الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
أعظم عبادةٍ نقوم بها في هذا اليوم: صلاة الجمعة، التي هي من آكد فروضِ الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم مِن كلِّ مَجْمَعٍ يجمعون فيه، سوى مَجْمَعِ عرفة. ومن تركها تهاونًا بها طَبع الله على قلبه،. وقُرْبُ أهل الجنة يوم القيامة، وسَبْقُهُم إلى الزيارة يوم المزيد، بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرِهم؛ كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-. ومن الأعمال العظيمة: التبكيرُ إلى الصلاة واسْتماع الخطبة، ويعظُم الأجر بـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: واعلموا أنَّ مِن أحب وأعظمِ الأيام عند الله -تعالى-: يومَ الجمعة.
ويكفي في فضلِه وشرفِه قولُه صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ"[رواه مسلم].
ولهذا فقد خصَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، بمزيدِ عنايةٍ واهتمامٍ وعبادة، لأنه كلمَّا عظُم زمانٌ أو مَكانٌ، عظمت الطاعةُ والعبادةُ فيه.
وأعظم عبادةٍ نقوم بها في هذا اليوم: صلاة الجمعة، التي هي من آكد فروضِ الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم مِن كلِّ مَجْمَعٍ يجمعون فيه، سوى مَجْمَعِ عرفة.
ومن تركها تهاونًا بها طَبع الله على قلبه،.
وقُرْبُ أهل الجنة يوم القيامة، وسَبْقُهُم إلى الزيارة يوم المزيد، بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرِهم؛ كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-.
ومن الأعمال العظيمة: التبكيرُ إلى الصلاة واسْتماع الخطبة، ويعظُم الأجر بحسب التبكير إليها، قال صلى الله عليه وسلم؛ كما في الصحيحين: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ - أي الْمُبَكِّرِ إلى المسجد- كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي الْبَدَنَةَ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الْكَبْشَ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَيْضَةَ".
فهنيئاً للمبكرين في هذا اليوم الْمُبارك، كم سَتُثَقِّلُ ميزانَهم صدقاتٌ لا يعلم عددَها وعِظَمَها إلا الله، وأيُّ حرمانٍ لمن يجيءُ بعد طيِّ الملائكةِ صُحُفَهم، وانتهاءِ الفرصةِ السانحةِ في كونِه في عِدادِ الْمُتصدِّقين، كم يمرُّ علينا من أيامٍ طويلةٍ لا نتصدَّق فيها، ولو تصدَّقنا لتصدَّقنا بريالاتٍ قليلة، ولكن أنْ نعملَ عملاً يسيراً، ثم نُكتَبُ كمن تصدَّق بكبشٍ، أو بقرةٍ، أو بدنة، فهذا ما لا يخطر على بال، ولا يتكاسل عنه ويتهاون فيه إلا محرومٌ -والعياذ بالله-.
ومن سنن يوم الجمعة -يا أمَّةَ الإسلام-: ما ذكره النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى" [رواه البخاري].
السنة الأولى: الغسل يوم الجمعة قبل الصلاة، وهو أمرٌ مؤكَّدٌ في الشرع، قال صلى الله عليه وسلم: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ"-أي بالغ-[متفق عليه].
السنة الثانية: النظافةُ وإزالةُ الأوساخ، لقوله: "وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "الظاهر أنه أراد به المبالغة في التنظف، وإزالةِ الوسخ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار، وإزالةُ الشعر، وحلقُ العانة ونتفُ الإبط؛ فإن ذَلِكَ كلَّه طهارة" ا. هـ كلامه.
السنة الثالثة: والادِّهان: وهو دَهْنُ شعرِ الرأس واللحية، مع تسريحِه وتمشيِطِه، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله.
السنة الرابعة: أن يتطيب، لقوله: "من طيب بيته" أي ليس عليه أن يطلب ما لا يجده، بل يكتفي بما وجده في بيته.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، من شدَّةِ اعتنائه ومحبته للطيب يستعمله، حتى في شعره.
فقد روى البخاري في صحيحه عن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قال: "رَأَيْتُ شَعَرًا مِنْ شَعَرِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ، فَسَأَلْتُ عن سبب ذلك فَقِيلَ: احْمَرَّ مِنْ الطِّيبِ.
فينبغي الاعتناء بالطيب أشدّ الاعتناء، وخاصةً في هذا اليوم المبارك.
السنة الخامسة: أنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، بأن يكون أحدُهما قُرب الآخر، فيأتي رجلٌ ويجلس بينهما، أو يتخطاهما ويتعدَّاهما إلى صفٍّ متقدمٍ، وظاهر الأحاديث تحريمُ ذلك، فقد روى الإمام أحمدُ وصححه الألباني، أنّ رجلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ له: "اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ".
والحديث على عمومه، حتى لو وجد فرجةً لا يصل إليها إلا بالتخطي، فلا يحقّ له ذلك.
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "تخطِّي الرقاب حرام حال الخطبة وغيرها، ويتأكد ذلك إذا كان في أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذيةً للناس، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة، حتى وإن كان التخطي إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذيةُ موجودة" ا. هـ كلامه.
أما إذا احتاج إلى التخطي لحاجةٍ لا بدّ منها، من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعاً للصلاة بدونه، أو كان إماماً لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي، لم يكره له ذلك.
وإذا كان بين الجالِسَين فرجةٌ بحيث لا يتخطاهما: جاز له أن يمشي بينهما، فإن تماست ركبُهما، بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي رُكَبِهِمَا، حرم عليه ذلك، فإن كانا قائمين يصليان، فمشى بينهما ولم يدفع أحداً ولم يؤذه، ولم يضيِّق على أحد جاز له ذلك.
السنة السادسة: أنْ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ويُكثرَ فيه الدعاء والَّلجأ إلى الله -تعالى-، فهو يومٌ عظيمٌ عند الله -تعالى-، فحريٌّ أنْ تكون الصلواتُ والدعوات مُستجابةً مقبولة.
السنة السابعة: أن يُنْصِتَ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، والإنْصات لخطبة الجمعةِ واجبٌ، ولا يجوز الكلام أثناء الخطبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ"[متفق عليه].
هذه السُّننُ السبعة، من قام بها كلَّ جمعةٍ بإخلاصٍ وطلبِ الأجر؛ غُفرتْ ذنوبه، وحُطَّتْ خطاياه، وفضلُ الله -تعالى- واسعٌ.
ومن السنن أيضا: كثرةُ الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-، في يومِه وفي ليلته، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلةَ الجمعة".
وقراءةُ سورة الكهف في يومها، وأن يلبس فيه أحسنَ الثياب التي يقدر عليها، ويُستحبُّ تَجْمِيْرُ المسجد وتَطْيِيْبُهُ وتبخيرُه.
واعلموا -معاشر المسلمين-: أنَّه يسن أن يُقبل الخطيب على القوم في جميع خطبتيه، ولا يلتفتَ في شيء منهما، قال النووي -رحمه الله-: "اتفق العلماء على كراهة هذا الالتفات، وهو معدودٌ من البدع المنكرة" ا. هـ كلامه.
ويُسنُّ للناس: أنْ يصرفوا وجوههم للخطيب، قال النووي -رحمه الله-: "جاءت فيه أحاديث كثيرة، ولأنه الذي يقتضيه الأدب، وهو أبلغ في الوعظ، وهو مجمع عليه" ا. هـ كلامه.
وقال البخاريُّ -رحمه الله- في صحيحه: "بَابُ اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ إِذَا خَطَبَ، وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ -رضي الله عنهم- الْإِمَامَ".
وذكر الترمذي -رحمه الله-: أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم؛ يستحبون استقبال الإمام إذا خطب.
ونقل ابنُ المنذر وابنُ عبد البر -عليهم رحمة الله-: الإجماعَ على ذلك.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب في الجمعة، استدار أصحابه إليه بِوُجُوهِهِمْ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قِبَلَهُم في وقت الخطبة". ا. هـ.
وممَّا ينبغي التنبه له: أنَّ مَن دخل المسجد أثناء الأذان الثاني، فإنه يصلي تحية المسجد؛ لأجل أن يستمعَ إلى الخطبة؛ لأنَّ استماع الخطبة واجب، وإجابة المؤذن ليست واجبة، والمحافظة على الواجب أولى من المحافظة على غير الواجب.
نسأل الله -تعالى- أنْ يتقبَّل منَّا في هذا اليوم العظيم، وأنْ يوفقنا للعمل فيه على الوجه الذي يُرضيه، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: واعلموا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئاً، وكذلك أصحابه -رضي الله عنهم-.
فليس للجمعة سُنَّةٌ راتبةٌ قبلها، وليس هناك سُنَّةٌ راتبةٌ بعد الأذان الأول أيضًا، وهو الأذانُ الذي سنَّه عثمانُ -رضي الله عنه وأرضاه-.
قال ابن باز -رحمه الله-: "لا أعلم في الأدلة الشرعية، ما يدل على استحباب هاتين الركعتين؛ لأن الأذان المذكور، إنما أحدثه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في خلافته، لَمَّا كثر الناس في المدينة، أراد بذلك تنبيهَهُم على أنَّ اليومَ يومُ الجمعة، وتبعه الصحابة في ذلك، ومنهم عليٌّ -رضي الله عنه، واستقر بذلك كونُه سنة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ". ا. هـ كلامه.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ إمام الجمعة مِنْهَا رَكْعَةً، أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْرا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".
فمن جاء بعد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية، فالواجبُ أنْ يُتِمَّها ظهراً.
ومن الأخطاء المنتشرة- يا أمة الإسلام-: ما نلحظه من اصطحاب الأطفال دون سنِّ السابعة، وتركِهم يلعبون، ويُؤذون المصلين.
وهذا لا يجوز أبدا، ويأثم من يرى أبناءه يُؤذون ويلعبون ويصرخون، ثم لا يُنكر عليهم ولا ينهاهم، بل ويُحضرهم في كل جمعة، فلْيتق الله هؤلاء الآباء، فبيوت الله -تعالى-، ليست مِلكاً لهم يفعلون بها ما يشاؤون، بل هي بيوتُ الله -تعالى-، وبيُوتُ الله -تعالى- لم تُبن إلا للصلاة والعبادة.
وبعضهم يُصلي في مسجدٍ، وأبناؤُه في مسجد آخر، وهو لا يعلم ما يُحدثونه من الفوضى والأذيَّة.
ومن الأخطاء أيضا: تركُ الإنكار على من يتكلم أثناءَ الخطبة.
فالواجب على من رأى أمثال هؤلاء: أنْ ينصحهم بعد الخطبة، وإنكارُ المنكر من أوجب الواجبات.
نسأل الله -تعالى- أنْ يُعلِّمنا ما ينفعُنا، وينفعَنا بما علَّمنا، وأنْ يُسهِّل علينا أسباب مرضاته ورضوانه، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.