الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | عبد الله الواكد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
تأمَّلوا فيما حباكم به الله من النعم والمنن لتعلموا أنّ ما أنتم فيه من البلاء كقطرة صغيرة في بحر النعماء، وتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم، والحادثة أجل وأفدح، واعلموا أنّ فيما وُقيتم من الرزايا وكُفيتم من الحوادث ما هو أعظم مما أُصبتم به.
الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها المسلمون، فإن المصائب حادثات لا بد منها، فمن منّا -أيها الأحبة- لم تنزل به مصيبة أو يتعرض لمشكلة؟! من منا لم يفقد حبيبًا، أو يخسر تجارة، أو يتألم لمرضٍ ونحوه؟!.
قدوتنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ضرب لنا مثلاً معبرًا للمؤمن في هذه الحياة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ، لا تهتزّ حتى تُستحصد" رواه مسلم. فالريح، وإنْ أمالت الزرع، لا تطرحه ولا تكسره ولا تسقطه، وكذلكم المؤمن، فإنّ المصائب، وإنْ آلمته وأحزنته، فإنها لا يمكن أنْ تهزمه أو تنال من إيمانه شيئًا.
هذه الدنيا -أيها الأحبة المؤمنون- مليئة بالحوادث والفواجع والأمراض والمصائب؛ الدنيا منح ومحن، وأفراح وأتراح، وآمال وآلام، ودوام الحال من المحال، وهيهات أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!.
هذه هي الدنيا، وهذه هي أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، فذلكم دواء أدوائها.
قال الحسن رحمه الله: "جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئًا أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره".
أيها المسلمون: إن أمر المؤمن بين الناس أمر عجيب؛ لأنّه إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، كما صح ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلمون، أمرنا الله بالصبر، وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153]، ثم أخبر مؤكِّدًا أنّ الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأرزاق والأموال والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم، فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155].
فعلى المسلم -أيها المسلمون- أن يهيِّئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأنْ يدرِّب نفسه قبل حدوثها، علينا أنْ نتذكّر دومًا وأبدًا زوال الدنيا وسرعة الفناء، وأنْ ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة، ومُددًا منقضية، وقد مثَّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حالَ العبد في الدنيا كراكب سار في يوم قائظ، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها.
فلا تغترّوا برخائها، ولا تؤمِّلوا أنْ تبقى هذه الدنيا الدنية على حال، فمن عرف الدنيا وأحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها.
وإن مما يعين على الصبر على المصائب الإيمان بالقضاء والقدر؛ فَمن آمن بالقضاء والقدر وعلم أنّ الدنيا دار ابتلاء وخطر وأنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل، اطمأنت نفسه وهان أمره.
ومن المشاهَد المعلوم أنّ المؤمنين هم أقلّ الناس تأثُّرًا بمصائب الدنيا، وأقلُّهم جزعًا وارتباكًا، فالإيمان بالقضاء والقدر كصمَام الأمان الواقي لهم بإذن الله من الصدمات والنكسات.
إنهم مؤمنون بما أخبرهم به الصادق المصدوق، إذ قال -عليه الصلاة والسلام-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف" رواه الترمذي.
فالآجال والأرزاق مقرَّرة مقدَّرة والمرء في بطن أمه، قالت أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا: اللهم أمتعني بزوجي رسولِ الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاقٍ مقسومة، لن يعجّل شيئًا قبل حِلّه، أو يؤخر شيئًا عن حلّه، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذكِ من عذابٍ في النار أو عذابٍ في القبر كان خيرًا وأفضل" رواه مسلم.
أيها المسلمون: الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوة لكل مسلم كما قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]، وفي تأمُّل حاله -عليه الصلاة والسلام- عِظَةٌ وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته كلها صبرًا وجهادًا.
مات أبوه، وماتت أمه، وفي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ومات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال، وقد دمعت عيناه: "إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرْضي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" رواه البخاري. ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.
ومن تأمَّل أحوال السلف الصالح وجدهم -رضي الله عنهم- قد حازوا الصبر على خير وجوهه.
ومما يعين على الصبر عند المصائب استحضار سعة رحمة الله وواسع فضله؛ فالمؤمن الصادق في إيمانه يُحْسِن ظنَّه بربه، وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه: "أنا عند ظن عبدي بي".
فثقوا بسعة رحمة الله بكم، وأنّ أقداره خير في حقيقة أمرها وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- : (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: تأمَّلوا فيما حباكم به الله من النعم والمنن لتعلموا أنّ ما أنتم فيه من البلاء كقطرة صغيرة في بحر النعماء، وتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم، والحادثة أجل وأفدح، واعلموا أنّ فيما وُقيتم من الرزايا وكُفيتم من الحوادث ما هو أعظم مما أُصبتم به.
وتأسَّوْا بغيركم من أهل المصائب، وانظروا إلى من هو أشدّ مصيبة منكم، فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلِّل الهلع والجزع.
وتذكَّروا أنّ مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله، ليتذكَّرْ من أصيب بعاهة أو مرض مَنْ هو أشدّ منه، وليتذكَّرْ من فجع بحبيب مَن فُجع بأحباب، وليتذكَّرْ من فقد ابنه مَن فقد أبناء.
سأل سعد بن أبي وقاص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" رواه الترمذي، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه" رواه البخاري.
وتذكَّروا ما أعدّه الله للمبتلَين الصابرين من الأجر والثواب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وحسن الخلف والعوض، قال -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
فأمّا الأجر والثواب فلا أحسن ولا أعظم من الجنة جزاءً وثوابًا، وقد وعِد بها كثير من الصابرين، فوُعِدت بها تلك المرأة التي كانت تُصرع لما آثرت الصبر على الشفاء، ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنّ الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة" رواه البخاري.
وبشّر -عليه الصلاة والسلام- المرأة التي مات لها ثلاثة من أولادها بأنها احتمت بحمًى منيع من النار، وحسبكم عزاءً وتفريجًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَكَ واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسَمُّوه بيت الحمد" رواه الترمذي.
وعلى من أصيب بمصيبة أنْ يكفَّ نفسه عن تذكُّرها وتردادها في ذهنه، وأنْ ينفيَ الخواطر والمهيِّجات إذا مرَّتْ به، ولا ينمّيها ويعايشها، لأنّ من مات لا يعود، وما قُضي لا يردّ، وقد روي عن عمر بن الخطاب قوله: "لا تستفزُّوا الدموع بالتذكُّر".
ومما يعين على الصبر عند المصائب الابتعاد عن العزلة والانفراد، فإنّ الوساوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرِّغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره.
وأشغل نفسك بما فيه نفعك، واحزم أمرك، واشتغل بالأوراد المتواصلة والقراءة والأذكار والصلوات، واجعلها أنيسك ورفيقك، فإنّه بذكر الله تطمئنّ القلوب. روي عن علي قوله: "اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له".
جعلنا الله جميعًا من الصابرين الشاكرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
صلوا وسلموا على محمد...