الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | محمد أكجيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الصبر هو الزاد، والقوة والعتاد، يحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ، والمُبتَلى في بَلوَاهُ، وَالدَّاعِيَةُ إلى الله في دعوته، والمرأة في بيتها، والأب في أسرته، والمعلم في مدرسته، وطَالِبُ العِلمِ في دراسته، والموظف في إدارته، والتاجر في تجارته، والعامل في خدمته.. الصبر نصف الإيمان كما في الحديث، فمن قل صبره قل إيمانه، وخير عيش أدركه السعداء، إنما أدركوه بالصبر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
فلقد جعل الله -تعالى- الدنيا دارًا متغيرة الأحوال متبدلة المراحل والأطوار، فسرور يعقبه الحزن ويسر يخلفه العسر وسقم تتبعه العافية، واجتماع تعقبه الفرقة في الدنيا أو إلى الدار الآخرة، هكذا أرادها الله ابتلاءً لعباده واختبارًا، فهو (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2].
وإذ إنها كذلك؛ فالحاجة فيها إلى الصبر ضرورة دنيوية ظاهرة، وفريضة شرعية لازمة.
الصبر هو الزاد والقوة والعتاد، يحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ والمُبتَلى في بَلوَاهُ، وَالدَّاعِيَةُ إلى الله في دعوته والمعلم في مدرسته، والمرأة في بيتها والأب في أسرته، وطَالِبُ العِلمِ في دراسته والموظف في إدارته، والتاجر في تجارته والعامل في خدمته.
الصبر نصف الإيمان -كما في الحديث-؛ فمن قل صبره قل إيمانه، وخير عيش أدركه السعداء إنما أدركوه بالصبر.
الصبر سيد الأخلاق وأساسها وعنوانها وقوامها؛ فالعفة صبر عن الشهوات المحرمات، والحلم صبر عن الانتقام عند الغضب، وسعة الصدر صبر عند الضجر، والقناعة صبر على الكفاف واليسير.. وهكذا بقية الأخلاق.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "ما أُعطي عبدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر".
"والصبر ضياء"؛ ينير الله به دروب الحائرين، ويهدي به صراطه المستقيم.
الصبر عونٌ على دوام الطاعة، ولزوم العبادة والاستقامة.
الصبر عُدّة المسلم في مجاهدة النفس على ترك الذنوب والخطايا، الصبر عزاء المسلم عند نزول الكروب وحلول البلايا.
لولا الصبر لغرق المهموم في همومه، ولضاق الحزين ذرعًا بأحزانه وغمومه.
الصبر طريق المجد وسبيل المعالي، وكل الناجحين في الدنيا إنما حقّقوا آمالهم بالصبر؛ استمرؤوا الْمُرّ، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب. وما فات لأحدٍ كمال إلا لضعف في قدرته على الصبر والاحتمال.
وإذا كانت الدنيا لا تُنال إلا بالصبر، وهي لا تعدل عند الله جناح بعوضة؛ فكيف بالجنة التي عرضها السماوات والأرض، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
جَمَّلَ اللهُ -تَعَالَى- بِالصبر المُرْسَلِينَ، وَأَمَرَ بِهِ خَاتَمَ النبيين (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِالله) [النحْل: 127] (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوْ الْعَزْمِ مِنَ الْرُّسُلِ) [الْأَحْقَاف:35]، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48].
أمر به المؤمنين؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) [آل عمران 200].
أثنى على أهله؛ فقال -تعالى-: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].
أخبر بمحبته للصابرين؛ فقال -تعالى-: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]. وبمعيَّتِه لهم؛ فقال -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 46].
وإذا كانت مرارة الدواء يعقبها الشفاء، فقد رتَّب الله على الصبر عظيم الجزاء، فقال جل من قائل: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]
قرن الله الصبر بالقيم العليا في الإسلام، قرنه بالتقوى؛ فقال -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران: 186].
وقرنه بالشكر؛ فقال -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5].
وقرنه باليقين؛ فقال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
وقرنه بالتوكل؛ فقال -تعالى-: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت: 58، 59].
وقرنه بالصلاة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].
وقرنه بالاستغفار والتسبيح؛ فقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر: 55].
ذلكم بعض القول عن أهمية الصبر وفضله، وضرورته الشرعية والدنيوية؛ فاعرفوا قدره وعظّموا أمره تسعدوا وتفلحوا في الدنيا والآخرة، واصبروا إن الله مع الصابرين، وأستغفر الله، والحمد لله رب العالمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
وشرط الصبر: أن يكون خالصًا لوجه الله، لقول الله لنبيه: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر: 7].
أن يكون في حينه وأوانه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم–: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وكذلك الحزن من غير تسخط ولا جزع، وكذلك دمع العين. فقد بثَّ يعقوب حزنه وشكواه إلى ربه، وبكى قائلاً: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86].
وللصبر أسباب تعين عليه من استرشد بها واهتدى بهداها:
أن يعرف العبد طبيعة الحياة الدنيا، وأنها دار ابتلاء، لا جنة نعيم ولا دار مقام، فالكيِّس الفَطِن، لا يُفْجَأ بمكارهها؛ إذ الشيء من معدنه لا يستغرب.
أن يؤمن بقضاء الله وقدره، فهو أعظم ما تهون به البلايا، وتخف به المحن والرزايا؛ لقوله -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22- 23].
أن يستصغر الإنسان المصيبة التي تصيبه، بتذكر حاضر أنعم الله وسوالفها، والنظر إلى نعمة العافية مما هو أعظم.
أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه، وأنه ملك لله؛ فلا اعتراض على المالك الرحمن الرحيم في صنعه في ملكه.
أن يوقن بالفرج؛ الذي وعد الله به حيث قال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60]، وقوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5 - 6].
أن يوقن بحسن الجزاء؛ الذي أعده الله لعباده الصابرين حيث قال: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 96].
أن يستعين بالله بكثرة دعائه وسؤاله التوفيق للصبر: فقد أرشد الله نبيه إلى ذلك فقال: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) [النحل: 127].
أن يتأسى بأهل الصبر والعزائم: لقول الله لنبيه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35]، وقال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90].
اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر.