الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
وقد نال الشيطان من خلال هذا المسلك كثيرًا من مُراده ومبتغاه حين أسلم له بعض الناس العنان، فانساقوا خلفَ هذا المرض القلبي الفتاك. فشحن إبليس قلوب بعض الأبناء على الآباء والأمهات. وشحن قلوب بعض الإخوة والأخوات، والأزواج والزوجات، وأبناء العمومة على بعضهم.. غير ما يبثه بين عموم المسلمين من ضغينة وشحناء حتى أمسيت ترى فئامًا من المسلمين قد تباغضوا وتقاطعوا وتدابروا وتقاضوا في المحاكم على لعاعة من الدنيا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.. تجد أحدهم قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه، وجحظت عيناه، قد تطاير البغض والحنق من عينيه ليس على كافر محارب تعدى على دين الله، ولكن على أخيه من أبيه وأمه؛ من أجل خلاف مالي أو دونه...
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الإخوة: في الصحيح عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ, فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ, إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ" (رواه ابن ماجه وغيره، وصححه الألباني).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" (رواه مسلم وغيره).
أحبتي: وقفت متأملاً للمعنى العظيم الذي نهى عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.. فطال بي العجب.!!
ألهذا الحد تفعل الشحناء بالمتشاحنين..!! وتؤثر عليهم..
سبحانك ربي ما أعظمك! سبحانك ربي ما أكرمك! ألهذا الحد يصل أثر الشحناء على الأمة..!! ألهذا الحد تفعل الشحناء بالإنسان فعلها؟!
حقٌ علينا جميعاً أن نتعرف على هذا الداء الدوي لنتجنبه.. حق علينا أن نتعرف على أسبابه وآثاره المدمرة.. حق علينا أن نبحث عن السبل الناجعة للتخلص منه.. فالشحناء هي: العداوة والبغضاء.. وقيل: "الشحن: أيّ عداوة تملأ القلب".
أيها الإخوة: أسباب الشحناء كثيرة نذكر منها: تحريش الشيطان بين المؤمنين، فقد قال الله سبحانه: (وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء:53]، وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم عن جابرٍ -رضي الله عنه-).
وقوله: "ولكن في التحريش بينهم" أي: ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها.
وقد نال من خلال هذا المسلك كثيرًا من مُراده ومبتغاه حين أسلم له بعض الناس العنان، فانساقوا خلفَ هذا المرض القلبي الفتاك. فشحن إبليس قلوب بعض الأبناء على الآباء والأمهات. وشحن قلوب بعض الإخوة والأخوات والأزواج والزوجات، وأبناء العمومة على بعضهم.. غير ما يبثه بين عموم المسلمين من ضغينة وشحناء حتى أمسيت ترى فئامًا من المسلمين قد تباغضوا وتقاطعوا وتدابروا وتقاضوا في المحاكم على لعاعة من الدنيا، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
تجد أحدهم قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه، وجحظت عيناه، قد تطاير البغض والحنق من عينيه ليس على كافر محارب تعدى على دين الله، ولكن على أخيه من أبيه وأمه؛ من أجل خلاف مالي أو دونه..
ومن أسباب الشحناء: الغضب، فإن الإنسان إذا عجز عن إخراج غضبه رجع إلى باطنه فصار حقدًا وغلاً، ولذلك أوصى النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجلَ بأن لا يغضب، فردد مرارًا فأوصاه بهذه الوصية العظيمة.
من أسبابها: الحسد، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ". (رواه الترمذي وصححه الألباني). والحسدُ هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو مرضٌ من أخطر أمراض القلوب.
ومن أسباب التشاحن والغلّ بين الناس: الهوى والجدال والتعصّب للرأي، فمتى ما تحول النقاش وطلب الحق إلى جدالٍ مذموم وتعصبٍ للرأي؛ صار الجدال طلباً لتحقيق الرغبات والانتصارات الشخصية، فسينتج عن هذا الجدال حقد وشحناء وبغضاء على من خالفه في رأيه؛ لأن الوصولَ إلى الحق لم يكن الدافع في هذا النقاش الذي دار بينهما. ولذلك ضمن له رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيتاً في الجنة لمن ترك الجدل، فقال: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا" (رواه أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-).
ومن الأسباب كذلك: التنافسُ على الدنيا وحطامها، فإنها ترهِق أصحابها المتنافسين في طلبها، وتورث التشاحن والعداوات فيما بينهم، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ذاتَ يومٍ لأصحابِه: "إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟" قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.. (الحديث رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما-).
ومن الأسباب كذلك النجوى وكثرة المزَاحُ، وقد أخبر الله سبحانه أن النجوى من الشيطان، والنجوى أن يتحادث اثنان دون الثالث، وليس في المجلس سواهم، فهذا مما يوغر الصدور، ويحرّش بين الناس، كما جاء في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الإخوة: أما الآثار التي تترتّب على الشحناء. فمن أهمها التفرق والضعف والهوان، وقد بيّن لنا ربنا ذلك في قوله: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46].
من آثارها الوعيدُ بسوء الخاتمة في حقّ من كان قلبُه يحمل الغلَّ والحسدَ والبغضاء على إخوانه، وقد قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ". (رواه أبو داود وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
ومن آثار التشاحن كذلك ما يقع في القلب من الأذى والهمّ والغمّ والعذاب الذي يتلظّى به صاحبُ الشحناء والبغضاء، ولذلك كان من نعيم أهل الجنة أن نزع الله من صدور أهلها من الغل، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
ومن آثار الشحناء: الغيبةُ والنميمةُ وتتبُّع الزلات والهمز واللمز، فقلّما تجد من يحمل في قلبه شحناءَ على مسلم إلا وسعى في كل مجلسٍ إلى عيْبه وهمزه ولمزه وتنقُّصه، بل ربما وقع في الكذب في بعض الأحيان وفي الظلم وتجاوز الحدّ.. وفي المقابل تجده يغفل عن عيوب نفسه وأخطائها.
ومن آثارها: تأخيرُ مغفرة الذنوب، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" (رواه مسلم وغيره).
ما أعظمها من فاجعة يغفر الله لجميع المسلمين.. ويُنْظَر المتشاحنون..!! تخيل نفسك أيها المشاحن في جمع من الناس تنتظر عطاء أو قضاء حاجة في يوم الاثنين؛ فتقضى حوائج الحضور، ويقال لك راجعنا يوم الخميس.. وهكذا كلما حضرت لحاجتك تؤجل بين اثنين وخميس، وإذا تم عام وجاءت الهبات الكبيرة والأعطيات الجزلة ليلة النصف من شعبان قيل لك راجعنا العام القادم.. وهكذا حالك مرتين بالأسبوع ومرة كل عام تغدو وتروح دون أن تحقق مصلحتك التي تريد..!! كم من المسلمين اليوم مع الأسف هذه حالهم في كل مجتمعاتهم..
فيا من يروم مغفرة الله ورضوانه والدخول لجنته أخرج الشحناء والعداوة الآن من قلبك.. الآن قبل أن تتجاوز عتبة باب المسجد بل قبل أن تقوم لصلاتك..
ولك أن ندعو الله الآن أن يسلّ سخيمة قلبك، ويزيل عنه الشحناء فنحن بساعة إجابة، واعزم على حل مشكلتك وتنازل عن حقك الذي تراه أو بعضه في سبيل مغفرة ذنبك.. ألا تحب أن يغفر الله لك.. هيا بادر الآن لا تؤجل لا تتردد.. والله إني لك من الناصحين.. ادعوا الله الآن بقلوب صادقة راغبة راهبة: اللهم اسلل سخيمة قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا من الحقد والغل والشحناء والبغضاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: أما كيفية سلامة الصدور وعلاجها من هذا الداء فإن أعظم دواء لذلك إخلاصُ العمل لله -عز وجل-، بأن يكون المقصد هو وجهه –سبحانه-، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ ولَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ" (رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني). أي: هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم.
ومن العلاج كذلك: ملازمةُ الدعاء وسؤال الله -عز وجل- أن يطهِّر القلبَ من هذا المرض، يقول –سبحانه- مبينًا حال المؤمنين الممتَدَحين: (وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ آمَنُواْ) [الحشر:10]، وقد جاء في دعائه : "واسْلُل سخيمةَ قلبي"، وقال سبحانه: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36].
ومن العلاج: حُسنُ الظن بالأخ المسلم، وإعذار المخطئ من الناس، فإن المسلمَ حين يحمل إخوانه على مبدأ حسن الظن ويعذرهم إذا أخطئوا فإن قلبه يبقى سالمًا له من الغلّ والشحناء.
ومن العلاج كذلك: صيامُ ثلاثة أيام من كلّ شهر، فقد قال: "أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ" (رواه النسائي وصححه الألباني).
ومن العلاج: الهديةُ وإفشاء السلام، وقد جاء في الحديث: "تهادَوا تحابّوا"، وقوله: "أفشوا السلام بينكم".
والصدقة كذلك والكلمة الطيبة من العلاج لهذا المرض، يقول سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103]، ويقول سبحانه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53].