك ويقهقه بصوت مرتفع، وراوية لا تملك إلا الدموع لتعبر عما تشعر به في قلبها من لوعة وحزن وأسى، وما تعانيه في فؤادها من ألم ومرارة!وأحيانًا كان يدخل عليها في غرفتها، وهي تصلي في ظلام الليل، فيقطع عليها صلاتها، وينزع عنها حجابها، ويصيح فيها قائلاً: إلى متى تصلين؟! أما شبعت من الصلاة؟!في ذات مرة، دخل عليها أبوها غرفتها، وقال لها: «رواية» غدًا ستكون عندنا وليمة لبعض أعمامك وأخوالك وأولادهم، ولا بد أن تدخلي للسلام عليهم!فقالت له راوية: سأسلم على عمي وخالي فقط، ولكنني لن أسلم على أولاد عمي وأولاد خالي، فهم ليسوا لي محارم، ولا يجوز لي أن أكشف لهم وجهي أو أصافحهم بيدي!فقال الأب: ماذا تقولين؟! ما هذا الدين الجديد الذي أتيت به لنا؟ لا بد وأن تسلمي على أولاد عمك وأولاد خالك! ولا يهمني هذا حلال أم حرام! المهم أنني ما عندي بنات يخالفن أمري! ويسودن وجهي بين الرجال!، أتفهمين ذلك جيدًا!فقالت له رواية بلسان المؤمنة الصادقة: أبتاه: والله ما كنت لأعصي ربي إرضاء لمخلوق كائنًا من كان! والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». فقال لها أبوها، والغضب يتطاير من عينيه: «راوية» إنني أحذرك من عواقب عصيانك ومخالفتك لأمري!، وإذا لم تفعلي ما آمرك به، فستندمين ندمًا شديدًا، والله لأنسينك شيئًا اسمه «التزام وحلال وحرام»!فقالت له رواية: أبتاه: مع احترامي لك، لن أدخل غدًا على أولاد عمي وأولاد خالي، ولن أسلم على أحد منهم! وليكن ما يكون، وما أحلى العذاب في ذات الله! وما أجمل الابتلاء من أجل الله!وهنا هجم عليها أبوها بعنف كالوحش المفترس، فمزق ثيابها، وتناول خشبة كانت بجواره، وانهال عليها ضربًا وركلاً وصفعًا، حتى فقدت وعيها وأُغمي عليها، ونقلت إلى المستشفى، حيث تبين بعد فحصها، أن لديها كسرًا في ضلعين من أضلاع القفص الصدري، وبعد أيام عادت «رواية» إلى بيتها، وبقيت طريحة الفراش، ريثما يلتئم الكسر الذي أصابها!ومع كل هذه الآلام، لم تسلم راوية من أذى أبيها!، فكان يقف على رأسها، وهي طريحة الفراش، ثم يقول لها وهي تعاني آلام المرض: هاه! هل عقلت؟!، هل ذهب الجنون من رأسك! أكيد أنك لن تخالفي أمري بعد الآن!فكانت «راوية» تُجيبه بصوت واهنٍ ضعيفٍ: أبتاه: سأطيعك في غير معصية الله!بعد أيام تماثلت راوية للشفاء، وبدأت تتحرك بسهولة، وتستعيد حيويتها، ففوجئت بأبيها يدخل عليها الغرفة وهو يقول لها: عندي لك مفاجأة سارة!، وسأحضرها لك الآن!ظنت راوية أن أباها قد شعر بجريمته التي ارتكبها معها، وأحس ببشاعة خطيئته التي اقترفها في حقها، فأراد أن يعتذر لها، ويطيب خاطرها بهدية مناسبة!ولم يقطع على راوية تلك الخواطر والأحلام الجميلة، إلا مشهد أبيها، وهو يدخل عليها الغرفة حاملاً بين يديه سلسلتين كبيرتين، ثم قال وهو يقهقه ضاحكًا: هذه هي المفاجأة التي وعدتك بها!عرفت راوية مقصود والدها، ففوضت أمرها إلى الله تعالى، وقالت له: افعل ما تشاء!اقترب منها أبوها، ثم قادها بعنف، على إحدى دورات المياه التي في البيت، ثم ربط يديها وكبلهما بإحدى السلسلتين!، وأما السلسلة الأخرى فقد سلسل بها قدميها!، وزيادة في تعذيب «راوية» فقد ربط طرف السلسلة بحديدة في داخل دورة المياه! حتى لا تتمكن راوية من الحركة داخل المنزل؛ بل تبقى في مكانها عاجزة كالمشلولة!استسلمت راوية لقدر الله، وخضعت لابتلائه سبحانه، وكان أبوها يمر عليها من فترة لأخرى، ليرى هل (تابتْ!) راوية من هذا التشدد والغلو في الدين؟! وعادت إلى وعيها ورشدها!، أم أنها لا تزال في (ضلالها القديم) فكان يرى لسانها لا يفتر عن ذكر الله تعالى، ويراها تزداد كل يوم إصرارًا على موقفها، وثباتًا عليه.ظلت راوية على هذا الحال المرير لمدة أسبوع كامل، وهي محبوسة بالسلاسل عند باب دورة المياه، لا تستطيع حراكًا ولا ذهابًا إلا إلى الحمام فقط، وكان أبوها يقف عند رأسها، وهي محبوسة بالسلاسل عند باب دورة المياه، ويقول لها: هاه! هل عقلت؟ أنا ما عندي بنات تخالف أوامري؟فكانت لا ترد عليه إلا بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 62].فكان الأب يزداد غيظًا وحنقًا على راوية، ويزداد تعجبًا من هذا الإصرار العجيب والثبات النادر على المبدأ، رغم المعاناة والابتلاء.في ذات يوم، يقدر الله تعالى أن يذهب الأب إلى مخبز مجاور لبيتهم لشراء بعض الخبز، وبينما هو خارج من المخبز، إذ تعثر بقشرة موز ملقاة على درج المخبز، فتدحرج من أعلى درج المخبز إلى أسفله، وتم نقله على الفور إلى المستشفى، وتبين أن لديه كسرًا في ضلعين من أضلاع القفص الصدري، هما نفس الضلعين اللذين كسرهما لابنته «راوية» حين ضربها ظلمًا وعدوانًا!عاد الأب إلى بيته محمولاً، ووضع على سريره!، وكان أول شيء طلبه، هو أن يرى ابنته راوية، المحبوسة في قيودها وسلاسلها!، ففكوا القيود عنها، ودخلت عليه في غرفته، فطلب منها أن تقترب منه، فاقتربت منه، فضمها إلى صدره، وأخذ يقبلها بعنف ويقول: سامحيني يا ابنتي!، لقد ظلمتك كثيرًا!، وقد انتقم الله لك مني!، فأرجوك سامحيني!، وأعدك من اليوم، أنني سأكون عونًا لك على طاعة الله!فارتمت «راوية» في أحضانه، وألصقت جسدها بجسده، وهي تقول والدموع تنهمر من عينيها: سامحك الله يا أبي!، حقًا: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا([35]). وأخيرًا ...جاء الفرجكان في أيام سليمان بن عبد الملك رجلٌ يقال له: خزيمة بن بشر، من بني أسد بالرقة، وكان له مروءةٌ ونعمة حسنة، وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم، فواسوه حينًا ثم ملوه، فلما لاح تغيرهم أتى امرأته – وكانت ابنة عمه – فقال لها: يا ابنة عمي، قد رأيت من إخواني تغيرًا، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم إنه أغلق بابه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد، وبقي حائرًا في حاله، وكان عكرمة الفياض الربعي واليًا على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد، إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر في مجلسه، فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار من سوء الحال إلى أمر لا يوصف، فأغلق بابه ولزم بيته. فقال الفياض: فما وجد خزيمة بن بشر مواسيًا ولا مكافئًا؟ قالوا: لا. فأمسك، ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار، فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًا من أهله، فركب ومعه غلامٌ من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، ثم أخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه، وتقدم فدفعه بنفسه، فخرج إليه خزيمة، فناوله الكيس وقال: أصلح بهذا شأنك. فتناوله، فرآه ثقيلاً، فوضعه، ثم أمسك بلجام الدابة، وقال له: من أنت جُعِلْتُ فداك؟ فقال: يا هذا؛ ما جئتك في هذه الساعة وأنا أريد أن تعرفني. قال خزيمة: فما أقبله أو تعرفني من أنت. قال: أنا جابر عثرات الكرام. قال: زدني. قال: لا مزيد. ثم مضى، ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري، فقد أتى الله بالفرج والخير، ولو كان هذا فلوسًا فهو كثير، قومي فأسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج، فبات يلمسها فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق، فرجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته وسألت عنه، فأُخبرت بركوبه منفردًا، فارتابت فشقت جيبها ولطمت خدها، فلما رآها على تلك الحال قال لها: ما دهاك؟ قالت: يا ابن عمي، غدرت. قال: وما ذاك؟ قالت: أميرُ الجزية يخرج بعد هدوء من الليل منفردًا عن غلمانه، في سر من أهله إلا إلى زوجة أو سرية؟ قال: لقد علم الله ما خرجت إلى واحدة منهما. قالت: فخبرني فيم خرجت؟ قال: يا هذه، لم أخرج في هذا الوقت، وأنا أريد أن يعلم بي أحدٌ. قالت: لا بد أن تخبرني بالقصة. قال: فاكتميه إذًا. قالت: أفعل. فأخبرها بالقصة على وجهها، وما كان من قوله له ورده عليه، ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك؟ قالت: لا، فإن قلبي قد سكن إلى ما ذكرت. فلما أصبح خزيمة صالح الغرماء، وأصلح حاله، ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه – وكان مشهور المروءة، وكان سليمان به عارفًا – فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة. قال: يا خزيمة، ما أبطاك عنا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إليها؟ قال: ضعفي. قال: فبم نهضت؟ قال: لم أعلم بعد هدوء من الليل إلا ورجل طرق بابي، فكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال له: هل تعرفه؟ قال: ما عرفته يا أمير المؤمنين، وذلك أنه كان متنكرًا، وما سمعت منه إلا: «جابر عثرات الكرام». فتلهف سليمان على معرفته وقال: لو عرفناه لأعناه على مروءته، ثم قال: عليَّ بقناةٍ. فعقد لخزيمة الولاية على الجزية التي على عمل عكرمة الفياض، فخرج خزيمة طالبًا الجزيرة، فلما وصل إليها خرج عكرمة وأهل بلده للقائه، فسلم عليه، ثم سارا جميعًا إلى أن دخلا جميعًا، فنزل خزيمة دار الإمارة، وأمر أن يؤخذ عكرمة بكفيل وأن يحاسب، فحوسب فَوُجِدَت عليه فضول كثيرة، فطالبه بأدائها، قال: ما لي إلى شيء منها سبيل. قال: لا بد منها. قال: ما هي عندي، فاصنع ما أنت صانع. فأمر به إلى الحبس، ثم بعث إليه يطالبه، فأرسل إليه: لست ممن يصون ماله بعرضه، فاصنع ما شئت. فأمر به فكبل بالحديد، وضيق عليه، وأقام كذلك شهرًا أو أكثر، فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه ضره، فجزعت واغتمت لذلك، ثم دعت مولاة لها ذات عقل. فقالت: امض الساعة إلى باب هذا الأمير خزيمة بن بشر، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك، فإذا فعل فقولي له: ما كان هذا جزاء «جابر عثرات الكرام» منك أن كافأته بالحبس والضيق والحديد، ففعلت ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوءتاه، وإنه لهو؟ قالت: نعم. فأمر من وقته بدابته فأُسرجت، وبعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وأتى بهم إلى الحبس ففُتح، ودخل خزيمة ومن معه، فلقي عكرمة في قاعة الحبس متغيرًا، قد أضناه الضر، فلما نظر إليه عكرمة وإلى الناس أحشمه ذلك، فنكس رأسه إليه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي. قال: يغفر الله لنا ولك، ثم أمر بالحداد ففك القيد عنه وأمر خزيمة أن يوضع في رجله نفسه، فقال عكرمة: تريد ماذا؟ قال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك؟ فقال: أقسم عليك بالله ألا تفعل. فخرجا جميعًا إلى أن وصلا إلى دار خزيمة، فودعه عكرمة وأراد الانصراف، فقال له: ما أنت ببارحٍ، قال: فماذا تريد؟ قال: أغير من حالك ما رث، وحيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك، ثم أمر بالحمام فأخلي، فدخلا جميعًا، ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه، ثم خرجا، فخلع عليه وجمله، وحمل إليه مالاً كثيرًا، ثم سار معه إلى داره، واستأذن في الاعتذار من ابنة عمه فأذن له، فاعتذر إليها وتذمم من ذلك، ثم سأله بعد ذلك أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك، فسارا جميعًا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك، وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا، ما هذا إلا لحادث عظيم، فلما دخل عليه قال له قبل أن يُسلم: ما وراؤك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين. قال: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك، لما رأيت من تلهفك عليه وتشوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض، فأذن له بالدخول، فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه. فقال له: يا عكرمة، ما كان خيرك لخزيمة إلا وبالاً عليك، ثم قال له: اكتب حوائجك كلها وما تختاره في رقعة. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا بد من ذلك. ثم دعا بدواة وقرطاس وقال: اعتزل واكتب جميع حوائجك، ففعل ذلك، فأمر بقضائها جميعًا من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار، وبسفطين ثيابًا. ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان، وقال له: أمر خزيمة إليك، إن شئت أبقيته، وإن شئت عزلته. قال: بل أرده إلى عمله، ثم انصرفا جميعًا، ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته([36]). عون الله لأحبابه قال أبو العباس البكري، من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير – الطبري – ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا([37])، ولم يبق عندهم ما يقوتهم([38])، وأضر بهم الجوع فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا([39])، ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام.فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة([40])، فاندفع في الصلاة، فإذا هم بالشموع، وخصيٌ من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته.فقال: أيكم محمد بن نصر؟فقيل: هو هذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارًا، فدفعها إليه.ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟فقالوا: هو هذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارًا، فدفعها إليه.ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟فقالوا: هو هذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه الصرة وفيها خمسون دينارًا.ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ وفعل به كذلك.ثم قال: إن الأمير كان قائلاً([41]) بالأمس، فرأى في المنام خيالاً قال: إن المحامد([42]) طووا كشحهم([43]) جياعًا، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إلي أحدكم([44]). ربي قادرٌ على رد بصريومن الذين سجل لنا التاريخ كرامتهم بمداد من نور السيدة زنيرة الرومية, وكانت من السابقات إلى الإسلام وقد عذبها المشركون عذابًا شديدًا فكانوا يحملون لها مكاوي الحديد ثم يضعونها بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى ذهب بصرها رضي الله عنها ومما جاء في ذكرها: كانت مولاة بني مخزوم فكان أبو جهل يعذبها فلما أسلمت عميت فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى لكفرها بهما فقالت: وما يدري اللات والعُزى من يعبدهما إنما هذا من السماء وربي قادرٌ على رد بصري فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها.تأملي أختاه ثبات تلك المؤمنة المسلمة على إيمانها وتحملها العذاب الشديد الذي لا يطيقه كثيرٌ من الرجال فما بالك بالنساء؟ ولكن الإيمان الذي يغزو القلوب هو الذي ثبتها به الله عز وجل وأكرمها وأعلا فضلها فلما وثقت في رحمته ونُصرته؛ رد عليها بصرها كي ينصرها على المشركين الذين يعبدون أسماء لا تضر ولا تنفع، ولكنها تعبد رب السماء, وتعلم أن كل قضاء ينزل عليها فإنه من رب السماء ولا يكون إلا خيرًا وهو قادر على أن ينصرها عليهم. وكان ما أرادت، فرد الله عليها بصرها كرامة لها رضي الله عنها. فأين نحن يا أختاه من هذا الإيمان وتلك الثقة في كل أمورنا؟ وأيضًا الرضا في كل قضاء يقضيه الله لقد قالت السيدة زنيرة: «وربي قادر على رد بصري» فتأملي قولها ربي أي خالقي وسيدي ومدبر أمري ومن يرزقني السمع والبصر ومن يرزقني النصر عليكم، فهل لنا من فهم لتلك المعاني وأن نعيش في معية الله دومًا نستعين به على أعدائنا وفي كل أمورنا لكي نكون من أولياء الله الصالحين قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62-64]([45]). الواثق وخلق القرآنكان القاضي أحمد بن أبي دؤاد من رؤوس المعتزلة، وكان معظمًا عند المأمون يقبل شفاعته ويصغي إلى كلامه. وهو الذي دس للمأمون القول بخلق القرآن وحسنه عنده، وصيره يعتقده حقًا مبينًا إلى أن أجمع رأيه على الدعاء له وامتحان العلماء فيه.ثم سار المعتصم فالواثق سيرة المأمون في هذه الفتنة. ويروى أن الخليفة الواثق أتي إليه بشيخ مقيد يقول بقدم القرآن ليمتحنه. فلما أدخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين.فقال الواثق: لا سلم الله عليك.قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك به مؤدبك. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86]، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها.فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، هذا رجل متكلم.قال الواثق: كلمه.فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن: مخلوق هو أو غير مخلوق؟ قال الشيخ: أنا أسألك قبل.فقال له: سل.قال الشيخ: ما تقول في القرآن؟فقال: مخلوق.قال الشيخ: هذا شيء علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أم شيء لم يعلموه؟قال ابن أبي دؤاد: شيء لم يعلموه.فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، علمته أنت؟!فخجل ابن أبي دؤاد وقال: أقلني.قال: والمسألة بحالها؟قال: نعم.قال: ما تقول في القرآن؟قال: مخلوق.قال: هذا شيء علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون أم لم يعلموه؟قال: علموه.قال: هل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أو سكتوا؟قال: بل سكتوا.قال الشيخ: فهلا وسعك ما وسعهم من السكوت؟فقام الواثق ودخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت؟ سبحان الله. هذا شيء علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟!ثم دعا الحاجب وأمره أن يرفع عن الشيخ قيوده ويعطيه أربعمائة دينار.وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعد ذلك أحدًا([46]) الله يجيرني منكيجب على الإنسان أن يوقن بأنه لا يبقى على حال واحدة إلا الله العظيم الذي يُغَيِّر ولا يتغير، والذي بيده ملكوت السموات والأرض لا تأخذه سنة ولا نوم، ومما يذكر أن محمد بن يزيد أمره عمر بن عبد العزيز – رحمه الله وأسكنه جنته- أن يخرج قومًا من السجن فقام بإخراجهم إلا واحدًا منهم اسمه يزيد بن أبي مسلم وكان كاتبًا للحَجَّاج على ظلمه ومعينًا له على بطشه، وما كان يرحم أحدًا ولا يرتدع أو ينزجر بحادثة تحدث بل يلهو مع اللاهين ويلعب مع اللاعبين، ولا يراقب رب العالمين.فلما رأى يزيد بن أبي مسلم السجناء يخرجون إلا هو أضمر الحقد في قلبه على محمد بن يزيد ونذر الانتقام منه وتمنى أن يتمكن منه ليشفي غليله، فلما توفي عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – وتولى يزيد بن عبد الملك عزل بعض أمراء عمر، وكان ممن عزل محمد بن يزيد وهو على أفريقية، وولى مكانه يزيد بن أبي مسلم يقول محمد بن يزيد: فهربت منه واستخفيت في كل مكان ولكنه يلاحقني حتى علم بمكاني، فطلبني وأرسل الرسل إليَّ حتى ظفروا بي ووجدوني، فأحضروني مقيدًا له فلما دخلت عليه قال: لطالما سألت الله أن يمكنني منك، فقلت: وأنا والله لطالما سألت الله – عز وجل – أن يعيذني ويجيرني منك، قال: ما أعاذك ولا أجارك مني والله لأقتلنك ولو سابقني ملك الموت إلى قبض روحك لسبقته.ثم دعا بالسيف والنطع فأتى بهما وأمر بي فأقمت في النطع وكتفت وشد رأسي وقام ورائي رجل بسيف مصلت يريد أن يضرب عنقي، وبينما هو كذلك إذا أقيمت الصلاة، فعلمت أن هذا فرج من الله؛ لأن الصلاة أمن للخائفين، وقوة للضعفاء والمساكين، وأن الله تعالى سيشغله عني وإلا فنار الغضب تغلي في قلبه، والحقد يتفجر من شرايينه، فلما سمع الإقامة قال: أمهلوه واتركوه حتى أصلي، وخرج إلى الصلاة ليصلي مع الناس، فلما خرج وأقيمت الصلاة صلى، ولما سجد سلط الله عليه من يقتله إذ أخذته السيوف من كل مكان وكنت أقول: اللهم أجرني منه، اللهم إني أعوذ بك من شره، وكان يستهزئ بي ويقول: لم يعذك مني ولم يجرك مني، وإني لك لبالمرصاد، وإنني على ثقة أن الله لن يضيعني وإن انتهى أجلي فلن أستأخر ساعة ولن أستقدم.فلما ضربوه بالسيوف قتل وهو في صلاته ودخل عليَّ من حل كتافي وفك قيدي وأطلق وثاقي وخلى سبيلي، فانصرفت سالمًا. وإن كان هذا الظالم يصلي إلا أن أذية الناس لا تجوز؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكيف يصلي وهو يعذب عباد الله وينكل بهم بل ويسومهم سوء العذاب، ويكون ملك الموت قد سبق إلى هذا الظالم قبل أن يسبق إلى المظلوم والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين([47]). مجاهدة في قعر بيتها تزوجته على مضض، فهو ابن عمها لكنه بعيد عنها بُعْدَ الأرض عن السماء. فهي متدينة ملتزمة، وهو متفلت لا يقيم للصلاة وزنًا ولا يعرف لحلاوة العبادة معنى، همه اللهو والسهر مع الأصحاب والرفاق. لم تستطع أن ترفضه لأن الأعراف البالية تمنع ذلك. فوضت أمرها إلى الله وعزمت على إصلاح فساده، وتذكرت قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم».كانت تلقى معارضة شديدة في كل مرة تصلي فيها مدعيًا أن هذا يجعله يجلس وحيدًا، فعرضت عليه أن يصلي بها ليجلسان معًا. قاوم عدة مرات، ثم رضخ، وصلى بها، وتكرر ذلك بين الفينة والأخرى. وكان يعود من سهرته وما زالت عروسًا في شهرها الأول فتسرع إلى تلبية طلباته دون تأفف أو تذمر، وهي تعلم حقوق الزوج وطاعته «إلا في معصية الله» ولا تعنفه أو تؤنبه، وقد انتصف الليل منذ ساعات. ثم بدأت تحرص على أن تضع أشرطة إسلامية عند قرب عودته تتحدث عن فضل الصلاة وأثر العبادة والطاعة، فصار يصلي بعض الأوقات معها، فتلح عليه أن يجعل صلاته في المسجد لفضل صلاة الجماعة وأثرها. ولم تنس أن تضع بين يديه كتبًا دينية، كان يسارقها النظر وتمتد يده إليها أحيانًا أخرى يقلبها ويعيدها إلى مكانها، وهي تراقبه وتدعو الله أن يعينها.شيئًا فشيئًا أصبح من رواد المساجد للجماعة والجمع وعَلَّمت النقطة الدائمة في الحجر حين بدأ يقلل من ساعات سهره، ثم من أيام سهره حتى صار لا يسهر إلا بين الفينة والأخرى لبضع ساعات، يحاول جاهدًا أن يؤثر على زملائه وأصحابه فيهتدون كما هداه الله، وبدأ شيئًا فشيئًا يقرب المسافة بينه وبين زوجته، فاستقام سلوكه وأقبل على الطاعة بعبادة بعد أن كانت له عادة، ومنَّ الله عليه بأولاد أخذ على عاتقه مسؤولية تربيتهم حتى لا يكونوا مثله فهو لا يذكر أن أباه أمره بعبادة، أو طاعة إلا مرات قليلة يتبعها بقوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]. متناسيًا قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].وتعجب الناس وتساءلوا عن تغير حاله وتبدل أحواله من الفساد إلى الرشاد، ومن العصيان إلى الطاعة فكان يقول: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» وينصحهم باختيار زوجاتهم على أساس الخلق والدين، وعندما خطب لأولاده كان أول شروطه: «اظفر بذات الدين تربت يداك». ونفذ أولاده ما أراد فسعدوا وأسعدوا([48]).([1]) صيد الخاطر ص(486-489).([2]) صيد الخاطر ص(47-49).([3]) صيد الخاطر ص(457).([4]) العقلة: الشيء اليسير.([5]) موغرين: نازلين.([6])المناصع: مكان سهل ([7])استلبث: تأخر ([8]) تفسير ابن كثير جزء 3.([9]) اتق دعوة المظلوم ص(123-125).([10]) الجزرة: أعمدة من حديد.([11]) الأعمدة: السيوف التي لها شطيبة في متن واحد.([12]) الكافركوب: الخشبة الغليظة القصيرة.([13]) صفحات مضيئة من حياة السابقين (1/112-114).([14]) نقلاً عن: المختار من فرائد النقول والأخبار (3/56-58).([15]) السير: قدّة من الجلد مستطيلة، ما زال هذا اسمها ببغداد.([16]) الهميان: فارسية: حزام عريض يودع في باطنه المال ويشد على الوسط، ما زال هذا اسمه ببغداد.([17]) المشروع أن يعرف اللقطة سنة قبل أن يتصرف بها.([18]) وافي السبال: يريد أنه لم يقص شيئًا من شاربه, وتركه حتى يدور حول فمه, ويتهدل على شفتيه.([19]) السؤال: جمع سائل وهو الشحاذ.([20]) أشهد عليه في جميع أملاكه: يعني أنه أجبره على الإشهاد بأنه باعها للأمير. ([21]) الفرج بعد الشدة للتنوخي (2/368-372).([22]) كتاب المستغيثين بالله تعالى ص(49، 50).([23]) جَيّ، بالفتح والتشديد: مدينة ناحية أصبهان القديمة.([24]) الودية: صغار الفسيل. الجمع ودي.([25]) صلاح الأمة في علو الهمة (4/619-623) وقال: رجاله ثقات وإسناده قوي.([26]) الوَضوء: بفتح الواو: الماء المتوضأ به.([27]) الفرج بعد الشدة للتنوخي (1/261، 262).([28]) صفة الصفوة (2/53) والإصابة لابن حجر.([29]) لا تيأس ص(32، 33).([30]) نساء رباهن القرآن ص(92-94).([31]) قطار الزواج والطلاق ص(75-77).([32]) كتاب المستغيثين بالله ص(50، 51).([33]) وأخيرًا جاء الفرج ص(74-76) وانظر الفرج بعد الشدة للتنوخي (4/196-198).([34]) كتاب المستغيثين بالله ص(82، 83).([35]) نساء رباهن القرآن ص(121-123).([36]) المستجاد من فعلات الأجواد ص(18-22)، لأبي القاسم التنوخي. نقلاً عن: صلاح الأمة في علو الهمة (2/596-600).([37]) أرملوا: نفد زادهم.([38]) يقوتهم: يمسك أبدانهم من شدة الجوع.([39]) يستهموا: تفسيرها ما بعدها: يضربوا القرعة.([40]) صلاة الخيرة: صلاة الاستخارة.([41]) قائلاً: نائمًا وقت القيلولة، وهو منتصف النهار.([42]) المحامد: جمع محمد، وهم الرجال الأربعة.([43]) الكشح: ما بين الخاصرة في الضلع الخلف، والمراد هنا: أنهم جياع يسترون جوعهم لا يُعرفون به.([44]) من «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (2/251). نقلاً عن المختار من فرائد النقول والأخبار (1/66-68).([45]) نساء لها تاريخ ص(41، 42).([46]) طرائف الخلفاء والملوك ص(250، 251).([47]) اتق دعوة المظلوم ص(127، 128).([48]) قطار الزواج والطلاق ص(72-74).