الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
من يصدق أن هذا جواب غلام, وردُّ صبي؟! جمع فيه بين الخلق والأدب، والرد الجميل، والعبارات المختصرة المقنعة، التي تدل على قوة الشخصية، وعلو التربية، وشهامة الأصل، وقوة التوكل، وحسن التصرف، الذي لم يكتسبه من فراغ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي من علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، أحمده -سبحانه- وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب.
أما بعد:
عباد الله: نريد اليوم أن نتكلم عن معضلة تربوية هامة، ومشكلة واقعية خطيرة، وخطأ تربوي جسيم، أحببنا الحديث حوله لأن بعض الناس يظنه صوابا, مع أنه في الحقيقة خطأ وليس بصواب، وأمر مذموم وليس بمحمود، إنها ظاهرة عدم اصطحاب الولد من قبل أبيه إلى بعض المناسبات والمجالس.
لقد أمرنا ديننا الإسلامي الحنيف بالاعتزاز بالأبناء، وتربيتهم على الثقة بأنفسهم، وغرس الأصالة في ذواتهم، ولهذا كان المسلمون قديماً يحثون أولادهم على حضور مجالس الكبار، وشهود أماكن التجمع والمناسبات، ويصطحبون معهم من يعقل ويدرك من الأبناء ليشهد تلك المجالس؛ حتى يتربوا على الأصالة، ويكونوا أهلاً للثقة، جديرون بتحمل المسئولية، يعرفون كيف يتصرف الكبار؟ وماذا يقول الكبار؟ وكيف يتعامل الكبار؟.
أما في زماننا هذا فقد أخذ فيه بعض الآباء بنهي أولاده عن حضور مجالس الكبار، ويأمرهم بالخروج إذا حضر الرجال، ويأمرهم أمراً صارماً بعدم البقاء دقيقة واحدة في المجلس إذا أتى إليه أحد من الناس.
إن لهذا المنع أسباباً كثيرة والله المستعان، ومن أعظمها -والله أعلم- هو إن كثيراً من الآباء اليوم يعرف أخلاق أبنائه السيئة، ويدرك تصرفاتهم الحمقاء، ويسمع كلماتهم الجوفاء، ولهذا ينهاهم أشد النهي عن حضور مجالس الكبار، ولا يصحبهم معه إلى شهود المناسبات، حتى لا يسودوا وجهه، أو يخزونه أمام الرجال.
إن هذا الأب قد عرف الداء، وهو أن ابنه ضعيف الحياء، خفيف الأدب، فبدلاً من تربيته على الأدب، وغرس القيم والأخلاق في نفسه، وتأصيله على ذلك ومتابعته فيها حتى يستقيم خلقه ويتحسن أدبه، بدلاً من هذا كله قام بمنعه من شهود المجالس، وعدم اصطحابه لحضور المجالس، وكأنه يئس من صلاحه، وملّ من هدايته، ورأى أنه سيبقى هكذا معوجاً، ولا حل إلا هجره وتركه لوحده، وعدم اصطحابه إلى مجالس العقلاء ورياض الفضلاء.
وبعض الآباء يعلم أن ثقافة ابنه ضعيفة ومداركه هشة، ولهذا يمنعه من حضور المجالس ولا يصطحبه لشهود المناسبات لأنه يرى أنه إذا حضر فلن يعدوا أن يكون مجرد صنم لا يحرك ولا يتحرك، ونكرة لا تقدم ولا تؤخر، ولن يشارك في المجلس بشيء، ولن يتكلم بكلمة، ولو وجه إليه السؤال أو توجه نحوه الخطاب فإنه سيخرس، ولن يزيد على الابتسامة وتحريك شفتيه.
إن السبب في هذا واضح جداً وهو أننا لم نرب أبناءنا على ثقافتنا الأصيلة، وأحاديثنا البالغة، ولم نصطحبهم إلى مجالسنا وشهود مناسباتنا في أوقات مبكرة، فتربى أولادنا على ثقافات أخرى وأقاويل أخرى، كأحاديث الرياضة، وأخبار الفن، ومخاطبات الدردشة والمحادثات الالكترونية.
فهذه هي الأحاديث التي يتقنون الكلام حولها، وهذه هي الأقاويل التي من الممكن أن يدلوا بمعلومات عنها، أما قصص الأجداد، وتاريخ الإسلام، ومجالس العرب، وكلام الأقحاح والحكماء، ومعرفة الأنساب والبلدان، فهذا كله بعيدون عنه ولا يعلمون عنه شيئاً، والسبب نحن الآباء عندما شجعناهم منذ البداية على عدم حضور المجالس، وتركناهم ولم نأخذهم معنا لشهود المناسبات.
وإذا اصطحبه معه حذره من الكلام، وأمره بالجلوس في طرف المجلس، وألجمه بلجام من التنبيهات الخاطئة التي يظن الأب أنها من تمام التربية, وهي في الحقيقة من الأخطاء التربوية، والاختلالات الاجتماعية التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني.
ومن الأسباب في ذلك: ظهور التلفاز، ووسائل التقنية، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلت كثيراً من الناس يزهد في مجالسة أهله، ويبتعد عن حضور المناسبات معهم، لأنه مشغول بتلك الدردشات التافهة، والمحادثات الالكترونية الوهمية، التي لن تفيده في كثير من الأحيان إلا خراب النفوس والإدمان، وتضييع الأوقات، وضعف النظر.
ومن هنا يتربى الابن على الجهل التام بمعرفة نفسه، وأهله، ونسبه، وتاريخ قبيلته، وأحوال مجتمعه، فلا يدري باسمه كاملاً، ولا يعرف موطنه الأصلي، ولا يحفظ شيئاً عن حكايات أهله وأجداده، ولا يدري شيئاً عن واقعه الذي يدور حوله، ويتفاجأ بعد وقت إذا قيل له فلان حدث له كذا أو كذا، لأنه بعيد كل البعد عن شهود مثل هذه المجالس والمناسبات التي تطرق فيها مثل هذه الأخبار، وتقال فيها مثل هذه الأقاويل.
روى البخاري ومسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَدِهِ" [ البخاري (2605 ) مسلم (2030)].
إن هذا الحديث العظيم فيه دلالات كثيرة على ما قلناه وتكلمنا حوله، ومن أهمها: أن هذا المجلس كان فيه هذا الغلام الذي كان جالساً عن يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- وهناك أشياخ مسنون ورجال كبار في السن عن يساره -صلى الله عليه وسلم- وهذا فيه دلالة واضحة على أهمية حضور الصغار مجالس الكبار، وشهودهم مناسباتهم وجلساتهم.
ولو تأملتم في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لوجدتم أن له -عليه الصلاة والسلام- أعظم الحظ وأوفر النصيب من شهود مجالس الكبار، وحضوره المناسبات العامة التي كانت تقام لمناسبة معينة، مع أن فيها كبار القوم وأشياخ الناس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يزال في تلك الفترة صغير في السن.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لَقَدْ شَهِدْتُ -يعني في الجاهلية- فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ" [ سنن البيهقي (13461)].
وعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ, فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ, فَخَرَجَ إِلَيْهِمِ الرَّاهِبُ, وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ, قَالَ: فَهُمْ يَحِلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ, هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ, هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدُ إِلَّا لِنَبِيٍّ" [ مصنف ابن أبي شيبة (31733 )].
والشاهد هنا هو قوله: "خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ". مما يدل على أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان يحضر تلك المجالس، ويشهد تلك المناسبات، مع أنها مجالس كبار، ومناسبات يشهدها أشياخ القوم وكبارهم.
فاحرصوا -أيها الآباء الكرام- على تعويد أبنائكم على ذلك، وخذوهم معكم إلى حيث تريدون من الأماكن العامة، والمناسبات المشهودة، وإياكم وتربيتهم عل الانطواء، والتقوقع، والبعد عن الآخرين، فإن في ذلك ضرراً عليهم وخللاً في تربيتهم وكونوا ممن قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [الفرقان 74: 75]. يسألون ربنا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم ويهتدي الناس بهديهم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الوهاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم التواب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأواب، وعلى آله وأصحابه خير الأصحاب والأحباب، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الحساب.
عباد الله:
إن مخالطة الأبناء لآبائهم تورثهم عقلاً، وتكسبهم أدباً، وتكسوهم حكمة وخلقاً، يقول المؤرخون: "رأى عمر بن عبد العزيز ولداً له في يوم العيد وعليه ثوب خِلق -أي: قديم- فدمعت عيناه، فرآه ولده، فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بني! أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخِلق، قال: يا أبت إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه، أو عق أمه وأباه، وإني لأرجو الله تعالى أن يكون راضياً عني برضاك".
لله دره من كلمات، ولله دره من جواب وعبارات، من يصدق أن هذا جواب غلام, وردُّ صبي؟! جمع فيه بين الخلق والأدب، والرد الجميل، والعبارات المختصرة المقنعة، التي تدل على قوة الشخصية، وعلو التربية، وشهامة الأصل، وقوة التوكل، وحسن التصرف، الذي لم يكتسبه من فراغ.
مَن مِن أبنائنا سيجيب جواباً مسدداً عند السؤال؟ ويتصرف بتصرف لائق عند الاحراج؟ ويتكلم مع كل واحد بحسب عقله وفهمه؟ للأسف قليل هؤلاء، وكثير من أبنائنا تجد أنه يصل للمرحلة الجامعية ومع ذلك يسكت إذا سئل، ويخيل إذا تكلم، ويتوقف إذا اعترض له موقف أو ظرف معين، والسبب هو أنه لم يتربَ على شهود مثل هذه المناسبات، ولم يسمع بقصص الآخرين الذين وقعت لهم مثل هذه المواقف وكيف تصرفوا حيالها؟
هل سمعتم بدرواس بن حبيب؟ إنه غلام صغير عمره لا يتجاوز الأربعة عشر عاماً، يذكر عنه التاريخ أنه قدم مع القبائل لما قحطت البادية في زمن هشام بن عبد الملك، فأحجم القوم وهابوا هشاماً، فوقعت عين هشام على درواس، فاستصغره، فقال لحاجبه: ما يشأ أحد أن يصل إلي إلا وصل حتى الصبيان؟.
فسمع الغلام هذه الكلمة، فقال: يا أمير المؤمنين! إن دخولي لم يخل بك شيئاً ولقد شرفني، وإن هؤلاء القوم قدموا لأمر أحجموا دونه، وإن الكلام نشر، والسكوت طي، ولا يعرف الكلام إلا بنشره، فقال هشام -وقد بدا عليه العجب وعلته الدهشة-: انشر لا أبا لك، وأعجبه كلامه.
فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! أصابتنا ثلاث سنين، سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة نقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، إن كانت لله ففرقوها على مستحقيها، وإن كانت لعباد الله؛ فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم؛ فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، واعلم يا أمير المؤمنين! أن الوالي من الرعية كالروح من الجسد، لا حياة للجسد بدونه. فقال هشام: ما ترك الغلام لنا عذراً! وأمر أن يقسم في باديتهم مائة ألف درهم، وأمر للغلام لوحده بمائة ألف درهم.
فأين أبناؤنا من تسطير مثل هذه المواقف؟ وأين هم من شهود المجالس، وأين نحن من تشجيعهم على ذلك وحثهم عليه، فالله الله في تعويدهم على ذلك وحثهم عليه، وقوموا باصطحابهم معكم إلى المجالس وعلموهم الأدب قبلها، ليكونوا لكم عزة ورفعة.
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف : 46].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم وفقنا لتربية أولادنا تربية صالحة ترضى بها عنا، ووفقنا وإياهم للبر والتقوى، واجعل مجالسنا في الخير وللخير يا أرحم الراحمين.