السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
وَأما الْأُصَيْرِمُ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ فَقد كانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ: قَذَفَ اللّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى الّتِي سَبَقَتْ لَهُ، فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ، فَلَمّا طَافَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ وَجَدُوا الْأُصَيْرِمَ - وَبَهْ رَمَقٌ يَسِيرُ - فَقَالُوا: وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْأُصَيْرِمَ، ثُمّ سَأَلُوهُ مَا الّذِي جَاءَ بِك؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِك، أَمْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟، فَقَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ آمَنْتُ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ .. وَمَاتَ مِنْ وَقْتِهِ .. فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ" .. وَلَمْ يُصَلِّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ قوَّةَ هذه الأمَّةِ في إيمانِها، وعِزَّها في إسلامِها، والتَّمكينَ لها في صِدقِ عبادتِها، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيَّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، دعا إلى الحقِّ وإلى طَريقٍ مستقيمٍ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، كانوا في هذه الأمَّةِ قدوتَها ومصابيحَها، والتَّابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلمَ تسليمًا ..
أما بعد: انتهتْ معركةُ أُحُدٍ .. فَمَرَّ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على القتلى فنظرَ إليهم حزيناً، ثُمَّ قالَ: "أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القيامةِ" .. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا .. ثُمَّ بعدَ سِنينَ عديدةٍ يذهبُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم ليُودِّعَهم وهو في مَرضِ موتِه ..
كما في حديثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا"، قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَكيفَ أصبحَ لشهداءِ أُحُدٍ تلكَ المكانَةُ العَاليَةُ؟ .. فاسمعوا معي لبعضِ أَخْبارِهم .. فإِنَّ أمرَهم شَيْءٌ عُجَابٌ.
أولُهم وسيِّدُهم حمزةُ بنُ عبدِ المُطلبِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- .. كَانَ حَمْزَةُ يُقَاتِلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ بِسَيْفَيْنِ في يمينِه سَيْفٌ وفي شمالِه سَيفٌ، وَيَقُولُ: أَنَا أَسَدُ اللَّهِ .. فَجَعَلَ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ .. حتى قتلَ واحداً وثلاثينَ نَفْساً .. فكيفَ قُتلَ هذا الشُّجاعُ الَّذي لا يُواجَه؟ ..
يقولُ وَحْشِيٌّ: "كُنْتُ عَبْدَ جُبَيْرِ بنِ مُطْعَمٍ، وَكَانَ عَمُّهُ طُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ قُتِلَ يَوْم بَدْرٍ .. فَقَالَ لِي: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ فَأَنْتَ حُرٌّ .. وَكُنْتُ صَاحِبَ حَرْبَةٍ أَرْمِي، قَلَّمَا أُخْطِئُ بِهَا، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا أَخَذْتُ حَرْبَتِي، وَخَرَجْتُ أَنْظُرُ حَمْزَةَ، حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي عُرْضِ النَّاسِ مِثْلَ الجَمَلِ الأَوْرَقِ، يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ هَدَّاً، فَهَزَزْتُ حَرْبَتِي، حَتَّى إِذَا رَضِيْتُ عَنْهَا، دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِي ثُنَّتِهِ، حَتَّى خَرَجَتْ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَوَقَعَ، فَتَرَكْتُهُ وَإِيَّاهَا، حَتَّى إِذَا مَاتَ قُمْتُ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى العَسْكَرِ، فَقَعَدْتُ فِيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي حَاجَةٌ بِغَيْرِهِ".
ولمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حَمْزَةَ وقَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثِّلَ بِهِ، فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ قَالَ: "لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا، ومَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا قَطُّ أَغْيَظَ إلَيَّ مِنْ هَذَا".
وأما مصعبُ بنُ عُميرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- .. فَقَدْ اختارَه النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحمْلِ لِوَاءِ المُسلمِينَ في يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ ثَبَتَ بِهِ مُصْعَبٌ، فَأَقْبَلَ ابْنُ قَمِئَةَ وَهُوَ فَارِسٌ فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَهَا، وَمُصْعَبٌ يَقُولُ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
وَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَحَنَا عَلَيْهِ فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَقَطَعَهَا، فَحَنَا عَلَى اللِّوَاءِ وَضَمَّهُ بِعَضُدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ الثَّالِثَةَ بِالرُّمْحِ فَأَنْفَذَهُ وَانْدَقَّ الرُّمْحُ .. وَوَقَعَ مُصْعَبٌ .. وَسَقَطَ اللِّوَاءُ.
ولَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ فِي بُرْدَةٍ مَقْتُولٍ فَقَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُكَ بِمَكَّةَ وَمَا بِهَا أَحَدٌ أَرَقُّ حُلَّةً، وَلَا أَحْسَنُ لِمَّةً مِنْكَ، ثُمَّ أَنْتَ شَعِثُ الرَّأْسِ فِي بُرْدَةٍ" .. فَقَرَأَ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 22].
وهذا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقولُ: رَأَيْتُ فِي النّوْمِ قَبْلَ يَوْمِ أُحُدٍ بِأَيّامٍ مُبَشِّرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا فِي أَيّامٍ، فَقُلْت: وَأَيْنَ أَنْتَ؟، فَقَالَ: فِي الْجَنّةِ، نَسْرَحُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ، قُلْت لَهُ: أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ؟، فَقَالَ: بَلَى، ثُمّ أُحْيِيت، فَذَكَرتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ: "هَذِهِ الشّهَادَةُ يَا أَبَا جَابِرٍ" ..
فَأوصَى ابْنَهُ جَابِراً بِقَولِهِ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ فِي أَوَّلِ مَنْ يُصَابُ غَدًا، فَأُوصِيكَ بِبَنَاتِي خَيْرًا .. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ .. يَقولُ جَابِرٌ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي، وَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْهَوْنِي وَهُوَ لَا يَنْهَانِي، وَجَعَلَتْ عَمَّتِي تَبْكِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَبْكِيهِ أَوْ لَا تَبْكِيهِ مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظَلِّلُهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ".
قَالَ طَلْحَةُ بْنُ خِرَاشٍ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: "يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِى يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا، قَالَ: "أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟"، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا –مُباشَرةً دونَ حِجَابٍ ولا رَسولٍ- فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَىَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيةً، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّى أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُونَ".
وها هو عَمْرَو بْنُ الْجَمُوحِ .. كَانَ رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ مِثْلَ الْأُسْدِ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-: قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ الْخُرُوجِ مَعَكَ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْكَ"، وَقَالَ لِبَنِيهِ: "مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ فَخَرَجَ مَعَهُ"..
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ، أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ" .. فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ .. فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ".
قال زيدُ بنُ ثابتٍ: بعثني رسُولُ اللهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومَ أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ، فقالَ لي: "إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئُه منِّي السَّلاَمَ، وقُلْ لهُ: يقولُ لَكَ رسُولُ الله -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ تَجِدُكَ؟"، قالَ: فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلى، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَق، وفيه سبعونَ ضربةً، ما بين طَعنةٍ برُمح، وضَربةٍ بسيف، ورَميةٍ بسهم، فقلت: يا سعدُ، إنَّ رسولَ الله -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأُ عليكَ السَّلامَ، ويقولُ لك: أخبرني كيف تَجِدُكَ؟ فقال: وعلى رسولِ اللهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السلامُ، قل له: يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجنَّةِ، وقل لقومي الأنصارِ: لا عُذْرَ لكم عندَ اللهِ إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، وفاضَتْ نفسُهُ من وقتِه.
وأما حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ .. والَّذي سُمّي بحَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ .. فلما قتَلَهُ الكفَّارُ يومَ اُحُدٍ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلَهُ الْمَلَائِكَةُ" .. فَسَأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟، فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَاتِفَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ".
وعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ -بأطْرَافِ أصَابِعِهِ-.
وَأما الْأُصَيْرِمُ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ فَقد كانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ: قَذَفَ اللّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى الّتِي سَبَقَتْ لَهُ، فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ، فَلَمّا طَافَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ وَجَدُوا الْأُصَيْرِمَ - وَبَهْ رَمَقٌ يَسِيرُ - فَقَالُوا: وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْأُصَيْرِمَ، ثُمّ سَأَلُوهُ مَا الّذِي جَاءَ بِك؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِك، أَمْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟، فَقَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ آمَنْتُ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ .. وَمَاتَ مِنْ وَقْتِهِ .. فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ" .. وَلَمْ يُصَلِّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ.
أقولُ قولي هذا .. وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ .. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ .. فاستغفروا ربَّكم إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ القويِّ القَهَّارِ، العزيزِ المنتَقمِ الجَبَّارِ، أحمدُه أعزَّ عبادَه الأبرارَ، وأذلَّ الطُغاةَ والفُجَّارَ، وأصلي وأسلمُ على النَّبيِّ المختارِ، خيرَ من حملَ السَّيفَ البتَّارَ، فدقّ به أعناقَ اليهودِ والكُفَّارِ، ثم الصلاةُ بَعدُ تتَرى على الأئمةِ الأطهارِ، من المهاجرينَ والأنصارٍ ..
أما بعد: ومِن أمثلةِ الصِّدقِ يومَ أُحُدٍ .. ما ذكَرَه سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلا تَأْتِي نَدْعُو اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ فَخَلَوْا فِي نَاحِيَةٍ، فَدَعَا سَعُدٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِذَا لَقِينَا الْقَوْمَ غَدًا فَلَقِّنِي رَجُلاً شَدِيدًا بَأْسُهُ، شَدِيدًا حَرْدُهُ، أُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ ارْزُقْنِي الظَّفَرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ، قَالَ: فَأَمَّنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي غَدًا رَجُلاً شَدِيدًا بَأْسُهُ، شَدِيدًا حَرْدُهُ، فَأُقَاتِلُهُ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ يَأْخُذُنِي فَيَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنَيَّ، فَإِذَا لَقِيتُكَ غَدًا، قُلْتَ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فِيمَ جُدِعَ أَنْفُكَ وَأُذُنَاكَ؟، فَأَقُولُ: فِيكَ وَفِي رَسُولِكَ، فَتَقُولُ: صَدَقْتَ .. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: كَانَتْ دَعْوةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ خَيْرًا مِنْ دَعْوَتِي، لَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ وَإِنَّ أُذُنَهُ وَأَنْفَهُ لَمُعَلَّقٌ فِي خَيْطٍ.
فرضيَ اللهُ تعالى عنهم، كُتبَتْ لهم منزلَةُ الشُّهداءِ، وأصابوا ما وعدَهم اللهُ من النَّعيمِ، ومع ذلك لم ينسوا إخوانَهم الصَّحابةَ ومن بعدَهم بالنَّصيحةِ، فَعَنْ ابنِ عباسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 169- 171]".
فيا عبادَ اللهِ .. هؤلاءِ قدَّموا أرواحَهم للهِ تعالى لإعلاءِ هذا الدِّينِ .. فماذا قدَّمنا نحنُ في سبيلِ دِينِنا العظيمِ عملاً ودعوةً وتضحيةً؟
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلاَمَ وَالمُسْلِمِينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، وَتَوَلَّ أَمْرَ المُسْتَضْعَفِينَ المَقْهُورِينَ المَظْلُومِينَ فِي جَمِيعِ بِلاَدِ المُسْلِمِينَ، فَإِنَّكَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيِلُ ..
اللَّهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْهُدَى أَمْرَنا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنا، وَألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنا، وَاجْعَلْ قُلُوبَنا كَقُلُوبِ خِيَارِنا، وَاهْدِنا سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَأخْرِجْنا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَاصْرِفْ عَنّا الْفَوَاحِشَ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ..
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ حَفِظَكَ فَحَفِظْتَهُ، وَمِمَّنْ اسْتَنْصَرَكَ فَنَصَرْتَهُ، وَمِمَّنْ اسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ، وَمِمَّنْ اسْتَغْفَرَكَ فَغَفَرْتَ لَهُ، وَمِمَّنْ دَعَاكَ فَأَجَبْتَ دُعَاءَهُ، وَمِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ ..
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ نَصْرَكَ القَرِيبَ لِلمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِكَ في كُلِّ مَكانٍ يَا رَبَّ العالَمِينَ.