البحث

عبارات مقترحة:

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

العفو

كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

الفراغ بين الإهمال والشكر

العربية

المؤلف أسامة بن عبدالله خياط
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. أحداث الدنيا يُنسي بعضها بعضًا .
  2. الفراغ نعمة ينبغي على العبد شطرها .
  3. فساد تصور من يترك اغتنام الفراغ .
  4. نعمة الفراغ عرضة للزوال .
  5. سؤال العبد عن وقته وعمره يوم القيامة .

اقتباس

فإذا وُجِد بين الناس من يُسقِطُ من حسابِه اقتِناصَ المغانِم، ويستنيمُ عن طلب الكسبِ لصالِحه، كان بحقٍّ ضعيفَ الرأي، فاسِدَ التصوُّر. وإن أشدَّ من هذا الفريق ضعفًا في الرأي وفسادًا في التصوُّر من يُحرِزُ في حَوزتِه كسبًا، أو يحصُلُ على مغنَمٍ، فيُضيِّعُه هدرَ مدَر دون إفادةٍ منه، أو عملٍ على استِدامتِه ليطولَ أمَدُ الاستِمتاع به، وللحَظوة بخفضِ العيش ورغَده في ظِلالِه.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، أحمدُه -سبحانه- وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحق المبين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المبعوث رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابتِه أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، وتزوَّدوا ليوم المعاد بخير زادٍ، ولا تغُرَّنَّكم الحياةُ الدنيا، ولا يغُرَّنَّكم بالله الغرور.

عباد الله: كم في الدنيا من أحداثٍ جِسامٍ تغشَى بعضَ من يعيشُ على الغَبراء، فتذهلُه عن الواجبِ المفروض إزاءَ مُسدِي النِّعم من القيام بالشُّكر على آلائِه، وترادُفِ نعمائِه التي لا تدخلُ تحت الحصر: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 18].

وتصرِفُه الأحداثُ أيضًا عن تذكُّر الواجبِ عليه لإخوانِه وأبناء مُجتمعِه؛ من اصطِناع الصنائِع، أو ردِّ الجميل، أو الإسهامِ في مسحِ البُؤسِ، ورفع كابوس المِحَن عن مرزوءٍ يرنُو إلى الدعم بكل ألوانِه، والمُواساة التي تُصوِّرُ التعاطُف والإخاءَ وصدقَ الولاء في أبهَى صُورِها.

وليست الأحداثُ التي يقعُ المرءُ في غَمرتها فتذهلُه عن الواجِبِ، ليست سواءً في وقعِها وتأثيرِها على النفوس؛ فالفقرُ والمرضُ وجوائِحُ الزمان وصُروف الليالي، وفواجِع الأيام في مختلف ألوانها، بما فيها الصراعاتُ الدامِية، والاضطرابات المُدمِّرة، كل أولئك نموذجٌ لما يقعُ للمرء من أحداثٍ تفجَؤُه فتذهلُه عن الواجِبات، وتصرِفُه عن المهمات، وتُبدِّدُ أوقاتَه، وتُضيِّعُ عُمرَه.

وإذا كان بعضُ من يعيش على الغَبراء تذهلُه حوادِثُ الزمان عن واجبِه نحو ربِّه ونحو نفسِه ومُجتمعه، فإن بعضًا آخر من الناس -ربما كان السواد الأعظَم- في منجاةٍ من هذه الغَمرة من الأحداث ينامُ ملءَ جفنَيه قريرَ العين، موفورَ الحظِّ بوفرة الصحَّة، وبسطة النعيم، وهدوء البال، وسلامة الحال، والفراغُ الذي لا يُنغِّصُ صفوَه عملٌ مُرهِق، أو يُكدِّرُه إدامةُ فِكرٍ في رزق عيالٍ أو تغيُّر أحوالٍ.

إن هذا الصنفَ من الناس يتعيَّنُ عليه أن يقدُرَ هذه النِّعَم الموصولةَ حقَّ قدرها بالقيام بالشُّكر للمُنعِم بها، وباستِثمار هذه الفترة التي ينعمُ فيها بموفور الصحَّة وسَعة الوقت الخالِي من العوائِق والمتاعِب، وإلا عظُمَت خسارتُه، وجلَّ خَطبُه، وكان ممن عناهُ رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامُه عليه- بقوله -مُوجِّهًا الأمة إلى الغَبن الذي لا يُمكن تدارُكُه، ولا ينفعُ معه تعويضٌ-: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ". أخرجه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.

والغَبنُ هو النقصُ والبَخسُ، ولا يجعلُ ذلك أحدٌ في حسابِه إلا أن يكون ضعيفَ الرأي، فاسِد التصوُّر، ذلك أن الجِبِلَّة التي طُبِع عليها البشر دائِبَةٌ على حفزِهم إلى كسبِ المغانِم بكل مجالٍ، وإلى استِباقِ ميادين الكِفاح دون خمولٍ أو كلَل.

فإذا وُجِد بين الناس من يُسقِطُ من حسابِه اقتِناصَ المغانِم، ويستنيمُ عن طلب الكسبِ لصالِحه، كان بحقٍّ ضعيفَ الرأي، فاسِدَ التصوُّر.

وإن أشدَّ من هذا الفريق ضعفًا في الرأي وفسادًا في التصوُّر من يُحرِزُ في حَوزتِه كسبًا، أو يحصُلُ على مغنَمٍ، فيُضيِّعُه هدرَ مدَر دون إفادةٍ منه، أو عملٍ على استِدامتِه ليطولَ أمَدُ الاستِمتاع به، وللحَظوة بخفضِ العيش ورغَده في ظِلالِه.

وليس أعظمَ كسبًا -يا عباد الله- ولا أجلَّ نعمةً، ولا أفضلَ رِبحًا من لِباسِ ثوبِ الصحة ضافِيًا، واستِدامتِه مُتماسِكًا دون نُدوبٍ تُهلهِلُه أو فُتوقٍ تُمزِّقُه.

لذا كان من أصالة الرأي ورِجاحَة العقل أن يُعنَى من كساه الله ثوبَ الصحة سابِغًا أن يُعنى به، وللعناية به ضروبٌ مُترابِطة تتجِهُ كلُّها نحو غايةٍ واحدةٍ، هي الشكرُ للمُنعِم بالعمل بطاعتِه، واستِفراغ الجُهد فيها، واستِعمال الطاعة واغتِنام فُرصة الشباب في استِباقِ ميادِينها، مع مُجاهدة النفس ولَجمها عن النَّزَوات، وكفِّها عن الشَّطَحات.

فإن كل أولئك من الشُّكر الواجِب الذي تُستدامُ النِّعمةُ به، وتُحفَظُ به الصحَّة: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

وليس من شكٍّ أن ثوبَ الصحة عُرضةٌ للوهَن والبِلَى، وصُروف الليالي، والأمراض تنخَرُ فيه حتى تأتي على نهايتِه، وهو شأنُ من كُتِب عليه الفناء.

ولذا فإن الذين يغفَلون عن هذه النتيجَة الحَتميَّة، ويُمضُون ربيعَ العُمر واكتِمالَ الصحَّة وهم سادِرون في لهو الحياة ولغوِها، وبين لذَّاتها وشهَواتها المُحرَّمة، دون أن يذكُروا يومًا زمنَ الانتِقال وتغيُّر الحال، والنَّكسةَ التي يُمنَى بها كل من دبَّت إليه الشَّيخُوخة، وأضناهُ الهَرَم، وأناخَ عليه حتى لا ينفعَ معه إنقاذٌ ولا ترميمٌ.

فأولئك ممن غُبِن الغبنَ الفاحِشَ الأليم، وتجنَّى على نفسِه، ولم يُعِدَّ العُدَّة ليوم الشدَّة، يوم يعجزُ بحُكم ضعفِه وانحِلال قُواه ووهنِه عن القيام بالواجِب المفروضِ عليه من شعائِر دينِه.

وثمَّة فريقٌ آخر يلتقِي مع الفريق الأول في الغَبن؛ لأنه أيضًا ضعيفُ الرأي، فاسِدُ التصوُّر؛ إذ قد وهَبَه الله نعمةَ فراغِ الوقت من الشواغِل وخُلُوِّ البال من مُشكِلات الحياة، وقلَّ في الناسِ من يستكمِلَ هذه النعمةَ فيصفُو له زمنُه، وتخلُو منه مشاغِلُه.

وذلك أن نعمةَ الفراغِ تتطلَّبُ البسطةَ في الرِّزق، والأمنَ على نفسِه، والمال؛ أما البسطةُ في الرِّزق فلئلا تُملأ أوقات الفراغ في الكَدح والعناء في طلبِ لُقمة العيش، ومثلُها الأمنُ على ما ادَّخَر المؤمنُ من رصيدٍ، وما احتفظَ به من مالٍ ليوم الشدَّة والحاجَة، والأمنُ على النفسِ لئلا يشغلَ فراغَ الوقت في تفكيرٍ عما لعلَّه يفجَؤُه من الفتن والنوازِل التي تقَضُّ لها مضاجِعُ الآمِنين.

فإذا أمِنَ المرءُ على رِزقِه ومالِه ونفسِه فقد استكمَلَ نعمةَ الفراغ، وكان من واجِبِه أن يقدُرَها حقَّ قدرِها، وأن يهتبِلَ فُرصةَ الفراغ فيما يعُودُ عليه بفائدةٍ أو عائِدةٍ يكونُ لها الأثرُ الطيبُ في حياتِه ومُستقبل أيامه.

ولما كانت الواجِبات أكثرَ من الأوقات، فقد وجَّه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اغتِنام فُرصٍ يعُمُ بها الكسبُ لمن اغتنَمَها، فقال لرجلٍ وهو يعِظُه: "اغتنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقَمِك، وغِناكَ قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك". أخرجه الحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح.

وفي هذا -يا عباد الله- إيماءٌ إلى أن نعمةَ الفراغ كنعمةِ الصحَّة وسائر النِّعَم عُرضةٌ للزَّوال، ويعظُمُ فيها الغَبنُ إن لم يستغِلَّها الفارِغون، ويعملُوا على الإفادة منها فيما يعظُمُ نفعُه، ويعُمُّ خيرُه، ويَطيبُ أثرُه، وتحسُنُ عاقبَتُه.

وفي الطليعَةِ من ذلك: الاشتِغالُ بالقُرَب، وعِمارةُ الوقتِ بالطاعة، واستِثمارُه في كل نافعٍ للناس في العاجِلةِ والآجِلةِ.

نفعني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافَّة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وليِّ الصالِحين، أحمدُه -سبحانه-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُعِزُّ المؤمنين، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه إمامُ المُرسلين وخاتمُ النبيين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله الطاهرين، وصحابتِه الطيبين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: إن على النقيضِ من ذلك -أي: من عمارة الوقت واغتِنام فُرصتِه- ما يعمَدُ إليه بعضُ الناس مما اصطلَحُوا على أن يُسمُّوه بـ"قتل الوقت" أي: بملءِ فراغِه بالعَبَث وما يظنُّونه لهوًا بريئًا، أي: الذي لا يلحقُهم منه وِزرٌ؛ إذ يشغلُ بعضُهم الفراغَ المُمتدَّ بلُعبةٍ يأملُ فيها الغلبَةَ ويرفعُ الرأسَ عاليًا كأنه فتحَ بها مِصرًا، أو كسَبَ بها نصرًا، أو في العبَث والمُجون وما يُعابُ من الأقوال والأعمال إلى ساعاتٍ مُتأخِّرةٍ من الليل.

وما أكثر مما تتصرَّمُ الأوقات الثمينةُ في ذلك، سواء بالليل أم بالنهار، وما ينشأُ عن ذلك من إضاعَة بُكور الأيام، وهي أزهَى الأوقات وأعظمِها برَكة بدُعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارِك لأمَّتي في بُكُورِها".

وقد يتجاوزُ الأمرُ هذا إلى إضاعَة الفريضة بالنوم عن صلاة الصُّبح، فيعظُمُ الخَطب بالتِقاء الوِزر بالوِزر: وِزر ضياع الوقت الثَّمين سُدى، ووِزر ضياع الصلاة غفلةً وتكاسُلاً. وحسبُكم بذلك غبنًا وخُسرانًا.

فاتقوا الله -عباد الله-، واذكُروا أن الوقت هو عُمرُ المرء، وهو أغلى ما تجبُ العنايةُ به، والحِفاظُ عليه؛ فكل لحظةٍ فيه معدودةٌ محسوبةٌ، تُحصَى عليه فيها الأنفاس، ويُحاسَبُ على النَّقير والقِطمِير، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي بَرْزَة الأسلميِّ -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزولُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِه فيم أفناه، وعن علمِه فيمَ فعلَ فيه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِه فيمَ أبلاه".

وفي روايةٍ للبيهقيِّ -رحمه الله- من حديث مُعاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما تُزالُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمره فيمَ أفناه، وعن شبابِه فيمَ أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه، وماذا عمِلَ فيمَا علِم".

واللبيبُ -يا عباد الله- من اغتنَمَ فُرصةَ عُمرِه، واستغلَّ أوقاتَ فراغِه فادَّخَرَ فيها رصيدًا لمعادِه، ومن كان على العكسِ من ذلك ممن أضاعَ العُمرَ سُدًى فقد خسِرَ خُسرانًا مُبينًا، وندِمَ حين لا ينفعُ النَّدَم.

ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رسل الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين.

اللهم انصُر دينكَ وكتابكَ، وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.