الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المعاملات |
إن السلف المتقدمين كانوا يتجنبون -لا أقول المعاملات المحرمة- وإنما مجرد المعاملات المشبوهة ولو كان فيها مثقال ذرة من شبهة، وأما اليوم فإن كثيراً من المتأخرين يعلمون حرمة كثير من المعاملات، ويعلمون عدم شرعيتها، ومع ذلك يتقصدون التعامل بها؛ لتحقيق مصلحة مادية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل المال عماد الحياة، وأعان به الإنسان على دينه ودنياه، وحذر من صرفِ المال في غير ما يحبه ويرضاه ، ونهى عبده عن الطغيان إن هو أغناه, فله الحمد على ما أعطاه، وله الشكر على ما أولاه، ونسأله المزيد من فضله وعطاياه.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الأمين، والمرشد العظيم، إلى مصالح الدنيا والدين, المبعوث بالهدى والحكمة رحمة للعالمين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين, وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن المال هو عصب الحياة، وزينةٌ من زينتها، ومقوم كبير من مقوماتها، به يصان الإنسان من القلة، ويعز من الذلة، ولهذا فُطر المرء على حبه، وطبع على طلبه والبحث عنه. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ) [الفجر: 20]، ويقول: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 6-8]، والمقصود بالخير هنا في هذه الآية هو المال، وقال -جل وعلا-: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُوراً) [الإسراء: 100].
فهذه الآيات الثلاث يبين الله فيها حرص الإنسان على المال، وحبه الشديد، له, وأنه لو كان يملك خزائن الله التي لا تنفد ولا تبيد لأمسك وبخل؛ خشية أن ينفد ما ينفق منه، مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله، ولكن هكذا الإنسان طبع على الشح والبخل.
عباد الله: لقد جاء الإسلام، وهذب نفوس البشرية تجاه المال، وبيّن حلاله وحرامه، وطرق اكتسابه وانفاقه، وعلمّ الناس كيفية التعامل معه وبه، فكلما كان المرء متمسكاً بدينه، ملتزماً بأحكامه وضوابطه، كلما تهذبت نفسيته مع المال، وتعامل معه تعاملاً شرعياً صحيحاً. وكلما ابتعد المرء عن الدين وتعاليمه، ولم يعرف أحكامه وضوابطه، كلما جشعت نفسه، وتسعرت نفسيته، وسقطت أخلاقه في التعامل مع المال.
ولهذا لو نظرنا إلى الموقف من المال بين السلف والخلف، والمتقدمين والمتأخرين، لوجدنا فرقاً كالفرق الذي بين السماء والأرض بين هؤلاء وهؤلاء، وصدق النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقَول: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ بِحَلاَلٍ، أَوْ بِحَرَامٍ" [البخاري (2083)].
عباد الله: لقد كان السلف يتنبهون لأمر المال، ويخافون من مغرياته وشهواته، ويعلمون مدى تأثيره على الإنسان، وصرفه له عن الخير، ويدركون جيداً تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من شروره وغوائله.
أما اليوم، فمعظم الناس تجدهم قد تمكن حب المال في قلوبهم، ولم يعودوا يبالون بحلاله وحرامه، وإنما يبالون بمجرد جلبه، ويحبون الاستكثار منه دون خوف أو وجل من عاقبته، إذ حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كثرة المال فقال: "إنَّ الأَكْثَرينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هكَذَا وَهكَذَا وَهكَذَا عن يمينِهِ وعن شِمَالِهِ وِمنْ خَلْفِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمُ" [البخاري (6268) مسلم (32)] أي أن المال مغر للنفوس، وسبب في إبعادها عن الله والدار الآخرة، إلا من تصدق به، وقال به هكذا وهكذا، أي وزعه وأنفقه ولم يبقي منه شيء. ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتِي: المَالُ" [الترمذي (2336)].
كان السلف يخافون من نعمة المال أشد الخوف، حتى كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا فتح الله على المسلمين بلداً، وغنموا غنائمه يقول: "ما حبس الله تعالى هذا عن نبيه ولا صاحبه لشر أراده بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له". فقد كان عمر يدرك أن هذه الغنائم تحمل بين طياتها من الشر ما لم يكن موجوداً في عصر النبوة، ولا في عصر الصديق -رضي الله عنه- وكان يوقن تماماً أن هذه الغنائم كما تحمل الخير، فإنها تحمل كذلك الشر.
وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يدرك ذلك جيداً، فكان إذا فتح الله على المسلمين بلداً من البلدان، كان الناس يضحكون ويمرحون إلا هو فكان يبكي ويقول: لقد سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أخْشَى أَنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ" [البخاري (3158) مسلم (2961)].
عباد الله: إن السلف كانوا يتعاملون مع المال الذي عندهم بورع شديد، وخوف كبير، ورع في جلبه، وورع في بقائه، وورع في صرفه؛ لأنهم يعلمون أن أقدامهم لن تزول يوم القيامة حتى يسألوا عن أموالهم كيف اكتسبوها، وفيما أنفقوها؟.
أما اليوم فلا أقول ضعف الورع وقلّ الخوف، وإنما انعدم الورع، وتلاشى الخوف من قلوب أكثر الناس تجاه المال، فتجدهم غير مبالين بوسائل جلبه، ولا يتورعون في تصريفه، وإنما جشع كبير، وحرص شديد، ولا مبالاة مخيفة بوسائل كسبه وتعاطيه وإخراجه -والله المستعان-.
يقول يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "إِنَّ الدِّرْهَمَ عَقْرَبٌ، فَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ رُقْيَتَهُ فَلَا تَأْخُذْهُ بِيَدِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ لَدَغَكَ قَتَلَكَ" [حلية الأولياء (10/59)]. إن السلف المتقدمين كانوا يتجنبون -لا أقول المعاملات المحرمة- وإنما مجرد المعاملات المشبوهة ولو كان فيها مثقال ذرة من شبهة، وأما اليوم فإن كثيراً من المتأخرين يعلمون حرمة كثير من المعاملات، ويعلمون عدم شرعيتها، ومع ذلك يتقصدون التعامل بها؛ لتحقيق مصلحة مادية، أو كسب شخصي، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء : 29].
كثير في زماننا من يعلم حرمة الربا، ومع ذلك يتعاملون به، ويضعون أموالهم في بنوكه، ويأكلون فوائده، ولا يتورعون عنه، ثم يقرؤون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : 130]، ويسمعون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة 278: 279] ومع ذلك لا يكفون ولا ينتهون.
ويأكلون أموال المساكين والمستضعفين واليتامى والورثة بغير حق، وهم يعلمون التحذير الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء : 10]. ويتعاملون بالرشوة والنصب والاحتيال عبر الطرق الملتوية والأساليب المختلفة، أما المتقدمون فكانوا بعيدون كل البعد عن هذا كله.
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن أموالكم وأولادكم فتنة لكم إن لم تتصرفوا معها كما تصرف السلف الصالح معها، فكونوا على قدر المسئولية والوعي، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ : 37]، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون : 9].
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي كرم بني آدم وجعل رزقهم من الطيبات، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا وما في السموات، أحمده -سبحانه- على جزيل الفضل والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والأسماء والصفات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي دعا الناس كافة إلى إفراد الله بالعبادات، وحرم عليهم الخبائث وأحل لهم الطيبات، وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهديهم في الأقوال والأفعال والاعتقادات.
أما بعد:
عباد الله: لقد كان السلف -رضي الله عنهم- في قمة الحذر، وفي غاية الخوف من أن تصل إلى أجوافهم ولو لقمة من الحرام، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير خلق الله وأتقاهم لله، يقول: "إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، ثُمَّ أَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا" [مسلم (1070)].
وهذا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وأرضاه كان له غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ: "وَمَا هُوَ؟ قَالَ :كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ" [البخاري (3842)].
ورُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: "من أين لك هذا؟" فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. وهذه امرأة من الصالحات تقول لزوجها: "اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار".
لو نظرنا في موضوع المال بين نظرتين، نظرة الأولين وورعهم في التعامل معه، ونظرة المتأخرين وهلعهم عليه؛ لو جدنا الفرق الكبير بين ورع الأولين، وهلع المتأخرين.
إن السلف ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويتصدقون بها في وجوه الخير، ويقتصدون في المعيشة بلا إسراف ولا تبذير، حتى لو كانوا من أهل الغنى، ولا يتطلعون إلى ما في أيدي الناس، ولا ينظرون إلى ما عندهم، فضلاً عن أن يسألوهم أو يطلبوا منهم شيئا، وينظرون دائماً إلى من هو أسفل منهم، وليس إلى من هو أعلى منهم، ويقنع كل واحد منهم بما أعطي، ولا يفكر الواحد منهم في المستقبل؛ لأنه يعلم أن الرزاق باق حي لا يموت، وإذا اشتركوا في تجارة تجدهم فيها كالإخوة، يقتسمون المال بينهم بالسوية، أما اليوم فالواقع عكس ذلك تماماً في كل هذه الأمور.
دعِ الحرصَ على الدنيا | وفي العيش فلا تطمَع |
فلا تجمع من المال | فما تدري لمَن تجمع |
فإن الرزق مقسوم | وسوءَ الظنِّ لا ينفع |
وأختم بهذا الحديث العظيم، وأترك التعليق لكل فرد منا؛ لينظر الفرق بين المتقدمين والمتأخرين مع المال. روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ : أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا" [البخاري (3472 ) مسلم (1721)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك, و أغننا بفضلك عمن سواك, وارزقنا الحلال وبارك لنا فيه, وجنبنا الحرام وبغضنا فيه.