الخالق
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
النَّخلةُ كلُّها منفعةٌ لا يسقطُ منها شيءٌ بغيرِ منفعةٍ، فتمرُها غذاءٌ ودواءٌ وقُوتٌ وشرابٌ وفاكهةٌ وحَلوى، وجذعُها للأبنيَةِ، وسعفُها تُسقفُ به البيوتُ، وخُوصُها يُتَّخذُ منه المكاتلُ والأواني والحُصُرُ، ولِيفُها لصُنعِ الحِبالِ، بل حتى نوى التَّمرِ علفٌ للدوابِ .. وهكذا المؤمنُ تنتفعُ بكلامِه المُباركِ وأخلاقِه الحسنةِ وتعاملِه الطَّيِّبِ فلا تجدْه إلا في حاجةِ النَّاسِ مُساعداً لهم وناصحاً وواعظاً وآمراً بالمعروفِ وناهياً عن المنكرِ ومُعيناً على نوائبِ الحقِّ..
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.. أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71] ..
أما بعد: عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ وَهُوَ يَأْكُلُه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً خَضْرَاء كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟". فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، فَقَالُوا: هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، فَلَمْ يُصِيبُوا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا غُلَامٌ شَابٌّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَسَكَتُّ وَاسْتَحْيَيْتُ.
ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هِيَ النَّخْلَةُ".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا قُمْنَا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي، قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا؟، قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: "لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا".
عبادَ اللهِ .. وحيثُ إنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يَنطِقُ عن الهوى، فتعالوا لنرى بعضَ أوجِه الشَّبهِ بينَ المؤمنِ والنَّخلةِ:
فالنَّخلةُ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا .. والوَرقُ هو لِباسُ الشَّجرةِ وزينتُه .. وكذلك المؤمنُ فخيرُ لباسِه التَّقوى كما قالَ تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26] .. فلا ترى المؤمنَ إلا تَقيَّاً مُداوِماً على ما أمرَ اللهُ تعالى، تاركاً ما نهى عنه، حتى يوافيَ ربَّه تعالى وهو وليٌّ من أولياءِ اللهِ تعالى الَّذينَ وصفَهم سُبحانَه بقولِه: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62- 63].
وكذلك جاءَ في حديثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: "إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ –أي جُزءٌ صغيرٌ- أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟"، قَالُوا: لَا، قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ، وَلَا تَسْقُطُ لِمُؤْمِنٍ دَعْوَةٌ" ..
وذلك لأن النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا"، فقَالَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ".
والنَّخلةُ كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومطابقاً لِما جاءَ في الآيةِ: (تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم: 25]، فالبُسرُ والرُّطبُ والتَّمرُ يؤكلُ صيفاً وشِتاءً.. وكذلك المؤمنُ له عملٌ صالحٌ في كلِّ وقتٍ .. في الصَّباحِ والمساءِ وفي الحَضرِ والسَّفرِ وفي الصِّحةِ والعافيةِ .. مُتأسياً بحبيبِه وقُدوتِه كما قالَ عَلْقَمَةُ: "سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ: قَالَتْ: لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً –أي مُسْتَمِرًّا-" .. ولا عجبَ فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القائلُ: "أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" .. وهكذا المؤمنُ يتقلَّبُ في أنواعِ الطَّاعاتِ .. ويصعدُ له في السَّماءِ في كلِّ حينٍ عباداتٌ .. حتى يموتَ على ذلك كما أوصاه ربُّه تعالى بقولِه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
وأيضاً لعلَّ بعضُكم يُلاحظُ أنَّ النَّخلةَ لا تنبتُ في كلّ أرضٍ، بل لا تنبتُ إلاّ في أراضٍ معيَّنةٍ طيِّبةِ التُّربةِ، ففي بعضِ الأماكنِ لا تنبتُ مُطلقاً، وفي بعضِها تنبتُ ولكن لا تُثمرُ، وفي بعضِها تُثمرُ ثَمراً رديئاً، فليس كلُّ أرضٍ تُناسبُ النَّخلةِ ..
وكذلك المؤمنُ يحتاجُ إلى بيئةٍ صالحةٍ يَعبدُ اللهَ تعالى فيها ويُظهرُ بها شعائرَ دينِه .. ولذلك شُرعتْ الهِجرةُ في سبيلِ اللهِ تعالى .. كما قالَ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97] ..
وكما قالَ ذلكَ العالِمُ الحكيمُ لِمن استفتاه، وقَالَ لَهُ: "إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟، فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ" ..
ويحتاجُ المؤمنُ إلى صُحبةٍ صالحةٍ تُعينُه على طاعةِ اللهِ تعالى .. قالَ سبحانَه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28] .. وكما أوصاهُ حبيبُه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- حينَ قالَ له: "لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ".
ومما جاءَ في الأحاديثِ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ، مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ" .. فالنَّخلةُ كلُّها منفعةٌ لا يسقطُ منها شيءٌ بغيرِ منفعةٍ، فتمرُها غذاءٌ ودواءٌ وقُوتٌ وشرابٌ وفاكهةٌ وحَلوى، وجذعُها للأبنيَةِ، وسعفُها تُسقفُ به البيوتُ، وخُوصُها يُتَّخذُ منه المكاتلُ والأواني والحُصُرُ، ولِيفُها لصُنعِ الحِبالِ، بل حتى نوى التَّمرِ علفٌ للدوابِ .. وهكذا المؤمنُ تنتفعُ بكلامِه المُباركِ وأخلاقِه الحسنةِ وتعاملِه الطَّيِّبِ فلا تجدْه إلا في حاجةِ النَّاسِ مُساعداً لهم وناصحاً وواعظاً وآمراً بالمعروفِ وناهياً عن المنكرِ ومُعيناً على نوائبِ الحقِّ ..
كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الجليسِ الصَّالحِ أنه كحامِلِ المِسكِ: "إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تَبتاعَ منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحاً طيِّبةً".. وهؤلاءِ هم خيرُ هذه الأمةِ كما جاءَ في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ عَلَى أُنَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُم؟"، قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا، قَالَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ".
وكما أن النَّخلَ بينه تفاوتٌ عظيمٌ في شكلِه ونوعِه وثمرِه، فليستْ النَّخيلُ في مستوى واحدٍ في الحُسنِ والجَودةِ، كما قال الله تعالى: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد: 4]، فبعضُه أفضلُ من بعضٍ، وهكذا الشَّأنُ بينَ المؤمنينَ فهم متفاوتونَ في الإيمانِ، وليسوا درجةً واحدةً، بل بينهم من التَّفاضلِ الشَّيءُ الكثيرُ، قالَ اللهُ تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ) [فاطر: 32].
والنَّخلةُ لا تبقى حيّةً إلاّ إذا سُقيتْ بالماءِ، فإذا حُبسَ عنها الماءُ ذَبلتْ، وإذا قُطعَ عنها ماتتْ، فلا حياةَ لها بدونِه، وهكذا الشأنُ في المؤمنِ لا يحيا الحياةَ الحقيقيةَ ولا تَستقيمُ حياتُه إلاّ بسقي قلبِه بالوحي، كلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رسولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؛ لأنَّ حياةَ القلوبِ الحقيقيةِ إنَّما تكونُ به، وبدونِه فإنَّ الإنسانَ يكون ميتاً ولو كانَ بينَ النَّاسِ من الأحياءِ .. (أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُلُمُاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].
والمؤمنُ من صفاتِه العفو .. كما ذكرَ اللهُ تعالى في صفاتِ أهلِ الجنَّةِ (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].. وقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا" .. بل يسامحُ ويتجاوزُ عن الأخطاءِ ويردُّ على السَّيئةِ بالحسنةِ كما قالَ تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34] .. وهذا من صفاتِ النَّخلِ كما قالَ الشَّاعرُ:
كُنْ كالنَّخيلِ عن الأحقادِ مُرتفعاً | يُرمى بصخرٍ فيُلقي أطيبَ الثَّمرِ |
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم وباركْ عليه وعلى آلِه الطيبينَ الطاهرينَ وعلى أصحابِه أجمعينَ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ ..
أما بعد: فالنَّخلةُ تمتازُ أيضاً بأنها كلَّما طالَ عمرُها ازدادَ خيرُها وجادَ ثمرُها، وهكذا المؤمنُ وهو خيرُ النَّاسِ إذا طالَ عمرُه ازدادَ خيرُه وحسنَ عملُه، ففي الحديثِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟، قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ".
وكما أنَّ النَّخلةَ أصبرُ الشَّجرِ على العَطشِ، فكذلك المؤمنُ صبورٌ على البلاءِ لا تزعزعه المصائبُ، وقد اجتمعَ فيه أنواعُ الصَّبرِ الثلاثةُ: الصبرُ على طاعةِ اللهِ، والصبرُ عن مَعاصيه، والصبرُ على أقدارِه المؤلمةِ .. مؤمناً باللهِ تعالى الحكيمِ في أقدارِه .. مُحتسِباً ذلكَ الأجرُ الذي أخفى اللهُ تعالى مِقدارَه .. (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
وأما ثباتُ أصلِ النَّخلِةِ في الأرضِ، واستقرارِها فيها، فشيءٌ مُشَاهدٌ .. تَهبُّ عليها الأعاصيرُ والرِّياحُ ثم تنجلي وإذا النَّخلةُ صامدةٌ ثابتةٌ قائمةٌ .. وهكذا المؤمنُ الصَّادقُ في ثباتِه على الحقِّ، فلا تحطمُه الفِتنُ ولا تفتنُه الشُّبهاتُ .. (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27] .. ولقد قالَ هِرَقْلُ لأَبي سُفْيَانَ بْنَ حَرْبِ: "وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟، فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ".
والأعجبُ في تشابِه المؤمنِ والنَّخلةِ هو حنينُهم إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. فعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَطَبَ اسْتَنَدَ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، صَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ جَابرٌ: بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ.
وهكذا المؤمنُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ يشتاقُ إليه شَوقاً عظيماً .. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ".
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ إِيمَاناً لا يَرْتَدُّ، وَنَعِيماً لا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَعْلَى جَنَّةِ الخُلْدِ .. اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّه إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْـلِمِينَ، وَأَحْينَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ ..
اللَّهُمَّ لا تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلا هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلا دَيْنًا إِلاَّ قَضَيْتَهُ، وَلا مَرِيضاً إِلاَّ شَفَيْتَهُ، وَلا مُبْتَلَى إِلاَّ عَافَيْتَهُ، وَلا ضَالاً إِلاَّ هَدَيْتَهُ، وَلا غَائِباً إِلاَّ رَدَدْتَهُ، وَلا مَظْلُوماً إِلاَّ نَصَرْتَهُ، وَلا أَسِيراً إِلاَّ فَكَكْتَهُ، وَلا مَيِّتاً إِلاَّ رَحِمْتَهُ، وَلا حَاجَةً لَنَا فِيهَا صَلاحٌ وَلَكَ فِيهَا رِضاً إِلاَّ قَضَيْتَهَا وَيَسَّرْتَهَا بِفَضْلِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.